القمم العربية الصينية .. وأبعادها التاريخية | بقلم مسعود أحمد بيت سعيد
لا شك بأن القمم العربية الصينية التي احتضنتها العاصمة السعودية الرياض خلال الأيام القليلة الماضية تمثل بحد ذاتها تطور نوعي سواء من حيث الشكل، أو من ناحية المضمون، والتي املتها معطيات دولية جديدة وصفها الرئيس الصيني بانها غير مسبوقة منذ مئة عام. فمن حيث الشكل فإن الاندفاع الجماعي نحو القطب الأهم عالميا مسألة ذات أبعاد ومدلولات مهمة، وتنم عن تبلور تفكير سياسي جديد ؛ خصوصا وأن المنطقة سبق وأن استضافت عبر تاريخها قمم ذات وظائف مختلفة لطالما كانت محل استهجان وخاصة من قبل الشعوب العربية التي لم تعد تفهم كيفية صياغة الخيارات الإستراتيجية ونمط العلاقات الدولية التي تقوم بالنقيض من مصالحها.
ومن حيث المضمون فإن الموضوع مركب حيث أن الأنظمة العربية أو معظمها على الأقل ترتبط بعلاقات تاريخية مع الولايات المتحدة الأميركية وقد قدمت خدمات جليلة في خدمة الإستراتيجية الأميركية طيلة نصف قرن أو يزيد، وهو ما قاد المنطقة العربية كلها مع مرور الأيام إلى تبعية نتج عنها إهمال و تأجيل المشاريع الخاصة إلى حين الانتهاء من المشروع الأميركي الذي لن ينتهي إلا بانتهاء الولايات المتحدة الأميركية نفسها.. ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية جندت الولايات المتحدة الأميركية معظم دول العالم في خدمة أهدافها المتمثلة في مهمة حصرية وهي إسقاط الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي وكل من يقف في وجه هذه المهمة على الصعيد الإقليمي والدولي يصبح بالضرورة ضمن دائرة الاستهداف الأميركي، كان الصراع ساخن مارست ضمنه الولايات المتحدة ضغطا كبيرا على حلفائها الذين زجوا في هذه المواجهة دون حد أدنى من الواقعية السياسية والاستراتيجية حيث مساندة إمبراطورية امبريالية استعمارية وحشية لا ترحم بحجم أميركا يعتبر انتحار سياسي.
وقد عبر أكثر من مسؤول خليجي عن طبيعة هذا التحالف ودورهم في تنفيذ الأجندة الأميركية، حيث تم حشد الجهد الاقتصادي والمالي والسياسي والعسكري والروحي في خدمة هذه الإستراتيجية، وقد حسمت الولايات المتحدة الأميركية هذه المواجهة التاريخية بانهيار المعسكر الاشتراكي كما هو معروف.
واذا كان الواقع لا يعرف الثبات الا بالمعنى النسبي فإن المستجدات الدولية تفرض نفسها على أي تفكير منطقي سليم. وبالفعل، أصبح من غير الممكن أن تبقى العلاقات الدولية على وتيرتها السابقة ؛ حيث عالم جديد بدأ يتشكل والمحاولات العالمية جادة في اعادة تموضعها من جديد وفق رؤى استراتيجية جديدة تأخذ مصالحها بعين الاعتبار، وحيث أن التجربة أثبتت بأن التحالفات السابقة لم تقدم سوى الانهيارات السياسة والاقتصاد والاجتماعية والأمنية وأن الارتهان لدفع فاتورة الحروب الإمبريالية الأميركية أصبح غير ممكن دفعه من الجيب الخليجي الذي يواجه استحقاقات اجتماعية وتنموية ضاغطة. والآن هل ما يجري هو تكتيك أم تحول استراتيجي ؟
اعتقد من المبكر جدا التنبؤ بالتحولات الإستراتيجية حيث ان التركيبة الداخلية للبرجوازية الكمبرادورية والطفيلية العربية بشكل عام والخليجية بشكل خاص ذات الارتباط الكبير بالدوائر الغربية غير مستعدة لحسم قرارها بشكل جدي لجهة مغادرة خياراتها الإستراتيجية السابقة وتتوجس من محاولة إدخال الصين الاشتراكية الى المنطقة وفي الوقت ذاته تتطلع الى دور في واقع جديد لا يكمن تجاهل ملامحة الأساسية ورغم ذلك نستطيع ان نلحظ تغريدات خارج السرب هنا وهناك وهي محاولات خجولة للخروج من المظلة الأميركية بدأت تأخذ طريقها التدريجي.. وتأتي هذه القمم في هذا الإطار ولكن بصرف النظر عن الاتفاقيات وحجمها واحلامها فهي لن تأخذ مداها العملي دون قطع الخيوط الروابط الإستراتيجية مع الإمبريالية الغربية والأميركية تحديدا وإجراء مراجعة نقدية جادة لطبيعة العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية ووضعها في الميزان الاستراتيجي من على قاعدة الربح والخسارة.. وبطبيعة الحال فإن الشراكة الاقتصادية مع الصين الشعبية مريحة و مختلفة وهي قائم على معادلة رابح _ رابح على حد قول البروفسور بيار الخوري.
حيث تعطي الصين الابعاد الثقافية والتجارية الأولوية دون أن يؤدي ذلك إلى التموضع السياسي وهي مقاربة جديدة في العلاقات الدولية تبدأ في الجانب الثقافي والاقتصادي ثم تعكس نفسها في الجانب السياسي والأمني دفاعا عن المصالح الاقتصادية المشتركة.. بينما المقاربة الأميركية تبدأ في الشأن السياسي ثم تترجم في الشؤون العسكرية والأمنية والاقتصادية.
لقراءة الأجزاء العشرة السابقة من ملف القمم العربية الصينية : اضغط هنا