نستكمل الحديث عن واقع طبّ وجراحة القلب في فرنسا حاليًا ونغوص في تفاصيل هذا الواقع مع قصّة تحاكي التطورات الهائلة التي شهدتها هذه الجراحة خلال العشرين سنة الأخيرة وذلك من خلال الغوص في مراحل تطوير عملية استبدال الصمام الأبهر للقلب التي كان بطلها رائد من روّاد الطب التدخلي الأساسيين في فرنسا وهو البروفسور آلان كريبيه ( Professor Alain Cribier)، الذي ثابر على مدى اكثر من 17 سنة من العمل الدؤوب والأبحاث في إيجاد حلّ علاجي لمرض إنسداد الصمام الأبهر للقلب.
وبعد مروره أثناء كل تلك المرحلة الطويلة بمحطات عدّة اختلطت فيها في الكثير من الأحيان أحاسيس النجاح بمشاعر الإحباط والتراجع، نجح في إحداث الخرق الكبير وحقّق حلمه الذي كان له الأثر الكبير في تغيير مسار ومستقبل طب وجراحة القلب كما سنرى من خلال هذه المقالة التي تلخص أهم محطات تطوير هذه التقنية كما وردت على لسانه أثناء إجراء مقابلة علمية متخصصة معه بشأن هذا الموضوع.
في البداية لا بدّ من التذكير بأن اطباء وجراحو القلب قد احتفلوا منذ حوالي شهرين تقريبًا بـ ”ذكرى مرور عشرين سنة” على زراعة اوّل صمّام بيولوجي للقلب بالطرق التدخّلية، مكان الصمام الأبهر المريض والمُتكلّس، والتي قام بها كما ذكرنا سابقًا فريق البروفسور الفرنسي “آلان كريبيه” في المستشفى الجامعي في مدينة روان الفرنسية بتاريخ 16 نيسان 2002 بعد أن كان قد بدأ مشواره الشاق والطويل جدًا في تطوير هكذا تقنيات منذ العام 1985.
وهذا ما شكّل ثورة هائلة في مجال علاج مشاكل الصمام الأبهري للقلب- وترك وسيترك أكثر- في المستقبل تداعيات هائلة على حجم ومستقبل الجراحة القلبية لأن هذا الإختراع شكّل “مصدر إلهام كبير” لأطباء القلب التدخّليين لتطوير طرق جديدة لعلاج مشاكل الصمامات الأخرى للقلب كالصمام التاجي والصمام ثلاثي الشرفات، إضافة إلى عدة أمراض قلبية اخرى، وذلك بواسطة تقنيات مُقتبسة من هذا الإبتكار الرائع.
وبسبب كل ما حصل من تطورات مُتسارعة في العشرين سنة الأخيرة لها في معظمها إرتباط وثيق بهذا الإكتشاف، سنحاول في هذه المقالة إستعراض المراحل التي مرّ بها عمل البروفيسور كريبيه والمشاكل والتحديات التي واجهته والى أين وصلت الأمور بعد إنطلاق قطار التغيير الحقيقي في تاريخ طب وجراحة القلب تحديدًا في العام 2002 مع توسيع إستعمالات هذه التقنية التي لم يكن يحلم بروفسور كريبيه انها ستحقق هذا النجاح الهائل وستنافس الجراحة التقليدية للصمام الأبهر وستصيبها في مقتل كبير.
علمًا ان الدرس الأساسي الذي نستخلصه من هذه القصة هو أنه يجب علينا دائمًا المثابرة، وعدم القبول بتثبيط العزيمة وتقهقهرها مهما بلغت التحدّيات.
كذلك ويجب دائمًا مواجهة النقد، الذي قد يكون أحيانًا صعبًا وقاسيًا للغاية من الناحية الأخلاقية والمهنية! لأننا في النهاية لا بدّ من النجاح في تحقيق احلامنا والوصول الى حالة رضا كامل. والتفاصيل التي سنطّلع عليها في هذه المقالة ستظهر كل هذه الأمور لأن آلان كريبيه لم يكن يتوقّع يومًا ما أن يصل اكتشافه الى هكذا مرحلة من النجاح التراكمي والمستمر منذ حوالي العشرين سنة وان يتمّ علاج أو إنقاذ حياة حوالي مليون ونصف شخص تقريبًا حتى تاريخ نشر هذه المقالة في مختلف دول العالم التي وصلت إليها هذه التقنية المكلفة وأنها بداءت تهدّد بشكل كبير مستقبل جراحة القلب في هذا المجال تحديدًا (علاج انسداد الصمام الأبهر) بعد ان تبيّن مُؤخّرًا ان نتائجها تنافس الجراحة بشكل كبير عند المرضى ذوي “المخاطر الجراحية الخفيفة” وعند المرضى “غير المتقدّمين في السن” وهذا ما يُعتبر تطوّرًا نوعيًا هائلًا كما سنرى.
