٧٦ عاماً على الاستقلال: لماذا فشلت ديمقراطية “على القياس” في لبنان؟
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
لست من داعمي الديمقراطية بالمطلق، فالديمقراطية هي فِكر قبل ان تكون ممارسة، وبالتالي هي لا يمكن ان تنجح إلا إذا كانت مقرونة بذهنية محددة تنطلق من مبدئين أساسيين. الاول هو مبدأ الاعتراف بوجود رأي آخر، والثاني قبول أن هذا الرأي يجب أن يدخل في معادلة الحكم والحوكمة. من هنا تأتي حتمية وجود موالاة ومعارضة في صلب هذه اللعبة، لهدف خلق توازن وتأثير في قرارات الفريق الحاكم بطريقة تمنع تحول الديمقراطية إلى دكتاتورية الأكثرية.
إنطلاقاً من هذا المفهوم، نرى أن الديمقراطية في لبنان، وإن كانت من أفضل الديمقراطيات في المنطقة، فإنها لم تعدو كونها ديمقراطية توافقية في أفضل الأحوال، وديكتاتورية الأكثرية في معظم الأوقات. فمن حيث أنها كانت ديمقراطية توافقية، فإنها قد مهدت الطريق إلى نموذج حكم “على القياس”، يناسب لبنان ومكوناته، كما ويتجاوب مع الديناميكيات المتجاذبة للقوى الإقليمية والعالمية التي تؤثر على البلد بالمطلق. أما في الأوقات التي كانت فيها الديمقراطية هي ديكتاتورية الأكثرية، فإنها أيضاً أفرزت نموذج حكم “على القياس”، لكنه خارج عن المألوف مقارنة بالبلدان التي يمارس فيها هذا النوع من الديمقراطية. فبدل أن يتمثل هذا النوع من الديمقراطية بديكتاتورية الحزب الحاكم، أو بديكتاتورية الدين أو الطائفة، مورست هذه الديمقراطية من خلال دكتاتورية الرأسمالية. وإذا أمعنا في التحليل، نجد أنه هناك شبه تزاوج بين الديمقراطية التوافقية في لبنان ودكتاتورية الأكثرية اللتين عادةً ما اعتمدتا، لجهة أنهما كلاهما أديا إلى سيطرة القوة الرأسمالية على البلد بكافة مقوماته السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية.
هكذا أصبح كل شيء على القياس. فحيث نكون على اتفاق حول توزيع الغنائم على الرأسمالية الحاكمة، تكون كافة الأمور على ما يرام. أما حين نختلف على توزيع هذه الحصص، تنتفض فينا كافة الأفكار والإيديولوجيات الوجودية، ويعود كل واحد من الطبقة الرأسمالية الحاكمة إلى أصله. فيرجع الإشتراكي إشتراكياً، والقومي قومياً، والطائفي طائفياً، واليميني يمينياً، والشيوعي شيوعياً، والفوضوي فوضوياً. وهكذا مورس الحكم في “لبنان ما بعد الحرب” داخل مساحة تتراوح بين التوافق والديكتاتورية والتنازع، إلى التوافق مجدداً. دائرة مفرغة من السلوكيات الطفولية والعلاقات الشَرطية الخالية من بعد النظر والمحصورة بالمصالح الشخصية الضيقة التي لا تأبه لا بالوطن ولا بالمواطن ولا بالمواطنة. ما فعلته الديمقراطية التوافقية وديكتاتورية الرأسمالية في لبنان الحديث هو أنها سلمت زمام الأمور إلى مجموعة من الأطفال بأجسام أُناس بالغين، فحُكِمَ على لبنان الفكر والحضارة بالموت. أطفال لا يأبهون إلا باللعب والفوز على بعضهم البعض، والتشاطر بين بعضهم حول من يقدر أن يدمر مقومات البلد ويغرقه تحت مسميات مختلفة لا تخدم إلا حساباتهم المصرفية “وبس”.
