التوجه إلى الشرق: المعاني والتداعيات (1) | د. زياد حافظ
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
رؤية المنتدى الاقتصادي والاجتماعي التي تبلورت في ورقة تشخيصية واستشرافية للأزمة الاقتصادية والاجتماعية في لبنان تناولت من بين ما تناولته خيار التوجّه شرقا في التعامل الاقتصادي والسياسي كبديل للعلاقة مع الغرب الذي لم يكن يوما صديقا للبنان وللعرب بشكل عام. فالغرب همه الهيمنة على الثروات العربية وحماية الكيان الصهيوني كما ساهم في دعم وتغطية الفساد في لبنان خدمة للكيان الصهيوني ليجعل لبنان دائما تابعا للقرار الغربي. فالفساد والتبعية من سمات النظام السياسي القائم في لبنان والمسؤول مباشر عن الانهيار الاقتصادي والاجتماعي وكل ذلك خدمة للكيان الصهيوني المحتلّ.
سنحاول في هذه المقاربة الإجابة على الأسئلة التالية: أولا، ماذا يعني التوجه شرقا؟ ثانيا، لماذا التوجه شرقا؟ ثالثا، كيف يمكن تحقيق ذلك؟ ورابعا، ما هي العوائق لذلك التوجّه؟
ماذا يعني التوجّه شرقا؟
التوجه شرقا هو خيار استراتيجي تحوّلي طرحه ثلّة من الباحثين والناشطين في الساحة اللبنانية نتج عن تشخيص للمشهد اللبناني وبنيته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية منذ نشأة الكيان. وهو خيار طويل المدى وعميق التداعيات. ليس اجراء ظرفيا أو انتقائيا بل يلزم لبنان لأجيال قادمة.
وهو طرح مشابه للذي تبنّاه كل من الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر لله والرئيس اللبناني ميشال عون الذي سمّاه بالمشرقية العربية ولكن بعناوين عريضة دون تفصيلات نستطيع أن نبني عليها. أما على الصعيد العربي فلا يمكن تجاهل تصريح وزير خارجية الجمهورية العربية السورية الراحل وليد المعلم حيث اعتبر أن الغرب لم يعد موجودا في قاموس سورية.
أما في لبنان فبات واضحا أن الأكثرية الساحقة للنخب في لبنان متغرّبة بمعنى أن مرجعيتها الفكرية والثقافية وبالتالي السياسية والاقتصادية هي في الغرب متأثرة بالبعثات الارسالية الغربية منذ القرن التاسع عشر ومع حقبة الانتداب الفرنسي والسيطرة الغربية على المشرق العربي بعد الحرب العالمية الأولى والثانية. لسنا هنا معنيين بتحليل جذور تلك التبعية للغرب نكتفي بالقول إن نتائجها لم تكن لصالح لبنان وأن الصورة النمطية الوردية للبنان كسويسرا الشرق كانت لأقلية معيّنة مكوّنه من تحالف امراء المال والطوائف وعلى حساب الأكثرية الساحقة. فاستبدال الطائفية والمذهبية بالطبقية كانت صورية حيث الطبقية مغّيبة وإن كانت حاضرة ولكن بلباس طائفي ومذهبي.
والطبقية هنا ليست بالمعنى الناتج عن ملكية وسائل الإنتاج والعلاقات الاجتماعية العائدة لها بل تعني التباين بين الفقير والثري والطبقة الوسطى من موظّفين في مؤسسات تخدم الاقتصاد الريعي القائم بأشكال مختلفة.
الخيار للتوجه شرقا يحمل معاني متعدّدة سنحاول بلورتها بشكل واضح. بالنسبة لبعض المعنيين فالتوجه شرقا هو مجرّد رفض للنموذج الغربي دون تحديد ملامح واضحة للنموذج البديل. والبعض الآخر يرى فيه فقط استقبال العروض الصينية وأو الإيرانية وأو الروسية لإعادة تأهيل البنى التحتية في لبنان التي دمّرها الاقتصاد الريعي والفساد المنتشر بين مكوّنات الطبقة السياسية. ولفئة أخرى يصبح التوجّه شرقا التكامل بين دول المشرق العربي وإن حمل ذلك التوجه عناوين مختلفة. وهناك من يعتبر التوجه شرقا اقتباسا للأنظمة السياسية والاقتصادية من الدول التي برهنت عن نجاح في نماذجها كالصين أو ماليزيا أو سنغافورة أو الهند أو حتى الجمهورية الإسلامية في إيران.
بالنسبة لنا مفهوم الشرق أوسع من المفهوم الجغرافي البحت. فهو يضم الجنوب بشكل عام وخاصة إفريقيا وأميركا اللاتينية. ما يجمع بين الاتجاهين الجغرافيين هو رفض الهيمنة الاستعمارية بشكل عام والهيمنة الأميركية بشكل خاص، على الأقل في الموضوع السياسي والاقتصادي. لكن نميّز الشرق الجغرافي عن الجنوب لأن إنتاج المعرفة عاد إلى جذوره التاريخية والجغرافية في آسيا. والمعرفة التي نقصدها لا تقتصر على العلم والعلوم بل تشمل نموذج حياة يدمج الموروث التاريخي مع إفرازات التقدم العلمي. ليس في الشرق بشكل عام محاولات لهندسة مجتمعات تعكس توجهات عقائدية.
فمحاولات ماو تسي تونغ لإعادة إنتاج مجتمع صيني جديد وثوري عبر ما سماه بالثورة الثقافية منيت بفشل ذريع وكذلك الأمر بكامبوديا على يد الخمير الحمر. فالهندسة الاجتماعية التي تذهب ضد الفطرة والموروث التاريخي لها يصعب أن يكتب لها النجاح. الغرب بشكل عام يقع في نفس الخطأ عندما يريد تصدير بالقوة نموذجه السياسي ومفاهيمه وقيمه كقيم عالمية لا يمكن رفضها دون الاخذ بعين الاعتبار الخصوصيات للمجتمعات البشرية المتمسّكة بموروثها التاريخي.
التوجّه شرقا خيار قبل أن يكون سياسة. وهذا الخيار له أسبابه ومبرّراته نبحثها في المقطع التالي. وأشكال التوجه شرقا وأو جنوبا يعكس محاولات للاستفادة من تجارب دول عانت من الهيمنة الغربية وبرهنت عن نجاح كبير في نماذجها السياسية والاقتصادية. كما أن طبيعة العلاقات التي تعرضها تلك الدول وفقا لتلك النماذج تحترم خصوصيات الدول الأخرى وتسعى لترسيخ علاقات تؤدّي إلى ربح مشترك بين جميع الأطراف وليس على قاعدة غالب ومغلوب. والنجاح في النموذج الاقتصادي يتمّثل ليس فقط بمعدّلات نمو بل أيضا بإنتاج سلع وخدمات تساهم في رفاهية الانسان. النموذج الغربي لا يفي بذلك وبالتالي يصبح النموذج الشرقي الواسع خيارا لا بد منه.
هل هذا يعني التخلّي عن النموذج الغربي؟ ليست مهمتنا حل إشكالية التعاطي مع ذلك النموذج بل شرح مضمون الخيار الشرقي وتداعياته.
وهنا تكمن نقطة الارتكاز والاهتمام. فالخيار بالتوجه شرقا يعني مجموعة من السياسات والبرامج السياسية والاقتصادية والثقافية والبيئية المتكاملة بعضها مع بعض أولا ومع الدول التي سيتم التشبيك معها ثانيا. فالسياسات التصنيعية على سبيل المثال يتم التنسيق بنيها وفقا لخطة مدروسة وليست متروكة عشوائيا لمزاج المستثمر الخاص بل منسجمة مع سياسة زراعية وسياسة أشغال عامة وسياسات مالية ونقدية تغّذي عملية النمو والتشبيك. هذا يعني أيضا أنها منسجمة مع سياسات دول الجوار في المرتبة الأولى ما يعني أيضا انسجام وتنميط الأنظمة القضائية. وهذا على سبيل المثال لنظهر أن التوجّه شرقا عملية معقّدة وطويلة المدى ويجب أن تنتج عن سياسة مدروسة على المدى القصير والمتوسط والطويل.
والانفتاح على الاستثمارات الخارجية المعروضة من الشرق سواء كانت من الصين أو روسيا أو إيران أو أي جهة آسيوية او حتى من أميركا اللاتينية كالبرازيل، أو المكسيك، أو الارجنتين مثلا أو من دول إفريقية كجنوب إفريقيا، فذلك يعني الانفتاح على أنظمة سياسية مختلفة عن النظام القائم في لبنان والذي يجب تغييره بغض النظر إذا ما تمّ الانفتاح إلى الشرق أم لا. وهذا الانفتاح يستوجب مقاربة النظام التربوي في لبنان للتعريف العميق عن الدول التي سيتعامل معها لبنان ليس فقط بالنسبة لتاريخ وجغرافية تلك الدول بل على الأقل فيما يتعلّق بتدريس لغات تلك الدول. فالتدريس التقليدي للفرنسية والإنكليزية يجب أن يتراجع لمصلحة تدريس اللغة الصينية والروسية والهندية والاسبانية والتركية والفارسية. لغة التعليم تكون بالعربية وليست بالفرنسية أو الإنكليزية لكن تلازمها تدريس اللغات المطروحة. هذا يعني تغيير البرنامج التربوي في لبنان من ألف إلى ياء وقد يصطدم ذلك مع مصالح خاصة لا علاقة لها بالمصلحة الوطنية.
كما يعني الدراسة بعمق التجارب التي تشكل القدوة في برامج النمو والتنمية. فلا يمكن أن يقتصر الخيار على بعض الاستثمارات الضخمة في إعادة تأهيل البنى التحتية وتطويرها بل يعني أيضا الانضمام إلى منظومات سياسية وأمنية مشتركة تحمي تلك البنى وتساهم في تطويرها. فلا معنى مثلا من استقبال الاستثمارات الصينية على سبيل المثال دون التفكير في الانضمام إلى منظومة شنغهاي. ولا يعني الانضمام إلى تلك المنظومة التخلّي عن ضرورة إنشاء منظومة عربية تسعى إلى التشبيك السياسي والاقتصادي والثقافي والبيئي فهدفنا الأول هو وحدة الأمة وتحصينها من المطامع التي قد تأتي من كل الجهات. ما نريد أن نقوله هو أن الاتجاه شرقا ليس شعارا كما يحلو للبعض. هو في الأساسي تحوّل في الفكر والذهنية يُترجم بسياسات وبرامج على مستويات مختلفة. هذا لا يعني أنه يجب رفض العروض المطروحة بل العكس. المطلوب هو المباشرة بقبولها ودرسها وتطويرها لأن عملية التحوّل ليست عملية ظرفية بل طويلة المدى. فالعروض المطروحة قد تساعد لبنان في الخروج من الأزمة الراهنة لكن الخيار في التوجّه شرقا هو أعمق وأبعد من ذلك بكثير وعمل طويل المدى.
لماذا التوجّه شرقا؟
السؤال بحد ذاته يطرح إشكاليتين في آن واحد. لأولى تكمن في طرح السؤال بحد ذاته وكأنه مخالف لمشيئة الهية او الطبيعة أو أي مرجعية لا يمكن مناقشتها. وقد يعود ذلك إلى تجذّر الشعار في الوعي اللبناني بأن لبنان جسر بين الشرق والغرب ولكن فعليا هناك نخبة حكمت وما زالت متحكمة بالأمور تعتقد أنه امتداد للغرب في المشرق العربي. أما الإشكالية الثانية فهي التهيّب من تداعيات ذلك التوجه على مصالح النخب الحاكمة وعلى وعي اللبنانيين.
التوجّه شرقا له أسباب سياسية واقتصادية وفكرية. فعلى الصعيد السياسي إن التماهي مع الغرب كان مضرّا للبنان لأن الغرب لم يكن في أي يوم من الأيام صديقا للبنان إلاّ بمقدار ما كان يشكّل منبرا لأعداء الحركات التحرّرية في الوطن العربي وبمقدار ما كان يشكّل دولة حاجز بين الكيان الصهيوني المحتل والعمق المشرقي العربي وبمقدار ما قد يكون منصّة للتطبيع مع الكيان الصهيوني المحتل. فقرارات مجلس الأمن ظلت حبرا على ورق عندما لم تكن لصالح الكيان الصهيوني المحتل خاصة بعد احتلاله للبنان في 1978 وفيما بعد سنة 1982. فلبنان استرجع ارضه المحتلّة بفعل المقاومة التي دعمتها دولة مشرقية نعتت بالإرهاب بسبب ذلك. الغرب تصرّف مع لبنان من موقف العداء والاستعلاء وليس من موقف الصداقة التي يزعم بعض اللبنانيين أنهم امتداد له. الأزمة الاقتصادية الحالية ناتجة عن فساد وسرقة من قبل سلطة حاكمة حماها الغرب وندّد بكل محاولات إصلاحية تحدّ من الفساد المستشري وخاصة في حقبة الطائف. والغرب يحاول درء اللوم عن نفسه عبر القاء اللوم على المقاومة واتهامها بكل ما يحصل. ويمكننا الاسترسال بالأسباب السياسية التي تجعل التعامل مع الغرب عملا عبثيا لا جدوى منه لكن تكتفي بالتركيز على المواقف العدائية للبنان في المحاصرة الاقتصادية التي يفرضها الغرب بقيادة الولايات المتحدة وبمشاركة بعض الدول العربية وذلك خدمة للكيان الصهيوني المحتل.
من دلائل عدم الصداقة مع لبنان تثنية الخزينة الأميركية على تصرّفات النظام المصرفي اللبناني الذي يهدف إلى تجويع اللبنانيين لتمكين انتفاضة ضمن البيئة الحاضنة للمقاومة على المقاومة وحلفائها. لقد أقدم النظام المصرفي على العمالة لصالح الولايات المتحدة ولكن في آخر المطاف هو لصالح الكيان الصهيوني. فجهاز مكافحة تبييض الأموال في الخزينة الأميركية أنشأ لخدمة الكيان ومحاربة القوى التي تواجهه. دليل آخر هو توقّف التنقيب عن الغاز من قبل شركة توتال دون إعطاء تفسيرات لذلك العمل اللهم الاّ الامتثال لقرار أميركي. دليل آخر على “عدم الصداقة” هو تدخّل الغرب بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص في الشأن التفصيلي اللبناني كقضايا التعيينات ومعاقبة الفاسدين التي تغطيهم الولايات المتحدة إلى فرض العقوبات على شخصيات لبنانية دون إبراز أي دليل عن فسادها الاّ مواقفها غير المتماهية مع السياسة الأميركية. لا ننسى أيضا موقف إدارة بوش الابن من الرئيس السنيورة التي اعتبرته خطا احمر لا يمكن تجاوزه. فمن يمسّ بالرئيس السنيورة يمسّ الأمن القومي الأميركي! والرئيس السنيورة لم “ترف له جفن” كما صرّح من مطالب اللبنانيين وما زال عاجزا عن تقديم تفسير عن المبالغ المقدرة بالمليارات التي اختفت من حسابات وزارة المالية. لذلك يمكن القول إن الغرب بشكل عام والولايات بشكل خاص تغطّي الفساد في لبنان بل تشجّعه لأنه يخدم سياساتها ويهدف إلى تدمير النسيج الاجتماعي في لبنان خدمة للكيان الصهيوني المحتل.
أما على الصعيد الاقتصادي فالمقاربة تكمن بمقارنة ما يقدّمه الغرب وما تقدّمه دول الشرق. فعلى صعيد الغرب لم يكن في يوم من الأيام ينظر إلى لبنان وسائر دول المشرق العربي بعين الراغب الفعلي بالتعاون. الغرب يريد أسواقنا ولا يعرض أسواقه إلا وفقا لشروط تعجيزية. فالتجارة البينية بين لبنان والصين أهم من التجارة البينية مع أوروبا. الاستثمارات الأوروبية في لبنان ضعيفة حتى في القطاع المالي حيث انسحب العديد من الشركات المالية الأوروبية من لبنان. بالمقابل يغضب الغرب إذا ما حاول لبنان التوسع في العلاقات مع سورية والعراق وروسيا والصين والجمهورية الإسلامية في إيران.
الغرب سلبي تجاه لبنان عبر التاريخ القديم والمعاصر وخاصة بعد الحرب الأهلية حيث شجّع منظومة الفساد على تدمير لبنان.
أما فيما يتعلّق بالشرق فالعروض التي قدمتها حكومات عديدة كالصين وروسيا والجمهورية الإسلامية في إيران كانت لو قبلت ساهمت في إخراج لبنان من المستنقع المالي والاقتصادي الذي أوصلته منظومة الفساد المدعومة من الغرب وكان سيؤمن الخدمات الأساسية في الطاقة والمياه. كما أن مشاريع إعادة تأهيل مرافئ لبنان وخاصة بعد تفجير مرفأ بيروت وإعادة تأهيل شبكة الطرقات والبحث في شبكات سكة الحديد كانت لتشكّل قفرة نوعية في مشروع نهوض لبنان. نلاحظ هنا الغياب الغربي عن هذه الملفّات.
والعروض الشرقية امتازت ليس فقط بجدواها التقنية والمدة القصيرة نسبيا لإنجازها بل بكلفتها المعقولة والتسهيلات في الدفع بالليرة اللبنانية.
هذا من ناحية العروض الاستثمارية. أما الشق الآخر للانفتاح على الشرق فهو في إعادة العلاقات مع سورية خاصة فيما يتعلق بالتجارة ومعها العراق ولأردن. لكن قصر النظر من قبل طبقة حاكمة خنوعة وخاضعة للقرار الغربي ما زالت متردّدة في حتمية الانفتاح تجاه سورية سياسيا واقتصاديا وامنيا خشية من الولايات المتحدة. هذا دليل إضافي على عدم صدقية “صداقة الولايات المتحدة” التي سياساتها سعت إلى تدمير لبنان (تصريحات بومبيو دليل على ذلك) وإن دمرّت بذلك أصدقائها وحلفائها المحليّين.
واستكمالا للانفتاح على سورية فمن الطبيعي الانفتاح على الجمهورية الإسلامية في إيران التي برهنت عمليا استعدادها لمساعدة لبنان عبر كسر الحصار النفطي على لبنان. لسنا هنا في إطار تعداد المنافع التي يمكن أن يجنيها لبنان من الانفتاح على إيران بل نعتقد أنه من الضرورات لعملية النهوض الاقتصادي عبر التشبيك الاقتصادي مع دول الجوار في المشرق العربي وذلك بعيدا عن الاعتبارات السياسية التي توكّد أن ذلك المحور المقاوم مصيره السياسي والاقتصادي واحد غير قابل للتجزئة. ما نريد أن نركّز عليه هو أن نهوض لبنان مرتبط عضويا بنهوض سورية وأن التخطيط للنهوض في لبنان، عندما تتشكل حكومة مقتدرة على ذلك التخطيط، هو ضرورة لنجاح المشروع اللبناني.
ومع التوسّع الجغرافي لمفهومنا للشرق عبر ضم دول الجنوب فدولة جنوب إفريقيا مرشحة لتلعب دورا مهما خاصة وأنها قد تكون مع كل من نيجريا ومصر واثيوبيا قاطرة القارة الإفريقية. وكذلك الأمر بالنسبة لدول أميركا اللاتينية كفنزويلا والبرازيل وكوبا والأرجنتين والشيلي. فهذه الدول لديها ما يمكن أن تقدّمه في مشروع نهوض لبنان.
من هنا ندخل إلى البعد الفكري والجيوسياسي لمشروع التوجّه شرقا وجنوبا. دول الكتلة الاوراسية، أي الصين وروسيا، تعرض نموذجا للعلاقات الدولية مختلف عن النموذج الذي تسعى الولايات المتحدة فرضه قسرا على العالم. فالنموذج الاوراسي يعتمد القانون الدولي والمعاهدات وقرارات مجلس الامن وأحكام المحكمة الدولية قاعدة للتعامل بين الدول بينما الولايات المتحدة تريد أن تفرض نظاما يعتمد القيم والاحكام كقاعدة للتعامل. وبما أنه ليس هناك من أي قاعدة قانونية لذلك الخيار فتصبح الولايات المتحدة من تحدد القيم والاحكام التي تتجاوز حدود الدول وتخترق سيادتها. لذلك نرى ضعف التأييد لتلك المنظومة خارج التحالف الانجلوساكسوني الذي يضم كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا وإلى حد ما كندا. بالمقابل فإن المنظومة الاوراسية تحترم الحدود وتتجنّب التدخل في شؤون الدول كما تقوم به الولايات المتحدة والعديد من الدول الأوروبية.
أما الميزة الثانية فهي أن دول الكتلة الاوراسية تعتمد قاعدة المنفعة المشتركة حيث تصبح جميع الأطراف المتعاقد رابحة بشكل عادل وليس على قاعدة الغالب والمغلوب كما يريده الغرب بشكل عام. ونتائج ذلك تتبلور يوما بعد يوم في العديد من الدول الآسيوية التي قرّرت التعامل مع الكتلة الاوراسية غير مكترثة للمشيئة الأميركية. هذا يعني أن الالتحاق بالكتلة الاوراسية يعني في مستقبل قريب الالتحاق بمنظومة شنغهاي الأمنية التي تثبت عن جدارتها مع إخفاقات التفاهمات مع الولايات المتحدة التي تنقضها مدى اقتضت الحاجة الأميركية لها. فهناك استقرار بالمنظومة الأمنية لمنظمة شنغهاي بينما المنظومات الغربية منظومات عدوانية تجاه الغير.
الميزة الثالثة للتوجّه شرقا تعود أن المستقبل في الفضاء الاقتصادي والاجتماعي هو في التواصل والتواصل الفائق السرعة (hyperconnectivity). دول الكتلة الاوراسية تعرض ذلك وبدأت بتنفيذها بينما الغرب بشكل عام والولايات المتحدة متأخران في هذا المجال. لبنان لا يستطيع أن يكون خارج عالم المعرفة وعالم الذكاء الاصطناعي التي سيتعمم عبر الشبكة التواصلية السريعة. اقتصاد الغد يعتمد التواصل السريع في شتى القطاعات من الزراعة إلى الصناعة إلى التربية والاستشفاء وإلى قطاعات الامن والدفاع والبيئة. والتواصل الالكتروني يفرض التواصل الجغرافي عبر شبكة الألياف البصرية وسكك حديد بالقطار السريع ما يعطى بعدا مختلفا عن مفهوم طريق الحرير القديم. فطريق الحرير الجديد هو طريق سريع جغرافيا وفائق السرعة الكترونيا. علينا أن نتصور الانتقال من بيروت (حوالي 7 الاف كم) إلى ييجينغ برأ بأقل من يوم فالعالم يصبح فعلا قرية كبيرة.