١-مقدمة:
في عام 2002، بدأ البروفسور آلان كريبيه من المركز الجامعي للمستشفى الجامعي في مدينة روان الفرنسية ثورة طبية عبر إجرائه عند الإنسان ولأول مرّة في العالم عملية تركيب او زرع الصمام الأبهر أو الأورطي عبر تقنيات التمييل او القسطرة : (Transluminal Aortic Valve Implantation: TAVI ).
وقد قام يومها بعملية علاج ذلك الصمام الأبهري المريض بصمّام اصطناعي بيولوجي مصنوع من غشاء قلب الثور، بدون جراحة باضعة لعظمة القصّ الموجودة في واجهة القفص الصدري. ودون اللجوء إلى الدورة الدموية خارج الجسم (ECC: Extra Corporeal Circultation) اي المضخّة القلبية-الرئوية الإصطناعية التي تضخّ الدم المشبع بالأوكسيجين الى داخل اعضاء الجسم أثناء العملية الجراحية.
TAVI وتتمتّع هذه التقنية بالعديد من المزايا:
– علاج المرضى بطريقة أقل غزوًا وتوغّلًا مُقارنة بجراحة القلب التقليدية.
– وبالتالي تقصير مُدّة الإستشفاء وجعلها تقتصر على 48 الى 72 ساعة في اغلب الأحيان وذلك بتجنب البنج العام الطويل المدّة والمرور في غرفة العناية المركزة.
وكما هو الحال مع الجراحة التقليدية للصمام الأبهر، تُوفّر تقنيات تخفيف الأعراض السريرية التي يشكو منها المريض عادة مع وجود إنسداد في الصمام الأبهر خاصة الآلام الصدرية وضيق التنفّس وإمكانية حصول حالات غياب عن الوعي، وذلك عن طريق الاستعادة الفورية للوظيفة الطبيعية للصمام. وكذلك تُحسّن متوسط العمر المُتوقّع للمريض ونوعية الحياة عنده اي انها تطيل عمره وتجعله يقضي اوقات افضل وبدون اعراض خطيرة.
٢-كيف بدأت الفكرة ولماذا؟
ان الصمّام الأبهر للقلب له وظيفة اساسية هي السماح ب وتسهيل مرور الدم من البطين الأيسر إلى الشريان الأبهر او الأورطي الذي يُوزّع الدم لكافة اعضاء الجسم، مع منع ارتجاعه.
وقد لاحظ كريبيه والكثير من اطباء القلب باكرًا ان الكثيرين من المرضى الذين يعانون من إنسداد مُتقدّم في الصمام الأبهر متركون لقدرهم المحتوم اي حصول الوفاة في حوالي 80% من الحالات خلال فترة سنتين من تشخيص المرض دون إمكانية إستعمال اي علاج فعّال عندهم.
وفي فترة الثمانينيّات من القرن الماضي كان حوالي ثلث المرضى الذين يعانون من هكذا مرض يُرفضون من قِبل الجراحين لأسباب لها علاقة بتقدّمهم في السنّ.
وكان 1% فقط من المرضى الذين تعدّى عمرهم ال 75 سنة يخضعون لعمليات جراحية تقليدية من اجل زرع صمامات بيولوجية إصطناعية. والباقون من المرضى يتوفون بسرعة نتيجة الأعراض الخطيرة الناتجة عن إنسداد الصمام.
لذلك فكّر كريبيه بحلّ لهؤلاء المرضى وابتكر عمليات توسيع الصمام الأبهر بواسطة البالون Aortic Valvuloplasty عبر إدخال بالون من منطقة شريان الفخذ وإيصاله الى منطقة الصمام الأبهر ونفخه هناك لتوسيع الصمام وفتحه. وقد اجرى فريق كريبيه اوّل عمليات من هذا النوع في مدينة روان الفرنسية في العام 1985. وسرعان ما انتشر إستعمال هذه التقنية الى كل انحاء العالم كعلاج للأعراض الناتجة عن هذا المرض عند المرضى الذين لا يُمكن اللجوء للجراحة عندهم. ولكن اطباء القلب لاحظوا بسرعة العقبات الكبيرة والتحدي الكبير الذي يواجه هذه التقنية والمتمثّل بمعاودة إنسداد الصمام بسرعة وخلال أشهر فقط من إجراء عملية التوسيع بالبالون.
وكان ذلك في التسعينيّات من القرن الماضي. لذلك اخذوا يفكّرون بطريقة انجع وافضل لعلاج هذا المرض. ولهذا السبب فكّر كريبيه بزرع صمام إصطناعي بيولوجي عن طريق إستعمال ذات الطريقة اي عبر التمييل او القسطرة، بدل إستعمال البالون فقط لأن نتائج التوسيع بالبالون سرعان ما كانت تنحسر خلال شهرين او ثلاثة على الأكثر بعد اجراء العملية.
وقد كانت الإمكانية الوحيدة لزرع صمّام عبر مسار الفخذ هي أن يكون لدى طبيب القلب صمام يُمكن ضغطه او جمعه على بالون، وذلك لتقليل القطر وبالتالي الحجم، والسماح بإدخاله عبر الشريان الفخذي، ثم تمرير الجهاز الذي يحمل ذلك الصمام داخل الشرايين وايصاله الى منطقة الصمام المصاب وزرعه او تركيبه هناك عن طريق نفخ. البالون وبذلك يتمّ فتح الصمّام الذي يبقى في مكان الصمام المريض المسدود ويبدأ بالعمل مباشرة بعد فتحه.
في ذلك الوقت ومع بدايات تطوير تلك العمليات، كان هناك إمكانية فقط لتصميم صمام له قياس او حجم واحد فقط: قطره 23 ملم عند توسيعه بالكامل. تم تثبيته في مكانه بواسطة التكلّسات الموجودة في منطقة الصمام الأبهر. كانت نتائج العمليات العملية رائعة وآمنة منذ البدايات، ولكن كان لا بُدّ من إثبات ذلك من خلال دراسات تشريح الجثة للأشخاص الذين ماتوا بسبب تضيق الأبهر، في الحالات التي كان التشريح فيها مُمكنًا.
ومن هناك، تمكّن فريق كريبيه من المضي قُدمًا.
في البداية، وفي مراحل التجارب الحيوانية كان الصمام مصنوعًا من البوليمر. وقبل الإنتقال إلى البشر، اختار فريق المهندسين العاملين مع كريبيه صمامًا بيولوجيًا مُشتقًا من غشاء قلب الثيران يُشبه الصمام الأبهري العادي المُكوّن من 3 وريقات. تمت الموافقة على إستعمال غشاء قلب الثيران من قِبل السلطات الصحية المعنيّة بإعطاء الموافقات لأن هذا الغشاء كان مُعتمدًا اصلًا في صناعة الصمامات البيولوجية التي كان الجراحون يستعملونها منذ زمن طويل في جميع أنحاء العالم ؛ يتم استخدامه في التعويضات الحيوية الجراحية.
تم تصنيع العديد من النماذج الأولية التجريبية الى ان تمّ الحصول على الصمام المثالي الجاهز للإستعمال البشري وانتظر الفريق الوقت المناسب للبدء بهكذا عمليات..
عامًا من التجارب والتطوير والأبحاث قبل إجراء العملية الأولى عند البشر!؟
لم يتمّ التخطيط من قِبل فريق كريبيه لليوم الأوّل الذي جرّب فيه تقنية TAVI لأول مرة عند الإنسان وجاء ذلك تمامًا عن طريق الصُدفة.
لقد اختبر الفريق النماذج الأولية للمختبر الحيواني والتي تم تطويرها مع شركة ناشئة اسسها لهذا الغرض تحديدًا (PVT – Percutaneous Valve Technologies Inc) والتي تم إنشائها في عام 1999 في الولايات المتحدة، مع زميل له امريكي واثنين من المهندسين. وفي أحد الأيام، نُقل الى المستشفى الجامعي في مدينة روان الفرنسية مريضًا قادمًا من مدينة ليل وكان رجلًا يبلغ من العمر 57 عامًا مُصابًا بمرض تضيّق خطير في الصمام الأبهر، شديد للغاية وفي مرحلة مُتقدّمة وحرجة جدًا ولديه العديد من الموانع التي تمنع عنده إجراء أي عمل جراحي كلاسيكي. وكان ذلك هو سبب إرساله إلى مدينة روان. ليس لكي يتمّ زرع صمام عنده، بل لأجل إجراء عملية توسيع طارئة للصمام الأبهر بواسطة البالون، والذي واصل فريق كريبيه ممارستها في الحالات اليائسة.
وقد أجرى فريق كريبيه توسيعًا طارئًا للصمام الأبهر، ولكن دون جدوى لأن حالة المريض استمرت في التدهور مع العديد من حالات توقّف القلب أثناء العملية. ولذلك فقد وُضع كريبيه وفريقه في موقف حرج للغاية ولم يعد بإمكانهم القيام بعلمية توسيع اخرى للصمام الأبهر بواسطة البالون. ولذلك قرّروا وبسرعة إستعمال التقنية التي كانوا يعملون على تطويرها منذ اكثر من 12 عامًا. وقد تمّ تصنيع الصمام البيولوجي المطلوب لإجراء هذه العملية خلال عطلة نهاية الأسبوع وخلال ساعات فقط. وناقش الفريق الوضع الخطير مع المريض وعائلته، ومع مهندسي شركة PVT للنظر في عملية الزرع الأولى في ذلك الموقف اليائس. ولم تكن الظروف مثالية ابدًا لزرع هذا النوع من الأجهزة لأول مرة عند البشر! سارت العملية بشكلٍ جيد وكانت النتائج مذهلة وتحسّنت حالة المريض مباشرة بعد تركيب الصمام.
ويقول كريبيه عندما يستذكر ذلك اليوم ان الفريق شعر بتوتر شديد لأن هذا المريض كانت لديه كل عوامل الخطورة وكان وضعه سيء للغاية. وكان الفريق يشعر بأنه بعيد كل البعد عما كانوا يتخيّلونه للمريض الأول المثالي الأول الذي كان سيخضع لهكذا عملية؟!! كانت أسوأ حالة يمكن أن نتخيلها.
كان لدى ذلك المريض. جميع موانع عمليات. ولم يكن الفريق يعرف كل ذلك بعد! فقد كان لديه جلطة في قلبه وانسداد في شرايين الفخذ من الناحيتين اي على اليسار واليمين. ولذلك كان عليهم أن يبتكروا تقنية جديدة لوضع الصمام في مكانه، وهو ما لم يكن مُخطّطًا له أصلًا على الإطلاق. ولذلك فقد تمّ تمرير الصمام المنوي زرعه عبر الحاجز الموجود بين الاذين الأيمن والأيسر بعد ان تمّ العبور به عبر الوريد الفخذي وليس من خلال الشريان الفخذ.
لذلك كان تحديًا حقيقيًا لهذا الصمام الأول لأن الفريق لم يكن يعرف ما إذا كان سيتمكن من التغلب على كل العقبات التي واجهته. كان القلب خاملًا تقريبًا، وكانت قوة القذف للبطين الأيسر عند المريض مُنخفضة بشكلٍ خطير اذا كانت فقط بنسبة 10٪ بينما يجب تكون عادةً عند حدود ال70٪. كان الوضع في غرفة العمليات متوترًا بشكلٍ رهيب. وتمّ زرع الصمام عمليًا في حالة توقف القلب. وكان لا بُدّ من زرع الصمام بأقصى سرعة مُمكنة. وبمجرد وضع الصمام، إستعاد المريض لونه الطبيعي مع استعادة فورية لضغط الدم.
وفي اليوم التالي، نقلت الصحافة هذا العرض العالمي الأول وتمكّن المريض الذي كان يحتضر قبل 3 أيام من إجراء المقابلات مع الأعلام. حدث شيء مذهل حقًا وكانت هذه نقطة البداية للمغامرة.
ملاحظة: الصورة المُرفقة اُخذت في موسكو منذ نحو ٥ سنوات خلال احد المؤتمرات الطبية المُميزة حول “علاج امراض القلب بالطُرق التدخّلية” وهي تجمعني مع البروفسور الفرنسي Alain Cribier في وسط الصورة مع الطبيب الروسي الشهير Pr Bargat Alekyan مُنظّم المُؤتمر حينها وهو على يسار الصورة.
لمن فاتته متابعة الأجزاء السابقة:
- واقع الجراحات القلبية في لبنان والعالم في العام 2022 (1)
- واقع الجراحات القلبية في لبنان والعالم في العام 2022 (2)
- واقع الجراحات القلبية في لبنان والعالم في العام 2022 (3)
- واقع الجراحات القلبية(4) :جراحة الشرايين التاجية للقلب هي الأكثر رواجًا وأهميةً!
- واقع الجراحات القلبية (5) : التجربة الفرنسية بين الواقع الحالي والمستقبل!؟
- واقع الجراحات القلبية (6) : التجربة الفرنسية بين الواقع الحالي والمستقبل!؟