يؤسفني أن أقول هذا، ولكن كل شيء يعود إلى أصله. ففي خضم هذه المحنة التي أوصلنا إليها حفنة الأولاد هؤلاء، فإن سلوكهم لا يرقي إلى مستوى الحالة الحرجة التي وصل إليها لبنان. وكيف يرتقون إذا كان كل إناءٍ ينضح بما فيه، فما يخرج من الولد لا يمكن أن يكون إلا سلوكاً “ولادياً”.
لقد فشلت الديمقراطية الحديثة في لبنان، ربما ليس بسبب أن هذه الإيديولوجية سيئة، ولكن لأن ما مورس منها كان سيئاً. لعل العديد يبررون هذا الأمر بأن تركيبة لبنان لا تسمح إلا بهذا النوع من الديمقراطية، ولكني أرفض هذا التبرير السطحي. فإن الإنسان يعيش على قدر توقعاته. فإذا استمرينا بالقول أن المشكلة هي في التركيبة، فإننا سنسعى دائماً إلى تبرير الممارسات الخاطئة، والمقاربات المشوهة في السياسة والإقتصاد والمجتمع بحجة أن التركيبة لا تسمح لنا إلا بذلك. وكأن الشخص يبرر السرقة بحجة الكسل! لقد فشلت الديمقراطية الحديثة في لبنان لأن جميع من في هذا البلد عاش بعد الحرب على قدر التوقعات. فالسياسي عاش على توقع أن لا أحد سيحاسبني، فلأفعل ما أشاء؛ والمصرفي عاش على توقع أنني أملك المال والجميع بحاجة لي، فلأرسم وأهندس كما أشاء؛ والقطاع العام عاش على توقع أنه لدي فرصة لأغتني دون محاسبة، فلأرتشي كما أشاء؛ والتاجر عاش على توقع أن لا أحد يراني، فلأغش كما أشاء؛ والمواطن عاش على توقع أن لا أحد يهتم، فلأدبر أمري كما أشاء. وفي نهاية الأمر كان الخاسر الأكبر هو لبنان. لقد فعلت فينا الديمقراطية التوافقية كما فعل الفلاح بإوزته التي تبيض ذهباً. ظن، بسبب طمعه، أنه إذا ذبحها “من الآخر” سيحصل على كل الذهب الموجود داخلها، ولم يفكر هذا الغبي أن الإوزة تعطيه ذهباً فقط إذا كانت على قيد الحياة!
لقد وزع الأولاد في الحكم، تحت شعار الديمقراطية التوافقية، كل الذهب الذي أعطاهم إياه لبنان على بعضهم البعض، ولكن كل هذا لم يشف غليل طمعهم، بل ظنوا أنه إذا ذبحوا لبنان سيتمكنون من أخذ كل الذهب الذي فيه – ولعل هناك من يفكر بهذا الأمر واقعياً، أعني إحتياط الذهب في مصرف لبنان – ولكنهم ربما غفلوا أنه عندما يموت لبنان لا يمكن أن يعطيهم أي ذهب بعد.
ويبقى ما هو أسوأ من ذلك، فالديمقراطية التوافقية وشريكتها دكتاتورية الأكثرية الرأسمالية ربطتا الجميع في بوتقة واحدة بحيث لا يمكن لأحد أن يفلت من دائرة الإتهام. فمن لم يسرق، شجع، ومن لم يشجع، تجاهل، ومن لم يتجاهل، صمت، وبهذا يكونوا جميعاً مشاركين في الجريمة. فكيف يكون الحل؟ فهم لن يُدخلوا أنفسهم إلى السجن. هم بالأصل لم يبنوا سجوناً لائقة حتى يدخلوا إليها. ذبحوا لبنان طمعاً بذهبه، فلم يبقى لبنان ولم يبقى ذهب. والطامة الكبرى أنهم لا يروا ما أفضت إليه أيديهم حتى أنهم يرفضون الإعتراف.
أما نحن البائسين فقد حكم علينا بالانتهاء، لأن لبنان هواءنا وماؤنا، فإذا لا يكن لبنان لا يمكن أن نكون.
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا