نحو مراجعة إسلامية شاملة: كيف نستعيد القيم الإنسانية العليا؟ | بقلم قاسم قصير
في ظل التطورات المتسارعة في العالم العربي والإسلامي، نشهد المزيد من الدعوات الفكرية والعلمية من أجل إجراء مراجعة شاملة لأهداف المشروع الإسلامي والآليات التي توصل إليها، والخطاب المطلوب في المرحلة المقبلة.
فما واجهته وتواجهه الحركات الإسلامية في الدول العربية خلال السنوات الأخيرة ولا سيما بعد الربيع العربي والثورات الشعبية ونتائجها المدمرة، وما يجري اليوم في الجمهورية الإسلامية الإيرانية من تحديات فكرية واجتماعية وسياسية وأمنية، إضافة لما يجري في العالم من أحداث وتغيرات تتطلب رؤية فكرية واستراتيجية جديدة من قبل المفكرين المسلمين والقيادات الإسلامية، كل ذلك دفع العديد من الباحثين والمفكرين وطلاب الدراسات العليا والدكتوراة في الجامعات العربية والإسلامية لطرح أسئلة جديدة ومشاريع جديدة حول دور الحركات الإسلامية في هذه المرحلة، وعلاقة الدين بالنزعات الإنسانية والفكر الإنساني والقيم الإنسانية العليا، إضافة إلى إعادة قراءة نقدية لما كانت تطرحه الحركات الإسلامية من أهداف ومشاريع في العقود الأخيرة.
أسئلة جديدة ومشاريع جديدة حول دور الحركات الإسلامية في هذه المرحلة، وعلاقة الدين بالنزعات الإنسانية والفكر الإنساني والقيم الإنسانية العليا، إضافة إلى إعادة قراءة نقدية لما كانت تطرحه الحركات الإسلامية من أهداف ومشاريع في العقود الأخيرة
وقد شهدنا خلال السنتين الأخيرتين العديد من المحاولات الفكرية لإعادة قراءة دور الدين في الحياة ومقاصد الدين وعلاقته باستخلاف الله للإنسان، وكيفية تجسيد الأهداف الإسلامية برؤية إنسانية شاملة.
وفي هذا الإطار من المراجعات الفكرية، صدر مؤخرا في بيروت للباحث والمفكر الدكتور حسن جابر كتاب جديد بعنوان: “الدين والقيم الإنسانية العليا: مقاربة قرآنية لوظيفة الدين”. والكتاب صدر عن دار الحوار ودار الأمير، وجرى إطلاقه مؤخرا خلال معرض الكتاب العربي والدولي في بيروت.
والدكتور حسن جابر من المفكرين الإسلاميين الذين واكبوا الحركة الإسلامية في لبنان منذ حوالي خمسين سنة، من خلال دوره التأسيسي في الاتحاد اللبناني للطلبة المسلمين واللجان الإسلامية وتوليه رئاسة تحرير مجلة المنطلق؛ إحدى أهم المجلات الفكرية الإسلامية في لبنان والتي برزت في العقود الأخيرة من القرن الماضي، ومن ثم عمل في إطار مشروع مقاصد الشريعة بالتعاون مع عدد من المفكرين والباحثين في العالم العربي والإسلامي، وصدر له العديد من الكتب التاريخية والفكرية.
وتبدو أهمية الإشكاليات التي يثيرها الدكتور جابر من خلال الإهداء الذي بدأه في مقدمة الكتاب وجاء فيه: “إلى التواقين للمعرفة، إلى كل ضحايا العنف باسم الدين والتديّن، إلى كل الذين ساقهم التقليد الأعمى إلى بؤرة الأوهام، إلى كل من يتمرد على الواقع المعرفي فيطلق أحكاما مبتسرة لا قرار لها، إلى كل هؤلاء أهدي سِفري المتواضع”.
وحول خلفية الكتاب وعلاقته بالوعي المقاصدي يقول جابر: هذا الكتاب هو ثمرة جهد دؤوب تبرعم فيه الوعي المقاصدي في تسعينات القرن الماضي. والوعي المقاصدي خلافا لما يتوهمه البعض، هو وعي متحفز للمزيد من النضج، فلا يني يتسع مع الأيام والسنين، وهو واعد يشي بالمزيد من التفتح.
وأما عن الأسباب التي دفعته للكتابة فيقول: إن انفجار الساحات العربية في العقد الأخير وتصدر الخطاب الإسلامي للمشهد، فضلا عن البلبلة التي أحدثتها فوضى الفتاوى والمواقف أبان عن اختلال كبير في المفاهيم والتصورات، وكان يظن إلى عشية الأحداث أنها من الثوابت التي فرغ من صوغها المسلمون الأوائل، وتبين أننا بحاجة لإعادة التفكير بها من جديد.
وفي هذا الكتاب من الحجم الصغير والعدد القليل من الصفحات (140 صفحة) يعيد الدكتور جابر التفكير في كل الأولويات والأهداف الإسلامية انطلاقا من فهم جديد للنص القرآني، ومن خلال علاقة النص بالواقع القائم اليوم والتحديات التي يواجهها الإنسان في كافة المجالات، ويربط بين فهم النص القرآني والفطرة والضمير الإنساني.
وأما الموضوعات الأساسية التي يتناولها الكتاب وفق رؤية جديدة فهي: المقاصد القرآنية ومشروع أن يكون الإنسان هو هو، ومقاصد الدعوة النبوية، وخطاب القتال في القرآن، وتحدي الردة بين حرية المعتقد وضرورات حماية الجماعة.
ورغم أن هذه العناوين قد تكون عولجت في العديد من الكتب والدراسات والأبحاث والمشاريع الإسلامية طيلة قرون سابقة، فإن الباحث الدكتور حسن جابر يحاول في كتابه أن يقدّم رؤية جديدة ونقدية لما سبق، والهدف الأساسي إعادة ربط الدين بشكل عام، والدين الإسلامي خاصة، بالقيم الإنسانية العليا التي يحتاجها الإنسان اليوم وأهمها: التوحيد، وقيمة الحق، والرحمة، والإبداع، والحكمة، والصبر، والفطرة والضمير.
وعلى ضوء ذلك يحدد دور الإنسان اليوم في العالم المعاصر في مواجهة مختلف التحديات والعوائق التي تمنعه من الوصول إلى الحقيقة والكمال، ومنها: الهوى، والعصبيات الحزبية والطائفية والمذهبية، والسلطة، وتقليد الآباء، ونزعة الهيمنة والطغيان.
ومن خلال إعادة قراءة أهداف الدعوة النبوية وخطاب القتال في القرآن والبحث مجددا في إشكالية الردة والتكفير، يصل الدكتور جابر إلى خلاصات محددة ومنها: الأبحاث التي تضمنها الكتاب تتسم بالترابط والتوالي؛ بهدف بناء عمارة فكرية جديدة تحدد أهداف الإيمان في الحياة وكيفية بناء الإنسان الكامل، وعلى أمل أن تشكل إضافة نوعية تحدث فرقا في الواقع القائم ووسط القراءات الكثيرة التي أنجزتها أجيال متعاقبة من المفسرين والفقهاء والمفكرين.
هذه المحاولة الفكرية الجديدة، تضاف إلى غيرها من المحاولات الفكرية التي شهدناها في السنوات الأخيرة لمراجعة المشروع الإسلامي وأهدافه ومن أجل الخروج من الشرنقة التي دخلنا فيها، حيث أصبحت السلطة الهدف الأساسي للحركات الإسلامية، وأصبح الصراع المذهبي والطائفي هو الغالب، كما تحول العاملون في الحركات الإسلامية إلى حاملي سيوف وقضاة في محاكم فكرية وواقعية يحاكمون فيها أصحاب النظريات الأخرى، وابتعد الجميع عن جوهر الدين الحقيقي وهدف استخلاف الله للإنسان في هذا الكون وهو بناء الكون وإعماره.
والأهم من كل ذلك أن تشكل هذه المحاولة الجديدة مدخلا لمراجعات فكرية وسياسية جديدة تخرج العالم العربي والإسلامي من أزماته المختلفة اليوم، وتعيد للدين عامة وللإسلام بشكل خاص دوره الحضاري لإنقاذ الكون من أزماته الكبرى.