الاحدثالملف العربي الصيني

خمسون لبنان والصين (الجزء التاسع عشر): دروس من التجربة التنموية الصينية | بقلم د. ماري حبيب

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

مرت علينا منذ أيام الذكرى الخمسون لإقامة العلاقات الرسمية بين جمهوريتي لبنان والصين الشعبية. خطر ببالي أن الكثير قيل وسيقال عن خيارات لبنان الاستراتجية وهو يواجه أصعب أزمة اقتصادية عصفت به منذ نشأته. في الواقع ان هذا الموضوع اكتسب زخمًا مؤخرًا في سياق الحديث عن ضرورة الاستدارة (وان جزئيا) نحو الشرق وعن الفرص السانحة للاستفادة من العروض الصينية الجذابة في مجالات استثمارية عدة في البنية التحتية (طاقة، وسائل نقل، الخ) والتي تدخل في حيز مبادرة الحزام والطريق الصينية.

هذا ناهيك عن الفرص التصديرية الواعدة التي يمكن الاستفادة منها عبر اتفاقيات الشراكة القائمة حاليا والممكنة مستقبلا، وخاصة بالنظر الى ضخامة السوق الاستهلاكية الصينية.

لذلك، ولكي لا نقع في التكرار، أحببت في هذه المساهمة المقتضبة أن أتناول جانب آخر من العلاقات الاقتصادية بين البلدين إلا وهو جانب الدروس والعبر. ماذا يمكن أن يتعلم لبنان من تجربة الصين الاقتصادية والتنموية الرائدة؟ لبنان الذي يقف اليوم على مفترق طرق سياسي دفع الكثير من المحللين أن يطلقوا على هذا المخاض العسير توصيف الجمهورية الثالثة، يقف أيضًا وبشكل مباشر على مفترق طرق اقتصادي يقتضي إعادة بناء النظام الذي نطمح كقوى تغييرية إليه: نظام منتج، ديمقراطي، شمولي، عادل. ما هي بعض الدروس التي يمكن أن نستقيها من هذه الدولة الصديقة؟ كيف لنا ان نتعلم من تجربتهم؟

الدرس الأول: لا الإستعمار ولا الإحتلال يمنع أي دولة من أن تعتمد على نفسها أو حتى أن تصبح قوة اقتصادية عظمى.

الصين استعمرت لعقود وقرون- بدءًا من المونغوليين في القرون الوسطى وانتهاءًا بالاستعمار البريطاني لهون كونغ والذي أسدل الستار عنه منذ بضع سنوات، مرورًا بالاحتلال الياباني خلال ثلاثينيات واربعينيات القرن العشرين وسواها من التعديات.

التاريخ مليء بشواهد على استعمارات تسلب الشعوب من كرامتها وعزتها و هويتها، واحيانا ثقتها بنفسها. ولكن الاستعمارات المتعاقبة لم تمنع الصين من الانتصار على المستعمرين ومن ثم التفوق عليهم اقتصاديًا وثقافيًا وتكنولوجيًا.

بالمقابل لبنان استعمر واحتل على مر السنوات قبل وبعد الاستقلال الرسمي في 1943. أنجزنا الإستقلال ومن ثم حررنا الأرض. لماذا نستمر بهذه التبعية السياسية والاقتصادية وحتى الثقافية؟ لماذا نرتضي بان يمعن الآخرون بسلبنا حقنا في تقرير المصير بالفعل وليس بالقول؟ متى ننعتق من هذا الانصياع شبه التام للوصايات الخارجية في كافة المجالات؟

الدرس الثاني: يمكن لاي دولة ان تشق طريقها الخاص المستقل أكان بالسياسة او الاقتصاد او التنمية دون الحاحة للجوء الى نماذج مستوردة ومعلبة وجاهزة للتطبيق.

بعد انشاء جمهورية الصين الشعبية عام 1949 وحتى اليوم هي دولة ذات حكم الحزب الواحد. في البدء انطوت تحت لواء الشيوعية الخالصة ولكن لاحقا ابتدعت نموذجها الخاص بما اصبح يعرف بنظام الاشتراكية ذات “الخصائص الصينية”.

يعرف هذا النظام بكونه اقتصاد سوق اشتراكي ولكنه في الواقع لا يشبه اي نظام اشتراكي او ليبرالي او راسمالي اخر في العالم. هو نظام فريد من نوعه “صنع في الصين” ليستجيب للاحتياجات الصينية وتطلعات وخيارات الصينيين تحت الادارة الرشيدة لحزب شيوعي وحيد ولكن غير مستبد (كما جرت عادة الاحزاب الشيوعية في سواها من الدول).

نحن في لبنان لا تنقصنا الإمكانيات العلمية ولا الطاقات المبدعة ولا الكوادر المتخصصة كي نصوغ برنامج ونضع خطط لاقتصاد منتج مرتكز أولًا وأساسًا على قدراتنا الذاتية ومواردنا الفريدة ورأسمالنا البشري الكبير. مثل هكذا برنامج لن يكون “اشتراكيًا” او “رأسماليًا”، أو “غربيًا” او “شرقيًا”. كما انه لن يكون بالضرورة مبني على البرامج الكلاسيكية التي يسقطها صندوق النقد الدولي على الدول المتعثرة (حتى لو افضى الوضع الحالي الى التفاوض والاتفاق مع هذا الصندوق). ما نحن بحاجة له هو برنامج تنموي بخصائص “لبنانية” على غرار الاشتراكية ذات الخصائص الصينية التي اعتمدها العملاق الصيني.

الدرس الثالث: الشركات المملوكة من الدولة State Owned Enterprises (SOE) تلعب دورا رائدا في الاقتصاد الوطني.

هذه الشركات ساهمت بشكل اساسي في نمو الاقتصاد الصيني، بل يمكن القول انها كانت احد الروافع المركزية لهذا النمو، ولا تزال لليوم تحتل حيزًا هامًا من “المعجزة الصينية”. على سبيل المثال في لائحة “Global Fortune 500” العام الماضي، والتي تعدد كبرى الشركات العالمية، هناك 83 شركة قطاع عام (SOE) صينية، من بينها 4 تحتل مراتب متقدمة ضمن العشرة الاول. ومن ناحية الربحية والتنافسية احتلت ثلاث شركات صينية من شركات القطاع العام مراتب متقدمة في ال top 10 بينما ظهرت 74 شركة من هذه الشركات اجمالا ضمن لائحة ال 500 الاول على معيار الربحية. اذن شركات القطاع العام ليست فاشلة او اقل انتاجية كما يسوق معظم دعاة المدرسة النيوليبرالية. في الصين الشعبية هذه الشركات لا ينقصها شي من الابتكار والدينامية الامر الذي سمح لها ان تتطور وتنمو بشكل مطرد بموازاة شركات القطاع الخاص. وهي موجودة في كافة القطاعات: مصارف، شركات تكنولوجيا، صناعات دوائية، صناعات تحويلية، الخ. (واحداها بالمناسبة شركة Sinopharm المصنعة للقاح covid 19).

في لبنان يصر البعض على خصخصة شركات القطاع العام من كهرباء وماء وهاتف وغيرها من المرافق الحيوية كممر إلزامي لمعالجة الأزمة الاقتصادية الحالية. حتى ان عددًا من المحللين اعتبر منذ بدء الأزمة أن هذه القطاعات بطبيعتها مهترءة وعرضة للفساد بحكم سيطرة الدولة عليها. قد يكون ذلك صحيحا في الحالة اللبنانية. ولكن الالحاح على الخصخصة هو شعار الحق الذي يراد به باطل. الحل ليس بنقل هذه القطاعات الى طبقة ال 1% من الاثرياء والنافذين لان المشكلة اساسا لا تكمن بملكية هذه الشركات بل باسلوب ومنهجية ادارتها. وهذه بالتأكيد ليست عصية عن الحل بل من الممكن جدا ان تتحسن وتضبط من خلال رزمة من الاصلاحات العملية والقابلة للتطبيق. العبرة المستخلصة هنا انه قبل الاسراع الى الخصخصة ينبغي اولا ان يسأل صانعوا القرار عن اسباب تعثر هذه الشركات (شركة الكهرباء مثلا). وبعدها نعكف على تعزيز اداراتها وتدعيمها بالموارد البشرية والمالية والتقنية المطلوبة لانقاذها وتحسين اداءها.

الدرس الرابع: الأمة التي تفتخر بصناعاتها وماركاتها الوطنية تملك مفاتيح النجاح في التبادلات والعلاقات التجارية العالمية.

من اللافت للنظر كم يسعى الصينيون دوما الى الاستقلالية والانفراد. قد يكون الامر عسيرا بالنسبة لدولة صغيرة مثل لبنان ولكن من المؤكد ان هذا درس للمستقبل. في الصين مثلا لا يستعملون غوغل بل Baidu. بدل اليوتيوب هناك YouKu. بدل الـ Twitter هناك Weibo. منذ سنوات عدة حجبت الحكومة الصينية مواقع فايسبوك ويوتيوب وتويتر لاسباب متعلقة بعدم التزام هذه الشركات ببعض القوانين المحلية. هذا هو السبب الرسمي الذي اعلنته الحكومة انذاك ولكن السبب الفعلي هو الترويج للبدائل الصينية وتشجيعها.

في الصين ايضا يفضل الشعب اجمالا استهلاك البضاعة المحلية الصنع والماركات الوطنية من السيارات الى الالكترونيات الى الالبسة والصناعات الاخرى. يساعد في ذلك دون ادنى شك وجود سوق محلي صخم ومرن وقابل على الاستيعاب. لبنان يمكن ان يستفيد من هذا النموذج وان بدرجة اقل نظرا الى المعيقات الموضوعية. في لبنان العديد من الماركات والسلع المحلية الصنع. وان علمتنا تجربة السنتين الماضيتين شيئا فهو ان الصناعة اللبنانية ليست بلا امل ولا بدون افق. بل على العكس هناك قطاعات اظهرت مرونة عالية في التكيف مع هذه الخضة الناتجة عن انهيار العملة واثبتت ان المنتج اللبناني يستطيع الحلول مكان المستورد الاجنبي وبستطيع تجاوزه في بعض الاحيان (وازمة الدواء حاليا مثال ساطع وحي على هذه المسألة دون الخوض في التفاصيل). المطلوب هو القرار الصحيح من كل من الحكومة والمجتمع. الحكومة مطالبة باخضاع سلطة التجار والمحتكرين والوكلاء الحصريين للمصلحة الوطنية العامة. ومن ناحيته المجتمع مطالب بتغيير مفهومه للاستهلاك من الادمان على بريق ال brand الاجنبي الى الافتخار والثقة بالصناعة الوطنية.

تجربة الصين (وغيرها من الدول الناشئة حديثا) تعلمنا ان لا تطور ونمو اقتصادي من دون صناعة. ولا صناعة بدون طلب. ولا طلب بدون السياسات الاقتصادية التي تشجع عليه والوعي المجتمعي الذي يتبناه.

في الختام ان كل ما سبق هو غيض من فيض من الدروس والعبر التي يمكن ان تلهمنا نحن كاقتصاديين وان تشجع صناع القرار على اجتراح الحلول الناجعة للازمة اللبنانية. العلاقات اللبنانية الصينية التي نحتفل بيوبيلها الذهبي اليوم والتي شهدت تطورا ملحوظا في العقدين المنصرمين لا بد وان ينتج عنها يوما ما هو اعلى وارفع من مجرد علاقات. نحن نأمل ان تتحول العلاقات الى شراكة والشراكة الى تحالف والتحالف الى صداقة راسخة ومتينة. الصديق الوفي يعلم صديقه ويتعلم منه. فالى مزيد من الشراكة والتحالف والصداقة بين لبنان والصين.

لمتابعة باقي أجزاء السلسلة : اضغط هنا

د. ماري حبيب

استاذة في الاقتصاد في الجامعة اللبنانية الاميركية. اكملت دراستها الجامعية في الولايات المتحدة الاميركية وعملت هناك في القطاع الخاص والتدريس الجامعي. تشغل عضوية الهيئة القيادية في الجمعية العربية الصينية للتعاون والتنمية منذ تأسيسها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى