الاحدثالشرق الاوسط

إذا لم نكن بين اللاعبين في المنطقة فسنكون الكرة التي يلعب بها الكبار..نص محاضرة لم تنشر لمحمد حسنين هيكل.. | إعداد مجدي منصور

هذه المحاضرة اختارها وأخرجها للنشر في ذكرى رحيل الأستاذ محمد حسنين هيكل الكاتب السياسي بموقع الملف الاستراتيجي الأستاذ / مجدي منصور، وهو أحد تلاميذ الأستاذ هيكل.

قصة هذه المحاضرة بقلم : محمد سلماوي

في الذكرى الـ ٩٥ لميلاد الأستاذ محمد حسنين هيكل يسعدني أن أهدى قراءه في مصر والوطن العربي والذين لا شك يفتقدون رؤيته الشاملة وتحليلاته الثاقبة، هذه المحاضرة التي حالت الظروف التى كانت سائدة وقت إلقائها دون أن يتم نشرها في الصحف أو يشار إليها في وسائل الإعلام.
ورغم أن من يقرأ هذا النص الذي ينشر هنا لأول مرة يشعر وكأنه مكتوب اليوم فإنه قد مضى أكثر من ٣٠ عاما منذ كتب هيكل كلماته وقرأها بصوته في واحدة من المرات النادرة التي استضافته فيها نقابة الصحفيين، فتلك كانت عبقرية هيكل التي كانت تجعله يرى محيطات العالم وبحاره في نقطة ماء واحدة، فقد كانت رؤيته تتسع لتشمل العالم بأبعاده المحلية والدولية وهو يتحدث مثلا عن وضع الصحافة في مصر، أو عن ذكرى حرب السويس، كما فعل في هذه المحاضرة حيث انطوت كلماته على تحليلات متعمقة لمكانة مصر ودورها على الساحة الدولية النابعة من تاريخها الفريد وموقعها الجغرافي المتميز، فما أحوجنا اليوم ونحن نخرج من انعزالية العقود الأخيرة من تاريخنا للعودة لأصولنا التاريخية والجغرافية بالتأمل والدراسة كي نمضي قدما في الطريق الصحيح الذى يوصلنا الى المستقبل الذي نتطلع إليه والذى من أجله قامت ثورتا ٢٥ يناير و٣٠ يونيو، وما أحوجنا للاطلاع على رؤية محمد حسنين هيكل لدور الصحافة في هذه المرحلة واتصالها بالوضع السياسي بشكل عام، وما أحوجنا لتذكر ذلك الصمود الشعبي المجيد أمام القوى الكبرى التي شنت علينا الحرب عام ١٩٥٦ والتي انهارت امبراطورياتها الاستعمارية بعد تلك الحرب وبسببها.

إن من يقرأ كلمات هذه المحاضرة يشعر أنه يقرأ واحدة من مقالات «بصراحة» التي ظل هيكل يكتبها من سنة ١٩٥٧ وحتى خروجه من «الأهرام» عام ١٩٧٤، فقد كتبها بأسلوب مقالاته وليس بأسلوب المحاضرات الأكاديمية.

أما قصة هذه المقالة – المحاضرة فتعود الى عام ١٩٨٤ حين شرفني زملائي في المهنة بانتخابي عضوا بمجلس نقابة الصحفيين، وكنت قد فصلت من عملي في «الأهرام» في مذبحة سبتمبر ١٩٨١، وكنت قبلها قد اعتقلت في انتفاضة يناير عام ١٩٧٧، لكن الجماعة الصحفية بالرغم من ذلك – أو ربما بسبب ذلك – رأت أنني جدير بتمثيلها نقابيا وبالتعبير عن مصالحها، فالتزمت بدوري بألا أحيد عن أفكاري التي انتخبني عليها الزملاء بالنقابة، وقمت بعدة أنشطة لم تكن معتادة في ذلك الوقت بعد أن أجمع أعضاء المجلس في أول اجتماع لنا بعد الانتخابات على اختياري رئيسا للجنة الثقافية، وقد اخترت للجنة عددا من أنشط الشباب في ذلك الوقت كان على رأسهم الأخ العزيز مجدي مهنا رحمه الله، وجمال الدين حسين وغيرهما. وكان من أبرز الأنشطة التي قمنا بها ذلك المؤتمر الفكري الكبير الذي أقمناه في ذكرى ثورة يوليو التي لم يكن من المستحب الحديث عنها طوال فترة السبعينيات بعد أن استبدلت بما سمى «ثورة ١٥ مايو»، وقد شارك في المؤتمر بعض أكبر الأسماء على الساحة المصرية والعربية، وكان من أبرزها أيضا الدعوة التى وجهناها إلى الأستاذ هيكل للقاء الصحفيين بالنقابة في حديث تركنا له اختيار موضوعه، بعد أن ظل ممنوعا من الكتابة ومن الظهور في وسائل الإعلام لأكثر من عشر سنوات. كان هيكل قد اعتقل في أحداث سبتمبر ١٩٨١ ثم أفرج عنه الرئيس مبارك بعد أسابيع قليلة من توليه الحكم على أثر اغتيال الرئيس السادات، وساد نوع من الوفاق بين الرجلين لكنه لم يستمر طويلا، بسبب التزام مبارك بنفس سياسات السادات التي كانت سببا في القطيعة بين الرجلين، وسرعان ما عادت الجفوة بين هيكل ورئاسة الجمهورية واعتبر بلغة الدبلوماسية، «شخصاً غير مرغوب فيه» لا يكتب في الصحف ولا تنشر أخباره، لكنا رأينا في اللجنة الثقافية بنقابة الصحفيين أن من حق الصحفيين الالتقاء بهيكل إذا أرادوا والاستماع اليه ومناقشته أيضا، ورأينا أن قرار منع هيكل من الكتابة أو الحديث يجب ألا يلزم الجماعة الصحفية التي ينبغي أن تنفتح على جميع الاتجاهات وتتواصل مع جميع الآراء.

وهكذا كانت المناسبة التى ألقى فيها هيكل هذه المقالة – المحاضرة هي أول ظهور عام له بعد غيبة دامت سنوات، ولم يكن من قبيل المصادفة أن يكون ذلك الظهور بدعوة من أبناء المهنة التي منحها هيكل عمره بكامله والتي ارتقى بها بما أصبحنا نفتخر به اليوم، ويومها اكتظت النقابة بحضور مكثف للصحفيين وغير الصحفيين، واضطررنا لوضع مكبرات للصوت في حديقة النقابة بمبناها القديم حتى يتمكن من لم تتسع لهم القاعة للاستماع الى حديث هيكل.

ولقد رأيت أن يكون يوم ميلاد الأستاذ محمد حسنين هيكل الـ ٩٥ هو المناسبة المثلى للاستماع إلى حديثه الشيق الذي افتقدناه ما يقرب الآن من ثلاث سنوات، وكأن هذه المقالة -المحاضرة التي طلب مني أن أختصرها لدواعي المساحة فاختصرت ٧٠٠ كلمة، لكنها تبقى هديتنا الى ذكراه التي لا تغيب، فمن يقرأها يدرك أن هيكل حي لم يمت، وأن رؤيته الشاملة وآراءه الثاقبة وإن كتبت من أكثر من ٣٠ سنة إلا أنها مازالت أداة نافذة لفهم الواقع وللتطلع للمستقبل.

نص المحاضرة

سعدت إلى أقصى حد بهذه الفرصة التي أتيحت لي اليوم بالمجيء إلى نقابة الصحفيين وبالحديث إليكم ومعكم في إطار أسرتنا الواحدة، والحقيقة أن ما دفعني لقبول هذه الدعوة هو الاحساس بظاهرتين:
الأولى: أن نقابة الصحفيين تحاول ـ أقول تحاول ـ في ظروف صعبة أن تقوم بدورها على المستوى المهني والنقابي والسياسي.

والثانية: أن أجيالا من الصحفيين ـ خصوصا أجيال الشباب ـ تحاول ـ أقول تحاول ـ جاهدة في ظروف صعبة أيضا أن تبحث لنفسها عن موقع وعن طريق.

وقلت إن الظروف أمام الاثنين صعبة، وهذا صحيح، ولعلي أضيف أنها ليست صعبة فقط وإنما خطرة أيضا.

لكن المحاولة في حد ذاتها دليل صحة وهذا بدوره قاطع للتردد وحافز للأقدام وداع إلى المشاركة، ولو على الأقل بالكلمة.
وربما ننسى أحيانا أن الصحافة في أي بلد جزء لا يتجزأ من الحياة السياسية فيه، كما أن الحياة السياسية في أي بلد هي بدورها تعبير عن واقع اقتصادي واجتماعي هو الأساس في كل شيء.

والخطأ الذي نقع فيه جميعا في بعض الأحيان أننا نؤخذ بسلطان الكلمة والقلم فنتصور اننا خارج مراحل التطور وخارج حدود الحقائق الاقتصادية الاجتماعية.

وهذا ما يتحتم علينا أن نراجع أنفسنا فيه ثم نتذكر ـ في نفس الوقت ـ أنه شيء لا نختص به وحدنا هنا، وإنما هو الحال في كل صحافة الدنيا، وحيث توجد هناك صحافة مكتوبة أو مسموعة أو مرئية.

لقد بهرتنا جميعا وأكاد أقول أسرتنا عبارة أطلقها «ويليام هازليت» قبل قرن ونصف القرن، أشار فيها إلى الصحافة بما فهم منه أنها «السلطة الرابعة» في الدولة، ونسينا الإطار الذي بدرت فيه الاشارة.

لم يكن «ويليام هازليت» يقصد وقتها السلطات الثلاث، كما نعرفها اليوم ـ (سلطة تشريعية وسلطة تنفيذية وسلطة قضائية) ـ وانما كانت السلطات الثلاث التي عناها هى (العرش والكنيسة والبرلمان)، وحين أضاف إلى الثلاثة سلطة رابعة، فإنه لم يكن يقصد الصحافة بالتحديد، ولكنه كان يقصد الرأي العام.

والرأي العام ليس في الشارع فقط، وإنما هو ظاهرة تمتد إلى كل طبقات المجتمع وقواه المؤثرة والفاعلة ، بل إن الناس لا ينزلون إلى الشارع إلا عندما يظهر عجز طوابق البنيان عن تحمل ما نزل عليها من أثقال وأعباء.

ومع ذلك فلو أننا أخذنا تاريخ الصحافة البريطانية ذاتها، وهي التي عناها «ويليام هازليت» ـ على نحو أو آخر ـ بإشارته إلى السلطة الرابعة لوجدنا أن هذه الصحافة قبل عصر «هازليت» وبعده وإلى هذا اليوم لم تكن سلطة رابعة ، وإنما كانت جزءا من الحركة السياسية لقوى اقتصادية واجتماعية هائلة راحت تفتش عن نوع من التوازن يعطي لكل منها دورا في ترتيب الحاضر وتنظيمه تقبله باختيارها، ولو كنقطة بداية وتعتبره كافيا لضمان اشتراكها في صياغة المستقبل وتشكيله عن طريق الحوار، وهو منهج الديمقراطية وأسلوبها.

وتتذكرون أن عملية البحث عن توازن اقتصادي واجتماعي مقبول في بريطانيا، وفى كل أوروبا وأمريكا كانت عملية شاقة وباهظة وكثيراً ما فرضت تكاليفها بالحروب الاهلية والحروب المحلية والحروب الاقليمية… بل والحروب العالمية. بل إن هذه العملية ذاتها قادت أكثر المجتمعات تقدما إلى أكثر الظواهر تخلفا، وهي ظواهر العبودية المنظمة والاستعمار!.
وفي العصر الذي نحن فيه الآن فلقد كان يمكن للصحافة في العالم أن تواجه محنة كبرى من تأثير تحولات اقتصادية كبرى ظهرت معها تجمعات مصالح عالمية عملاقة لها القدرة على اكتساح الحدود والتحكم عبر القارات، لولا أن هذه التحولات الاقتصادية الكبرى واكبتها ثورة في وسائل الاتصال أتاحت قدرا من امكانية تدفق المعلومات على نحو لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية.

لقد أصبحت أكبر الصحف وغيرها من وسائل الإعلام ملكا لمصالح تستطيع أن تحكم حريتها لكن ثورة المعلومات صححت هذا الوضع وأصبح أكبر ضمان للحرية ليس في الرأي الذي تحكمه الملكية، ولكن في تدفق المعلومات الذى لا يستطيع أن يتحكم فيه أحد!.

قوة المعلومات على الانتشار هى التى فكت هيمنة الملكية بالاحتكار.


في بريطانيا مثلا انتقلت مجموعة «التيمس» الى ملكية الامبراطورية المالية لـ «روبرت مردوخ» الاسترالي، وانتقلت مجموعة «التليجراف» الى ملكية الامبراطورية المالية لـ «بلاك» الكندي، وانتقلت مجموعة «الاوبزرفر» الى ملكية امبراطورية «لونرو» العالمية التى يسيطر عليها «تاينى رولاند» وهو مستوطن سابق في رودسيا ـ وكلها امبراطوريات مالية لا علاقة لها بالصحافة وانما هو تأثير عصر عابرات القارات من امبراطوريات المصالح الظاهرة والخفية.

وكان يمكن أن تكون لذلك عواقب خطيرة لولا ثورة تدفق المعلومات، وعلى سبيل المثال فانه ظاهر أمامنا جميعا أن حملة الـ «واشنطن بوست» التى أدت إلى اخراج «ريتشارد نيكسون» من البيت الابيض حققت ما حققت بالمعلومات وفى صفحة الخبر وليس في صفحة الرأي. ولم تكن الـ «واشنطن بوست» هى التى تحركت وحدها وانما تحركت على نفس الخط مؤسسة الكونجرس ومؤسسة المحكمة الدستورية العليا، أي أنها حركة مؤسسات، حركة مؤسسات مستقلة في مجتمعات توازنت فيها علاقات القوى ثم تفجرت ثورة المعلومات بأبعد من كل تصور أو خيال.

وقد نجد في مصر ـ ومن المنطقي أن نجد ـ شواهد تؤكد لنا حقيقة أن الصحافة جزء من الحياة السياسية.
ففي القرن التاسع عشر وحين استيقظنا من سبات عميق تحت الحكم المملوكي والعثماني وفتحنا عيوننا على عصر جديد وانبهرنا بالغرب ـ كانت صحافتنا ترجمة عن هذا الغرب ـ للأفكار والتعبيرات والممارسة السائدة فيه.

وفى سنوات التدخل الأجنبي كان هذا التدخل ظاهرة في الصحافة، وليس سرا أنه كان هناك تأثير فرنسي في «الاهرام» في سنواته الأولى ولا أن التأثير البريطانى كان نافذا في «المقطم» ولا كان تأثير «استانبول» بعيداً عن «المؤيد».

وحين بدأنا نعى هويتنا الوطنية ونكافح من أجل استقلالنا كانت الصحافة في معظمها خطابة حماسية تدعو إلى الوطنية والاستقلال وظل الحال كذلك في الفترة ما بين الثورة العرابية وثورة سنة 1919.

وحين جاءت مرحلة ما بعد ثورة سنة 1919 وجرى تقاسم السلطة بين الاحتلال والقصر ومجموعات كبار الملاك الذين تكونت منهم وحولهم شبه طبقة شدتها مثل ليبرالية ـ كانت الصحافة تصويرا للصراع بين هذه المراكز الثلاثة وقصصا وروايات لما يحدث في القصور التى يعيش فيها الحكام والنوادي التى يغشونها، ويذكر المخضرمون منا أن أهم مراكز الاخبار في ذلك الوقت كانت دوائر قصر «الدوبارة» (دار المندوب السامي) ودوائر قصر «عابدين» (مقر الملك) ونادى «محمد على» (ملتقى الكبراء) من رجال الاحزاب.

وكانت هذه لعبة «الكرسي ذي القوائم الثلاثة» الضرورية لحكم مصر كما كتب اللورد «كيلرن» آخر مندوب سام بريطاني في مصر.

وحين جاءت ثورة سنة 1952 كانت الصحافة وسط المعارك الكبرى للتحولات التى جرت اجتماعياً وقومياً ودولياً، وتعددت مراكز العمل الصحفي وتنوعت على اتساع العالم العربي خصوصاً ما بين القاهرة وبيروت والكويت.

ومع انفجار ثورة النفط وما أدت اليه ابتداء من سنة 1974 وما بعدها الى اليوم طرأت تغييرات كبرى محلية واقليمية ودولية ووصلت هذه التغييرات الكبرى بالعالم العربي إلى ما ترون الآن على امتداد الساحة كلها وظهرت بوادر أزمات وصلت الى حد التأثير في الهوية ومجموعات القيم ذاتها.

وفى هذه الازمات تعيش الصحافة المصرية والعربية وينعكس عليها ـ أرادت أو لم ترد ـ ما هو واقع في مجالات السياسة وما وراءها من حقائق اقتصادية واجتماعية وسياسية.

وربما كان المعيار الذى يتحتم أن تحاسب به المهنة نفسها ـ بعد اقتناعها بأنها جزء من الحياة السياسية وليس فوقها وليس خارجها ـ هو أن تسأل نفسها:
ـ هل نحن الجزء الاكثر استنارة في العملية السياسية أم لا؟

ـ هل نحن الجزء الاكثر وعيا في العملية السياسية أم لا؟

ـ هل نحن الجزء الأكثر جسارة في العملية السياسية أم لا؟

ـ هل نحن الجزء الاكثر فاعلية في ادارة الحوار المؤثر على القرار أم لا؟

أكاد أجازف وأقول ـ وأنا هنا في نقابة الصحفيين ووسط أجيال تبحث عن نفسها ودورها من شباب المهنة ـ أن الاجابة ـ «نعم»؟ رغم أي شيء وكل شيء.

حضرات الزميلات والزملاء
والآن بإذنكم ننتقل الى الموضوع الذي هو عنوان حديثنا اليوم وأعنى به السويس.

إن المعارك على عظمة مشاهدها وعلى جلال تضحياتها هى تفاصيل في اطار أكبر منها جميعا وأوسع وأعرض وأعمق، وأعنى بذلك اطار الصراع الذى تخوضه أي أمة طوال تاريخيها استجابة لضرورات أمنها القومي وضمانا لحقوقها المشروعة وتأكيدا لأماني وتطلعات أهلها في صنع مستقبلهم.

والواقع أن معارك الحروب وعظمة مشاهدها وجلال تضحياتها لا تكتسب قيمتها الحقيقية الا عندما تكون حساباتها هى نفس حسابات حركة التاريخ بداية ونهاية.

إنني أرجو قبل أن نمضى الى أبعد من ذلك أن نتفق على عدة نقاط:

1ـ إنه لا يمكن أن تكون استراتيجية أمن قومي لأى أمة أو شعب خارج حقائق الجغرافيا ولا خارج مسار التاريخ الذى هو في حقيقته تراكم آثار الجغرافيا.

2ـ انه لا يمكن أن تكون هناك سياسية لأى شعب أو أمة خارج الاوضاع الحضارية والاقتصادية والاجتماعية السائدة فيه، فالسياسة في جوهرها هى التعبير عن حقائق هذه الاوضاع بما في ذلك الرغبة في تطويرها باستمرار الى الأفضل.

3ـ انه ليس في مقدور أي شعب أو أمة أن يتبنى مبادئ ـ فضلا عن سياسات ـ تتناقض مع مصالحه سواء فيما يتصل بإملاء ضرورات أمنه القومي أو حقائق أوضاعه سواء منها الحضارية أو الاقتصادية الاجتماعية.

4 ـ انه ليس من واجب أي شعب أو أمة ـ ولا من حقهما ـ التغافل عن مطالب صراعات المقادير أو المصائر والا كان ذلك تخليا عن البقاء وعن الحياة نفسها ـ ويدخل في ذلك الاستعداد لتقبل مخاطر السلاح كملجأ أخير للدفاع عن النفس والحق ومجموعات القيم المحركة والملهمة.

5ـ إنه ليس في استطاعة أي شعب أو أمة تبنى استراتيجية للأمن أو رسم سياسة الا بعد النظر الى الخريطة حتى يتذكروا أين هم من الدنيا ثم يتفكروا بعد ذلك أين هم من العصر. فالخريطة مؤشر لا يضل ولا يضلل ثم ان لكل عصر جوا يصعب التنفس خارجه.
6
ـ ان المعيار الأمين لقياس أي سياسة أو قرار (بما في ذلك الحرب التى هى على حد تعبير «كلاوزفيتز» عمل سياسي بوسيلة أخري) والحكم التاريخي على هذه السياسة بالصواب والخطأ ـ بل حتى بالنجاح والفشل ـ لا يكتمل الا في إطار ما سبق كله.


وإذا أخذنا هذه النقاط وحاولنا تطبيقها على مصر فسوف نجد ما يلي:

1 ـ اذا أخذنا حقائق الجغرافيا فإن شعب وادى النيل لا يستطيع ببساطة أن يقبع داخل حدود الوادي ويصنع مستقبله عليه.

وحتى من وجهة نظر أنانية بحتة ـ فإن هذا الوادي عاجز عن اطعام سكانه برقعة أرضه المحدودة. بل ان الماء الذي يتمكن به هذا الوادي من زراعة أرضه لإطعام نفسه. على فرض أن ذلك يكفيه ـ يجيئه من وراء حدوده حيث تسقط أمطار لا يراها على أرض لا يعرفها ـ فإذا أراد ان يستكشف من أين يجيء الماء؟ وكيف يضمن استمرار تدفقه اليه؟ كان عليه أن يخرج وراء حدوده ليس فقط بالخيال ، أو بالرحلة وانما أيضا بالقدرة .

ثم أن هذا الوادي بدأ يتعلم أن الجغرافيا وضعته في موقع من الدنيا مؤثر ومسيطر ـ ملتقى البحار والقارات ـ وأنه إذا لم يستطع أن يحمى هذا الموقع ونفسه معه فإن آخرين سوف يجيئون لاستعمال هذا الموقع وحمايته لصالحهم وليس لصالحه.

ثم أن هذا الوادي أدرك أنه لا يستطيع أن ينتظر حتى يجيء الطامعون الى رباه الخضراء وأن عليه أن يخرج بصداقاته وتحالفاته وقواته اذا لزم الأمر لعلاقاتهم خارج أرضه قبل أن يصحو ذات يوم فإذا هم يقتحمون عليه باب بيته.

ومن حقائق الجغرافيا تراكم تاريخ طويل لا يمكن لأحد أن يخطئ دلالته . ودلالته ببساطة أن عصور اليقظة في مصر كانت هى نفسها العصور التى وجدت فيها مصر خارج واديها ، وأما عصور التراجع فقد كانت تلك التى قبعت مصر فيها وراء حدودها لا بها ولا عليها .

ولقد تأكدت حقائق الجغرافيا والتاريخ وتفاعلت مع ما حولها سياسيا و حضاريا قبل الإسلام ثم توثق الرباط بعقد مقدس ، مقدس بالمعنى الواقعي وليس بالمعنى الروحي فقط ـ حين توحد تاريخ مصر مع ما حولها بلغة واحدة ـ أي بعقل واحد ـ وبثقافة واحدة ـ أي بضمير واحد ـ وبمصلحة مشتركة ـ أي بأمن واحد ـ فأصبحت جزءا منه حتى في النظام السياسي قرونا متصلة بغير انقطاع .

2ـ واذا وصلنا الى النقطة الثانية فسوف نجد أن أحكام الجغرافيا والتاريخ قد أملت على مصر سياسات لا يستطيع أحد أن يتلاعب فيها الا وكانت المخاطر جسيمة .

فكمية المياه المحدودة وانحصار رقعة الأرض تفرض ضرورات للتنظيم ، وتفرض ضرورات للعدل ، وتفرض ضرورات للمعرفة ، وتفرض ضرورات للتقدم الفكري والمادي ، وتفرض ضرورات للدفاع ـ وهذا كله يحتم عليه أن يتجاوز رقعة الوادي وأن يتصل بما حوله ولا ينحصر أو يتقوقع في حماية رمال الصحراء المحيطة به ـ وهذا التفاعل لا يضمن حياة مصر فحسب وإنما يضيف الى قوتها ، ولقد كان جهد الطامعين فيها باستمرار هو عزلها عما حولها والتعامل معها بمعزل عنه .

3ـ وإذا وصلنا الى النقطة الثالثة فليس أمامنا مفر من أن نسلم بأن حقائق مصر لا تتحمل أن تكون سياساتها مصادفات ، أو أهواء ، أو خضوعا للظروف الطارئة والمؤقتة تحت أية دعاوى أو غوايات .

وانما تتحمل مصر فقط سياسات ثابتة وصلبة وصبورة يتغير التعبير عنها وتختلف أساليب ممارستها بتغير واختلاف العصور والأزمان والحقائق السائدة في العالم مع هذه العصور والأزمان .

أتذكر حديثا مع «اندريه مالرو» في باريس ذات مرة ووجدته يقارن بين مصر وانجلترا ويقول إن هناك أوجه شبه بينهما ـ كلتاهما جزيرة لا تستطيع أن تستغنى عما حولها .

انجلترا جزيرة محاطة بالبحر
ومصر جزيرة محاطة بالبحر وبالصحراء أيضا

وأن ذلك أثر في تاريخ كل منهما .

ووافقته في أشياء وخالفته في غيرها، وربما كان قياس «مالرو » مقبولا بمعنى أنه قد تكون هناك أوجه شبه عامة لكن الجزيرة المصرية في العالم المحيط بها تختلف عن الجزيرة البريطانية في العالم المحيط بها من حيث إن مصر اتصال جغرافي لا ينقطع وحضاري وامنى مع ما حولها.

 4ـ واذا وصلنا الى النقطة الرابعة من النقط المطروحة للاتفاق وهى أنه ليس من واجب أي شعب أو أمة ـ ولا من حقهما ـ التغافل عن مطالب صراعات المقادير أو المصائر والا كان ذلك تخليا عن البقاء وعن الحياة نفسها فلا أظننى في حاجة الى أن استفيض.

الافراد يعتزلون ادوارهم احيانا، ربما بالسن والتقاعد أو بغيرهما من الأسباب ـ ولكن الامم والشعوب لا تستطيع أن تعتزل أو تتقاعد فللفرد عمر محدود وأما الامم والشعوب فحياتها متجددة ومتصلة.

5ـ واذا وصلنا الى النقطة الخامسة ـ الخريطة والعصر ـ لاكتشفنا ان المنطقة التى ننتمى اليها ونعيش فيها في قلب صراعات الدنيا كانت كذلك دائما وسوف تظل الى النهاية.

ثم ان هذا العصر الذى نعيشه محكوم بالتناقض بين اثنتين من القوى الأعظم لا تقدران على الحرب لأنها سوف تكون نووية ولا تقدران على السلام لأن المصالح والعقائد متصادمة، ومعنى ذلك أنه صراع بوسائل أخرى أو عن طريق آخرين وهو ما يمكن أن يكون أسوأ.
ومنطقتنا بموقعها ذاته في النقطة الاقرب للاحتكاك بين الاثنين: بطن الاتحاد السوفيتي وجنب حلف الاطلنطي.

ومن سوء الحظ أنه ليس أمامنا غير أن نكون في الملعب وأن تكون لنا لعبتنا المستقلة، واذا لم نشأ ان نكون بين اللاعبين فهناك محظور أن نجد أنفسنا في دور الكرة التى يلعب بها الكبار!

 6ـ وأخيرا نصل الى النقطة السادسة وهى المتعلقة بمقياس الحكم التاريخي على أي سياسة أو سياسي ولقد قلت إن هذا المقياس يجب أن يكون ـ وهو لا يمكن أن يكون ـ الا الاتساق مع الحقائق الثابتة في حياة الأمة
ولاأريد أن آخذكم الى حجج التاريخ ولا إلى قوائم بأسماء أبطاله وإنما يكفينا أن نتذكر ما رأيناه بعيوننا في العصر الحديث.

لقد خرج الجنرال «ديجول» مثلا من فرنسا يوم استسلمت حكومتها الرسمية بقيادة الماريشال «بيتان»، وذهب وحيدا الى لندن، وتصور حلفاؤه أنفسهم أنهم يستطيعون التعامل معه من أعلى الى أدنى فهو لاجئ في بلاده ووطنه تحت الاحتلال، ورفض وقاسي، لكنه كان يعبر وحده عن حقائق ثابتة في وضع فرنسا في قلب القارة الاوروبية.

ونجح «ديجول» بقوة الحقيقة الجغرافية التاريخية وحدها ولا شيء غيرها في أن يؤكد حقوق فرنسا وكان ذلك سبيله الى مكانه باقية في حياة أمته.
اذا اتفقنا على هذه النقط فسوف نجد أن حياة كل أمة وكفاحها خط متصل، وقد يتعرج هذا الخط وقد يرتفع ويهبط وقد ينحني ويدور لكنه لا ينقطع أبدا.

وربما سمحت لنفسي أن أذكر لكم أننى عندما ترجمت بنفسي كتابي الأخير عن السويس خصصت الجزء الأول منه بالكامل لقراءة سريعة للتاريخ المصري قبل ثورة سنة 1952 عن اعتقاد ـ كما ذكرت لكم ـ بأن أي حدث لا يستمد قيمته الا من اتساقه مع المجرى العام لتاريخ الأمة، والا من استجابته للثوابت الراسيات في حياتها، والا من اعتماده على كامل قواها الكامنة والظاهرة.

إن القيمة الحقيقية للسويس هى ذلك كله بالضبط.
فالطموح فيها لم يكن طموح رجل واحد وانما طموح أمة.

والقضية فيها لم تكن كرامة سياسي أهين حين سحب «جون فوستر دالاس» وزير الخارجية الامريكية عرض تمويل السد العالي فغضب لنفسه وأمم قناة السويس ـ وانما كانت القضية مشهدا واحدا من مشاهد نضال طويل أكبر من جهد أي فرد وأوسع بكثير من مساحة عمره.
والوقوف فيها لم يكن للكل وليست له حتى وان كان اسمه أبرز وأظهر أعلام المعركة.

والحقيقة ان السويس هى واحدة من الذرى العالية في قصة صراع مصر الحديثة كله من عصر «محمد علي» وبعده الى الثورة العرابية والى الاحتلال البريطانى والى ثورة سنة 1919 ـ والحقيقة ان شركة قناة السويس لم تكن الا الوجه الآخر للقاعدة العسكرية البريطانية على قناة السويس ـ ثم ان اعلام السويس كانت هى نفسها الاعلام التى ارتفعت على طول المسافة من «باندونج» الى «الجزائر».

والحقيقة في السويس أنها معركة في حرب، والحرب نفسها حلقة في صراع متصل لم يتوقف.

بقى أن أقول ملاحظة أخيرة وهى أن الصحفي ليس مكلفاً بكتابة التاريخ وانما هو مكلف بقراءته.
لكنه يكتب عن التاريخ عندما يصبح التاريخ نفسه خبرا حيا معاصرا ويكون من شأن روايته أن تلقى ضوءا كاشفا على ما يحدث في الحاضر.. هذا اليوم، وهذه الساعة، وأتمنى ألا أكون ابتعدت كثيرا عن منهج الصحفي وطريقته.

وتلاحظون أننى اكتفيت بوضع بعض العلامات على طريق السويس مقدرا أن الحوار سوف يقودنا الى دروب متشعبة ومسالك.
وأشكر لكم تفضلكم بالاستماع وصبركم، ثم أضع نفسي تحت تصرفكم كما تشاءون.

مجدي منصور, محامي مصري وكاتب سياسي

مجدي منصور كاتب سياسي مصري له العديد من المقالات والدراسات المنشورة بكبرى المواقع ك (ساسة بوست - نون بوست - هاف بوست- عربي بوست - روافد بوست).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى