التوجه إلى الشرق: المعاني والتداعيات (2) | د. زياد حافظ
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
في الجزء الأول “التوجه إلى الشرق: المعاني والتداعيات (1)” من البحث حاولنا الإجابة على سؤالين: ماذا يعني التوجّه إلى الشرق ولماذا التوجّه. وجدنا أن مفهوم التوجه إلى الشرق أبعد مما تتناوله وسائل الاعلام سواء على الصعيد الجغرافي أو في المضمون.
فالشرق يعني أيضا الجنوب وكل بقعة جغرافية تناهض الهيمنة الأميركية. كما وجدنا أن المضمون لا يعني فقط الانفتاح على الاستثمارات الآسيوية بل يعني قبل أي شيء آخر التشبيك مع دول الجوار العربي وفي مقدمتها سورية فالعراق فالأردن.
أما على الصعيد الإقليمي فهذا يعني التشبيك مع الجمهورية الإسلامية في إيران ومع تركيا. وعلى صعيد القارة الاسيوية فهذا يعني الالتحاق بطريق الحرير ومنظومة منظمة شنغهاي. ويعني مع كل ذلك التشبيك مع كافة الدول العربية التي تسعى إلى حماية نفسها من الهيمنة الغربية بشكل عام والأميركية بشكل خاص. والتشبيك مع الدول العربية والدول الاسيوية يعني أيضا الانفتاح تجاه الدول الإفريقية وأميركا اللاتينية التي تستطيع أن تقدّم للبنان ما لا تستطيع الحصول عليه من الغرب.
أما على صعيد “لماذا” فالإجابة بشكل مختصر هي أن الغرب ليس صديقا للبنان كما يدّعي ومعه نخب لبنانية متغرّبة حتى نكران ذاتها. بل أكثر من ذلك فالغرب بسلوكه عبر عقود من الزمن كي لا نقول عبر القرون الماضية كان عدوّا للبنان وللمنطقة العربية وأراد من لبنان أن يكون حصان طروادة ضد الجسم العربي والإسلامي في المنطقة عبر المعادلة الكاذبة بإن لبنان جسر بين الشرق والغرب. وإضافة إلى العداء المزمن الذي أصبح عداء وجوديا في رأينا لم يعد باستطاعة الغرب أن يقدّم أي شيء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو القيمي للبنان وللمنطقة العربية.
فالنموذج السياسي الذي يعرضه يكرّس التبعية له ولا يكترث لمصالح لبنان وذلك على قاعدة “قائد، أي هو، و”تابع” أي نحن، أو غالب ومغلوب على أمره. النموذج الذي تروّج له الكتلة الاوراسية هو الشراكة والربح المشترك وإلغاء قاعدة غالب ومغلوب على أمره. كما أن النموذج السياسي والاقتصادي في الكتلة الاوراسية برهن عن جدواه بينما النموذج الغربي وصل إلى طريق مسدود وذلك لأنه كان مبنيا على أكذوبة التنوير بينما رفاهيته والصورة التي روّجها كان بالفعل مبنيا على إبادة الشعوب واستعباد من يستطيع ونهب ثروات القارات.
المهم هنا أنه بالنسبة لنا المسألة أصبحت محسومة حول ضرورة التوجه شرقا. وسنحاول في هذه المقاربة عرض الخطوط العريضة حول إمكانية تحقيق ذلك (إذن الإجابة على “كيف”) وتحديد المعوقات لتحقيق ذلك.
كيف؟
إذا كان السؤال بسيطا فإن الإجابة معقّدة ومركّبة في آن. التعقيد والصعوبة يكمنان في تحديد المشاريع التي ستؤدّي إلى الانفتاح والتشبيك، وإلى الآليات التي يجب إيجادها إن لم تكن موجودة، وإلى تجاوز العقبات التي تقف في وجه ذلك التوجّه والذي سنخصص له الجزء الأخير من المقاربة. ونضيف على تعقيد وصعوبة الموضوع الظرف الاقتصادي والاجتماعي الضاغط في لبنان الذي يفرض إيجاد حلول سريعة تساهم في تخفيف وطأة الأزمة.
نقول منذ البداية أن التوجه شرقا هو خيار يمثل قطيعة مع موروث سياسي وتاريخي أوجده المستعمر وإرسالياته التربوية والثقافية. ويمثل سياسات عامة وتفصيلية على مراحل متعددة تتطلّب قوى سياسية قادرة وراغبة في الانخراط في هذا الخيار والبرامج الناتجة عنه. فإذا سلمّنا جدلا أن تلك الصعوبات خارج إطار التحليل بمعنى أنها لا تشكل عائقا فكيف يمكن إنجاز التوجّه شرقا.
أولا-العروض الشرقية.
في البداية، هناك محوران متلازمان في التوجّه شرقا. المحور الأول هو تلقّي العروض الشرقية في إعادة تأهيل البنى التحتية في لبنان سواء كان مصدرها روسيا أو صينيا أو إيرانيا. أما المحور الثاني فهو الانفتاح على سورية بشكل مختلف عما كان عليه في السابق وبمعنى أوسع التشبيك مع سورية في مرحلة أولى ثم مع العراق والأردن في مرحلة ثانية ومن بعد تحقيق ذلك مع سائر الدول العربية التي تريد التشبيك، وثم مع إيران وتركيا في مرحلة ثالثة، ورابعا مع الصين وروسيا وعدد من دول الجنوب.
فيما يتعلّق بالعروض الشرقية فمصدر المعلومات هو ما نقلته وسائل الاعلام. وهذه المشاريع تتناول قطاع النفط والغاز من حيث التنقيب والاستخراج، قطاع الطاقة الكهربائية من حيث إعادة تأهيل ما هو موجود وبناء مصادر جديدة للطاقة. وفي هذا القطاع بالذات هناك مشروع لإعادة تأهيل مصفاة طرابلس ما يعني أيضا إعادة تشغيل أنبوب النفط القادم من العراق. أما على صعيد شبكة المواصلات فهناك مشاريع لإعادة تأهيل الطرق وخاصة سكك الحديد. كما هناك مشاريع لتدوير النفايات وجعلها مصادر للطاقة. وهناك مشاريع لإعادة تأهيل مرفأ بيروت وطرابلس ومنها عروض شرقية وغربية في آن واحد. وهناك أيضا مشاريع لإعادة تأهيل مطار بيروت وإنشاء مطار آخر في الداخل اللبناني ربما في شمال البقاع أو سهل عكار.
جميع هذه المشاريع خارج إطار قدرة الدولة على تمويلها. كما هي خارج إطار قدرة القطاع الخاص اللبناني على المباشرة بها لما يرافقها من استثمارات ثقيلة وطويلة المدى. لكن عدد من هذه العروض تحتوي على تمويل يتم التسديد بالليرة اللبنانية ما يخفّف الحاجة إلى العملة الأجنبية. والتسهيلات المعروضة في الدفع تجعل عبء الدين الذي سيترتب على الدولة اللبنانية يمتد إلى سنوات عدة دون إرهاق مواردها. وهذه المشاريع يجب أن تدرس من قبل المختصين التقنيين اللبنانيين ثم عرض النتائج على الحكومة.
وهناك مشاريع تعرض بناء ثم تشغيل المرافق وبعد فترة يتم الاتفاق على تنقل الإدارة إلى الدولة. طيلة فترة الاستثمار تكون الدولة المالكة ولكن الشركة المستثمرة تكون هي التي تدير وتستعيد استثمارها وتعطي جعالة للدولة. هذا هو فحوى ما يُسمّى ب طريقة ال B O T.
لكن كل هذه المشاريع يجب أن يخّطط لها وفقا لأولويات محددة والباقي ضمن خطط رباعية أو خماسية أو سداسية. في رأينا، الأولوية يجب أن تكون لإعادة تأهيل مصادر الطاقة والمياه، ومعها شبكة سكك الحديد. في مرحلة لاحقة تتم إعادة تأهيل مرفأ بيروت تتلازم مع إعادة تأهيل مرفأ طرابلس الذي تمّ اهماله منذ الاستقلال وهو المرفأ الطبيعي الذي ينعم بعمق المياه لاستقبال البواخر العملاقة.
ثانيا-استراتيجية التشبيك
التوجّه شرقا يجب أن ترافقه استراتيجية تمكّنه من تحقيقه. وهذه الاستراتيجية تتضمّن إجراءات فورية وأخرى متوسطة وطويلة المدى. فعلى صعيد الإجراءات الفورية المطلوب هو إعادة العلاقات مع سورية ليس فقط على الصعيد الدبلوماسي بل السياسي والأمني والاقتصادي والبيئي في آن واحد وذلك من منطلق أن النهوض في البلدين بعد الأزمات الزلزالية التي مرّ بها يتطلّب تفكيرا من نوع آخر يتضمن العمل المشترك على الصعيد الاقتصادي والأمني. هذه الإجراءات تشكل مضمون التشبيك بين لبنان والدول العربية ودول الجوار الإقليمي تمهيدا للتشبيك مع منظومة شنغهاي.
أ-الإجراءات الفورية وقصيرة الأجل
1-من ضمن الإجراءات الفورية تفعيل مجلس العلاقات اللبنانية السورية للبحث في القضايا الضاغطة التي تخصّ البلدين كقضية النازحين السوريين إلى لبنان وقضية مرور الشاحنات اللبنانية وذلك على سبيل المثال. والمجلس يبحث أيضا في تطوير شبكات الطاقة من الغاز والنفط والكهرباء لتسديد الحاجات المتبادلة ولتوثيق العلاقات التكاملية التي تسعى إلى تشكيل قاعدة اقتصادية متينة إنتاجية ومبدعة في شتىّ الميادين. كما يمكن إعادة أحياء اتفاقيات السوق العربية المشتركة المقرّة منذ الستينات من القرن الماضي والتي بقيت حبرا على ورق. هذا يعني أن الحكومة اللبنانية الحالية أو المقبلة مدعوة إلى المبادرة بكسر القطيعة الرسمية مع سورية وإن كان ذلك القرار سيغضب الحلف الغربي الصهيوني الرجعي العربي.
2-في هذا السياق ندعو إلى إنشاء الهيئة المشتركة للطاقة والغاز والنفط اسوة بما جرى في أوروبا عندما أنشأت بعد الحرب العالمية الثانية لجنة التعاون في الصلب والفحم (CECA) التي كانت العامود الفقري لمشروع السوق الأوروبية المشتركة. والهيئة تضم كل من لبنان وسورية والعراق والأردن في مرحلة أولى تليها فيما بعد دول الجزيرة العربية ووادي النيل والقرن الإفريقي والمغرب الكبير. بما أننا ندعو إلى التشبيك الاقتصادي فإن أنشأ تلك اللجنة ضرورة للتنسيق بين مختلف المشاريع التشبيكية وخاصة في القطاعات المذكورة.
ب-الإجراءات المتوسطة والطويلة الاجل
1-من ناحية أخرى يعمل مجلس العلاقات اللبنانية السورية على البحث في إعادة ربط سكة الحديد بين لبنان وسورية وإعداد دراسة جدوى إعادة تأهيل شبكة سكك حديد بين لبنان وسورية لجهة القطار السريع. هنا تكون التكنولوجية الصينية مطلوبة خاصة إذا ما ارادت الأخيرة امتداد طريق الحرير الجديد إلى كل من سورية ولبنان وللاستفادة من التواصل الفائق السرعة (hyperconnectivity). وهذا يعني ربط لبنان وسورية والعراق وإيران إلى الشبكة التي امتدت من الصين إلى باكستان.
2-كما يمكن للمجلس دراسة مشاريع مشتركة على الحدود اللبنانية السورية. من ضمن هذه المشاريع نقترح بناء مدينة نموذجية تكون قطبا اقتصاديا إقليميا للتنمية والتطور التكنولوجي. أما المشاريع الأخرى فقد تكون مشاريع صناعية مشتركة بالرأس المال واليد العاملة تتناول الصناعات التحويلية التقليدية إضافة إلى صناعات جديدة تعتمد التكنولوجيا الحديثة.
3-من ضمن المشاريع ذات الطابع الاستراتيجي بين البلدين ومن الضروري أشراك الدول العربية في المشرق العربي ودول وادي النيل والمغرب العربي هو إنشاء شبكة عنكبوتية خاصة ومحرّكات استكشاف (search engines) أي انترنت عربي للخروج من السطوة والهيمنة الغربية لأن ذلك هو الطريق للاستقلال التكنولوجي والنهوض الاقتصادي والاجتماعي.
ج-استراتيجية تربوية وتثقيفية جديدة
التوجّه إلى الشرق سيصطدم حتما بذهنية متجذّرة عند معظم اللبنانيين الذين يعتبرون الغرب مرجعا لهم. بما أن التوجه شرقا خيار استراتيجي فلا بد من إيجاد الأرضية الذهنية لتقبّل ذلك. لن يحصل ذلك إلاّ بعد إعادة النظر في البرامج التربوية السائدة على الأقل فيما يتعلّق باللغات للدول التي سنتعامل معها، وعلى تاريخ واقتصادات تلك الدول وعادتها. هذا برنامج طويل المدى وليس سهلا ولكنه ضروري لتغيير الحد الأدنى من الذهنية السائدة لتقبّل ما يقدّمه الشرق والجنوب.
د-استراتيجية إعلامية ملائمة
البرنامج التثقيفي التربوي عملية مستدامة وطويلة المدى. إلى أن تأتي ثمارها فلا بد من حملة إعلامية مركّزة تفسّر أبعاد ومنافع التوجّه شرقا وجنوبا. والحملة الإعلامية قد تكون بالوسائل التقليدية كما تكون عبر وسائل التواصل الاجتماعي. ومن ضمن مشاريع الخطة الإعلامية الاتفاق على كلمات تكرارية (buzzwords) تلخّص فحوى التوجّه شرقا.
المعوقات للتوجّه شرقا
التوجّه شرقا خيار استراتيجي بامتياز له حيثياته السياسية والاقتصادية والثقافية والتي عرضناها بشكل مقتضب في الجزء الأول لمقاربتنا تحت عنوان “لماذا”. من الواضح أن المعوقات الأساسية التي ستواجه مروّجي ذلك الخيار، ونحن منهم، هي سياسية بالدرجة الأولى. كما أن هناك معوقات ستفرضها مصالح القوى التي ستضرّر من ذلك الخيار والتي كانت تنعم بامتيازات احتكارية للوكالات الحصرية والارتباط مع المصالح الغربية في لبنان وفي المنطقة. وهناك أيضا معوقات لا تقلّ صعوبة وهي ثقافية الطابع بسبب الاحتلال الغربي للعقل والإرادة في لبنان الذي جعل الغرب مرجعا لتلك النخب الحاكمة وأو الطامحة للحكم. والموروث الثقافي الغربي كان على حساب الموروث الثقافي الشرقي بشكل عام والعربي الإسلامي بشكل خاص وبشكل أكثر خصوصية فيما يتعلّق بسورية والعراق وإيران. الجهل عن قصد أو عن عمد سبب في التردّد في مقاربة الخيار الشرقي.
أولا-المعوقات السياسية
ليس من السهل لدوائر القرار في الغرب أن ترى استثماراتها على مدى أكثر من قرن في لبنان تذهب في مهب الريح. فهذه الدوائر تعتمد على نخب قامت بتربيتها وتغذيتها وحمايتها لتأمين ديمومة الارتباط بالغرب. كما حرصت على أن يكون الاقتصاد اللبناني اقتصادا مكشوفا وتابعا للغرب وإن بدت ظواهر عكس ذلك في العقد الماضي. لقد بات واضحا أن الشريك التجاري الأول للبنان على الصعيد الدولي هو الصين بينما أوروبا تراجعت إلى المرتبة الثانية والولايات المتحدة إلى المرتبة السابعة. لكن إحصاءات التجارة الخارجية البينية لا تكشف كل شيء لأن لبنان يستورد أكثر من 90 بالمائة من احتياجاته. فهناك الارتباط العضوي بشرايين المال الغربية التي تفرض الوصاية على النظام النقدي والمالي في لبنان. من هذه الزاوية ندعو إلى إعادة بناء قطاع مصرفي لا يخضع للمشيئة الغربية ويفكّر مليّا بالتشبيك مع الشرايين الشرقية الصاعدة.
كما أن لبنان اعتمد النظام الريعي لبنيته الاقتصادية ما أدى إلى الكارثة الاقتصادية والمالية التي يعيشها. وهذه البنية الريعية ما قامت لولا الغرب لأن الأخير لا يريد مجتمعات منتجة بل مجتمعات مستهلكة لبضائعه وخدماته وثقافته. غير أن الغرب لم يعد لديه ما يقدّمه للعالم بشكل عام وللبنان بشكل خاص سواء الوعود الفارغة التي تهدف في آخر المطاف احكام سيطرته.
ويرى الغرب أن فرص لبنان للنهوض كبيرة خاصة في امتلاكه الثروات الغازية والنفطية التي يريد استثماراها بمفرده وليس مع أي شراكة شرقية وحتى عربية. لذلك لا نعتقد أن الغرب سيسلّم بالتوجّه شرقا وسيقوم بمحاربة ذلك التوجّه خاصة أنه يمتلك طابورا خامسا مكونا من النخب الحاكمة وحتى تلك التي تطمح إلى الحكم ضمن المنظومة القائمة. وأهم مكوّنات الطابور المذكور القطاع المصرفي المتمثّل بجمعية المصارف وحاكمية مصرف لبنان.
وجمعية المصارف كانت وما زالت راس حربة للسياسات الأميركية المجحفة باللبنانيين تحت حجة مكافحة الإرهاب وتبييض الأموال بينما في حقيقة الأمر هو محاصرة المقاومة خدمة للكيان الصهيوني.
الدليل على ذلك هو عدم اقدام النخب الحاكمة على تفحّص العروض التي قُّدمت للبنان من قبل إيران وروسيا والصين فيما يتعلّق بالبنى التحتية وتأهيلها وحتى التنقيب واستخراج الغاز والنفط. لم تتجرأ النخب الحاكمة على ادلاء بأي رأي. فلا تستطيع ترفض العروض المغرية والتي تساهم في نهوض لبنان ولا تستطيع قبولها لأنها تغضب الغرب.
وعلى الصعيد العربي هناك من يدفع لبنان للاستمرار بالتبعية للغرب خدمة لمصالحه السياسية التي لا ترى بعين الرضى تنامي النفوذ الاقتصادي والسياسي للجمهورية الإسلامية في إيران والصين وروسيا. وهذه الدول مرتبطة بدورها بالغرب وتخضع لقراراته وتنفّذ سياساته بل تساهم في محاصرة لبنان اقتصاديا.
ثانيا-المعوقات النفعية (المصالح الخاصة)
إذا كان واضحا أن الغرب وأتباعه في المنطقة لا يريدون أن يتوجّه لبنان شرقا وجنوبا وحتى عربيا فهناك عوامل داخلية تحول دون ذلك التوجّه. هذه العوامل تتمثل بشبكة المصالح الخاصة الاقتصادية والمالية وبطبيعة الحال السياسية الضيّقة التي ستعمل على إجهاض مشاريع التوجّه شرقا لأن لا مصلحة واضحة لها. فالبنية الاقتصادية القائمة التي تقوم على الوكالات الحصرية للشركات الغربية على سبيل المثال لا تستطيع التكيّف مع العروض الشرقية حيث لا وكالات حصرية ممكنة حتى الآن بل تعامل مباشر مع الدولة. لكن ما يمكن أن يخفّف من حدّة عداء المصالح الخاصة للتوجّه شرقا هو قدرة النخب على التكيّف مع موازين القوّة الجديدة التي سيفرضها التوجّه شرقا إذا ما كانت المعادلة الإقليمية تقضي بذلك. فهذه النخب لا تحكمها المبادئ ولا المصلحة العامة بل مصالحها الخاصة وبالتالي عندما سترى ان آفاق التوجّه شرقا ستتيح لها فرصا جديدة فستحمل اللواء لذلك التوجّه!
ثالثا-المعوقات الثقافية (الاستعمار الثقافي والجهل)
إذا كانت المصالح السياسية الغربية والمصالح الذاتية للنخب الحاكمة في لبنان تشكّل معارضة وازنة للتوجّه شرقا فما يُساعدها في ذلك البعد الثقافي السائد عند النخب تجاه الشرق. فمن جهة هناك موروث ثقافي ناتج عن التغريب المفرط في الثقافة اللبنانية وذلك منذ عهد المتصرّفية في لبنان وصل ذروته في حقبة الانتداب الفرنسي. ومن جهة أخرى هناك جهل موضوعي للشرق وللجنوب متجذّر في التصوّرات النمطية للشرق روّجها المستعمر الغربي. فالغرب استطاع أن يروّج لنمط استهلاكي للحياة والرفاهية لم يقابله نمطا شرقيا أو جنوبيا له. والمفارقة أن الاستهلاك اللبناني كما الاستهلاك الغربي هو للسلع التي يصنّعها الشرق. فالغرب تنازل عن تصنيع السلع ليكرّس جهوده على الخدمات المالية الريعية. الشرق أصبح مصدر الإنتاج وسخرية القدر تكمن في التوجه إلى الغرب لاستهلاك سلع يصنعها الشرق!
عندما يصبح مقبولا السفر إلى بيجينغ أو نيودلهي أو موسكو أو طشقند أو كاراكاس أو دار البيضاء أو الجزائر أو ريو دي جانيرو بدلا من السفر إلى باريس أو روما أو لندن أو نيويورك فعندئذ يمكن القول أن الشرق أصبح قيمة مستبطنة في الوعي اللبناني! ربما هنا التركيز على نساء لبنان قد يكون مفيدا لدورها الأساسي في التأثير على رجالها! فالسلع التي تشتريها من تلك الدول مصنّعة في الشرق.