لا جوابَ لدى الغربِ بَعد عن “المسألة الروسية” | بقلم غابي طبراني
من منظورِ الدولِ الغربية، كانَ تاريخُ السياسة الدولية عبارةً عن سلسلةٍ طويلة من الأسئلة. أحدها كان يتعلّقُ ب”مسألة البلقان”، التي كانت منذ أوائل القرن العشرين تُشيرُ إلى الكيفية والوسائل التي يُمكنُ بها ضمانُ السلام الدائم في تلك المنطقة. وكان هناكَ سؤالٌ آخر مرتبطٌ استَهلَكَ القرن العشرين حول “المسألة الألمانية”، أو كيفية ضمان أمن أوروبا مع وجود ألمانيا الموحَّدة في قلبها. وهناك سؤالٌ ثالث يتعلّق ب”المسألة الفلسطينية”، التي تُمثّلُ اختصارًا إيجاد صيغةٍ تُمَكِّنُ الشعبَ الفلسطيني من إقامةِ دولته القومية إلى جانب دولة إسرائيل اليهودية.
لكن، هناكَ سؤالٌ آخر كان مُربكًا بالقدر عينه لصنّاع السياسة الخارجية الغربيين وهو يتعلّقُ بـ”المسألة الروسية”.
إنَّ السؤالَ حولَ ما إذا كان الغرب وروسيا يمكنهما التعايُش السلمي هو سؤالٌ وثيق الصلة اليوم، وبالنسبة إلى العديد من المراقبين، فإنَّ الإجابة هي “لا” حاسمة. لقد كشفت الحربُ الدائرة في أوكرانيا عن الاحتكاكات بين المُعسكرَين، وأكّدت أنَّ روسيا ليست مُهتمّة بالمشاركة الكاملة في النظام الدولي الذي يقوده الغرب، سواء كان “قائمًا على القواعد” أو غير ذلك.
إذا نظرنا إلى الأمر من منظورٍ أطول أو أوسع، فسوفَ يتبيّنُ لنا أنَّ الثابتَ الوحيد في السياسة الدولية على مدى المئتي سنة الماضية وأكثر هو أنَّ الدولَ الغربية كانت تَنظُرُ إلى روسيا باعتبارها دولةً خارجية وتهديدًا، في حين كانت روسيا تَنظُرُ إلى الغرب باعتباره يسعى إلى إحباطِ مكانتها على الساحة العالمية، بل ويُشكّلُ في بعض الأحيان خطرًا وجوديًا. وهذا مثالٌ كلاسيكي على كيفَ يُمكِنُ للتصوّرات الخاطئة أن تُغذّي الصراعات.
منذُ صعودها إلى صفوف القوى العظمى في أوائل القرن التاسع عشر، كانت روسيا تُصَوَّرُ منذُ فترةٍ طويلةٍ في الغرب باعتبارها “الثقل” المُعادي للسياسة الدولية، والدولة التي كانت المصالح العالمية الغربية تُعارضها. في القرن التاسع عشر، انخرطت بريطانيا في “اللعبة الكبرى” ضد روسيا في آسيا الوسطى. وفي أوائل القرن العشرين، سعت ألمانيا إلى مواجهة الهيمنة الروسية على أوروبا الشرقية. وفي النصف الثاني من القرن العشرين، قادت الولايات المتحدة التحالف الغربي الذي انخرطَ في الحرب الباردة مع روسيا السوفياتية.
في الفترة القصيرة التي أعقبت سقوط الاتحاد السوفياتي، عندما لم تَعُد روسيا تُشَكِّلُ تهديدًا للمصالح الغربية، أعلن الخبراء على نحوٍ سافرٍ أنَّ نهايةَ الحرب الباردة كانت في واقع الأمر إيذانًا بنهاية التاريخ. لكن مع الغزو الروسي لجورجيا في العام 2008، عادت التوترات بين روسيا والغرب ــومعها المسألة الروسيةــ بقوة.
لكن ما هو الجواب عن المسألة الروسية، غير المطالبة ببساطة بأن “تتوقَّف” روسيا تحت قيادة الرئيس فلاديمير بوتين عن انتهاكِ القانون الدولي وغزو جيرانها؟ هل من المُمكِن أن تتعايش روسيا والغرب على مضض، بل وأن يُؤسّسا ما أسماه خبير العلوم السياسية وباحث الصراعات النروجي يوهان غالتونغ “سلامًا إيجابيًا”، أيّ سلامٌ مَبنِيٌّ على الثقة وحتى الاحترام المُتبادَل، مع عدم وجودِ احتمالٍ للصراع العنيف حتى في الاعتبار؟ بعبارةٍ أُخرى، هل من المُمكن أن تُشبهَ العلاقة بين الغرب وروسيا العلاقة بين الولايات المتحدة وكندا أو حتى “العلاقة الخاصة” بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة؟
والمثالُ الأخير مُفيد. ففي حين أنَّ الدولتين تربطهما علاقة خاصة اليوم، لم يكن هذا هو الحال دائمًا. ففي الفترة التي أعقبت استقلال الولايات المتحدة في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، خاضت الولايات المتحدة وبريطانيا حربَين رئيسيتين. وعلى مدارِ القرن التاسع عشر، استمرَّ عدمُ الثقة بينهما. عندما اندلعت الحرب الأهلية الأميركية في العام 1861، خشيت إدارة الرئيس أبراهام لينكولن آنذاك أن يُحاولَ البريطانيون استغلالَ الموقف لإضعافِ الأُمّة بشكلٍ دائم من خلال الاعتراف بالاتحاد الجنوبي. وحتى في أوائل القرن العشرين، استمرت الولايات المتحدة وبريطانيا في النظر إلى بعضهما البعض بحذر باعتبارهما خصمَين بحريين.
لكنَّ العلاقةَ تغيّرت في نهاية المطاف. فقد حاربت الولايات المتحدة إلى جانب البريطانيين في الحرب العالمية الأولى ثم مرة أخرى في الحرب العالمية الثانية. وخلال الأخيرة نشأت “العلاقة الخاصة” بين ونستون تشرشل وفرانكلين روزفلت. لكن هذا يرجع إلى حدٍّ كبير إلى أنَّ البريطانيين أدركوا أخيرًا أنهم لم يعودوا منافسين للولايات المتحدة وقبلوا أن يكونوا الشريك الأصغر في العلاقة. وعلى هذا فإنَّ العلاقة الثُنائية الحالية خاصة، لكنها ليست شراكة بين أنداد، سواء كانت حقيقية أو مُتَصَوَّرة.
إذا استخدمنا العلاقة بين الولايات المتحدة وبريطانيا كنموذج، فإنَّ الدرسَ المُستفاد هو أنَّ تطويرَ سلامٍ إيجابي، حتى لو لم يكن على مستوى العلاقة الخاصة، بالنسبة إلى روسيا والولايات المتحدة، أو الغرب بشكلٍ عام، من المرجّح أن يتطلّبَ ألّا تكونُ علاقةً بين أنداد. سوف يحتاجُ أحد الجانبين إلى قبول كونه الشريك الأصغر للجانب الآخر. ولم يكن هذا مرجَّحًا قط، وهو مُستبعَدٌ بشكلٍ خاص الآن.
إنَّ روسيا أصبحت مُعادية للولايات المتحدة إلى الحدِّ الذي جعلها على استعدادٍ لقبولِ دور الشريك الأصغر في علاقتها مع الصين. وبما أنَّ الولايات المتحدة والغرب لا يثقان في الطموحات العالمية النهائية للصين، ويشتبهان في أنها تسعى، مثل روسيا، إلى قلب النظام الذي هَيمَنَ عليه الغرب على مدى القرنين الماضيين، فمن غير المرجح أن يؤدّي تقاربُ روسيا مع الصين إلى تيسيرِ إقامةِ سلامٍ إيجابي مع الغرب.
قد يزعمُ البعض أنَّ هذا يُبالغ في تقدير الطبيعة الأساسية للتوترات بين الولايات المتحدة وروسيا. وعلى وجه التحديد، يعتبر هؤلاء التوترات الحالية مع روسيا مجرد “مشكلة بوتين” وليس “مشكلة روسيا”. فخلال تسعينيات القرن العشرين، بدا أنَّ الرئيس الأميركي آنذاك بِيل كلينتون ونظيره الروسي بوريس يلتسين قد أقاما صداقةً حقيقية ساعدت على ترسيخِ الروابط بين العدوَّين السابقَين. ووفقًا لهذه الحجة، فإنَّ التوترات الحالية بين روسيا والغرب مدفوعةٌ فقط ببوتين. لكن بعيدًا من كونه شاذًا، فإنَّ بوتين هو ببساطة أحدث زعيم روسي يُجسّدُ الصورة الذاتية التاريخية للبلاد باعتبارها منبوذةً دائمًا.
أما بالنسبة إلى أولئك في الغرب الذين يتمسّكون بالأمل في شخصيةٍ إصلاحية أخرى مثل ميخائيل غورباتشوف، فمن المهمّ أن نتذكّرَ أنَّ غورباتشوف نفسه كان إصلاحيًا عَرَضيًا. فهو لم يكن راغبًا في إنهاء الشيوعية في الاتحاد السوفياتي أو يسعى إلى ذلك، ناهيك عن التسبّب في انهيار الاتحاد السوفياتي بأكمله. لكن بدلًا من ذلك، سعى إلى تعديل النظام السوفياتي لجعله أكثر استدامة، في حين تراجع عن الالتزامات الهامشية التي كانت تستنزفه. وفي بعض النواحي، شرع في تحقيق ما أنجزته الصين اليوم: إنشاءُ نظامٍ يقومُ في جوهره على المبادئ الماركسية اللينينية، ولكن مع تنشيطه بالحوافز الرأسمالية للتغلُّبِ على التحدّيات الاقتصادية والسياسية.
بطبيعةِ الحال، لا يتطرَّقُ كلُّ هذا النقاش إلّا إلى القضية الأساسية التي تُفرِّقُ بين روسيا والغرب حاليًا: أوكرانيا. بالعودة إلى غزوها لجورجيا، فإنَّ روسيا لديها سجلٌّ حافلٌ بالعدوان العسكري ضد جيرانها الذين يسعون إلى الانحياز إلى الغرب على مدى ما يقرب من عقدين من الزمان. ومن غيرِ المرجح أن تنتهي الحرب الحالية في أوكرانيا قريبًا. لكن حتى عندما تنتهي الحرب الساخنة، فمن المتوقع أن يستمرَّ التوتر الشبيه بالحرب الباردة بين أوكرانيا وروسيا، وبالتالي بين الغرب وروسيا. ومن المرجح أن تظلَّ المسألة الروسية مفتوحة ومن دون جواب.