أزمة المناخ هي أيضا أزمة صحية عالمية | كتب غابي طبراني
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
تَغُيّرُ المناخِ مُضِرٌّ بصحّتِك. هذه هي النتيجة الواضحة لتقرير “العدّ التنازلي” السنوي للمجلة الطبية البريطانية “ذا لانسيت” (The Lancet)، والذي نشره الأسبوع الفائت فريقٌ من حوالي 100 عالم من 43 مؤسسة حول العالم. كتب المؤلفون أن الاحتباس الحراري ليس مُجرّد كارثة بيئية، ولكنه يُعرِّضُ البشر أيضًا للحرارة الشديدة والظواهر الجوية الحادة؛ يزيد انتقال الأمراض المعدية؛ يُفاقم انعدام الأمن الغذائي والمائي والمالي؛ يُعرّض التنمية المستدامة للخطر؛ ويُفاقم التفاوت العالمي. وخلصوا إلى أن البيانات الواردة في تقرير هذا العام يجب أن تُمثّل “رمزًا أحمر لمستقبلٍ صحّي”.
على مدى العامين الماضيين، كان وباء كوفيد-19 بطبيعة الحال هو محور التركيز الساحق لمناقشات الصحة العامة العالمية، حيث أصاب ما يقرب من 250 مليون شخص، بينما قتل أكثر من 5 ملايين وأحدث تقلّبًا في الاقتصاد العالمي. كانت الآثار الصحّية لتغيّر المناخ أكثر مكرًا ومراوغة، لكنها قاسية. سوف يمر الوباء، عاجلًا أم آجلًا، لكن التحدّيات الصحية الناتجة عن الاحتباس الحراري ستستمر لعقود، بل حتى لقرون.
حتى الآن، فشل زعماء العالم إلى حدٍّ كبير في معالجة التحديات الصحية الناجمة عن تغيّر المناخ. في الواقع، في بيانٍ مشترك صدر في أيلول (سبتمبر)، اعتبرت أكثر من 200 مجلة طبية هذا الإهمال السياسي “أكبر تهديد للصحة العامة العالمية”. لوقف هذه الاتجاهات وعكسها في نهاية المطاف، يجب على قادة العالم الاستفادة من مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ في غلاسكو (COP 26)، والذي انطلق يوم الإثنين الفائت (ويستمر أسبوعين)، من خلال الموافقة على تسريع إزالة الكربون من الاقتصاد العالمي وتوفير المزيد من الأموال للبلدان مُنخفِضة الدخل من أجل التكيّف مع تأثيرات الاحتباس الحراري على الصحّة العامة.
الآثار السلبية لتغيّر المناخ هي على السواء مباشرة وغير مباشرة، ولكن الأكثر وضوحًا هو تعرّض البشرية المتزايد للحرارة الشديدة، والتي يمكن أن تكون قاتلة، لا سيما لِمَن هم فوق سن ال65 عامًا والأطفال دون السنة. على الصعيد العالمي، وصلت الوفيات بين كبار السن التي تُعزى رسميًا إلى الحرارة المرتفعة إلى مستوى قياسي بلغ 345,000 في العام 2019، وفقًا لمجلة “ذا لانسيت”، وهو رقم بلا شك أقل من العدد الصحيح.
في حين أن البلدانَ الأكثر ثراءً لم تَسلَم – كما تشهد “القبّة الحرارية” غير العادية التي شَوَت شمال غرب المحيط الهادئ للولايات المتحدة هذا الصيف – فإن الدول النامية هي التي تتحمّل العبء الأكبر، حيث يُعاني العمال الزراعيون أكثر من غيرهم. في بعض الأحيان، تجعل الحرارة العالية من المستحيل العمل. خلال العام 2020، فقدت الهند وبنغلاديش وباكستان أكثر من 200 ساعة عمل لكلّ شخصٍ عاملٍ بسبب ارتفاع درجة الحرارة. وهذا يعادل أكثر من خمسة أسابيع عمل مدة كل منها 40 ساعة لكل عامل. وبالتالي، تؤدي الحرارة إلى تفاقم الفقر، ما يؤدي بدوره إلى نتائج صحية سيّئة. وإلى جانب الآثار الجسدية، فإن الحرارة المرتفعة تؤدي إلى خسائر فادحة في الصحة العقلية، الأمر الذي يشجع على التفكير في الانتحار وأشكال أخرى من المعاناة النفسية.
الواقع أن الاحترار العالمي يُعرّض البشر أيضًا لظواهر الطقس المتطرفة، وانعدام الأمن المائي والغذائي، والنزوح والتهديدات الجديدة للأمراض. منذ العام 2000، ارتفعت مخاطر حرائق الغابات بشكلٍ حاد، ما عَرّض السكان لأخطارٍ فورية بالإضافة إلى الآثار المُنهِكة طويلة المدى لاستنشاق الدخان. كما ارتفع معدل حدوث الكوارث الطبيعية المُميتة مثل الأعاصير منذ العام 2000، في حين أن حالات الجفاف تتزايد في “تواترها وشدتها ومدتها”، وفقًا لتقرير “ذا لانسيت”.
في الوقت عينه، يُعاني 19 في المئة من سطح الأرض الآن من الجفاف في أي شهرٍ مُعَيَّن، وهو اتجاهٌ يُهدّد الوصول الموثوق إلى الماء والغذاء. على الصعيد العالمي، انخفضت غلّة المحاصيل الأساسية مثل الذرة وفول الصويا والقمح الشتوي والأرز مُقارنةً بمستويات 1980-2010. كما يُهدّد ارتفاع درجات حرارة المحيطات وتحمّض المحيطات مصادر الغذاء البحرية التي يعتمد عليها 3.3 مليارات شخص في التغذية وسُبُلِ العيش، لا سيما في البلدان النامية. إجمالًا، خلال العام 2019، كان حوالي مليارَي شخص -أكثر من ربع البشرية- يعانون من انعدام الأمن الغذائي، كما وجدت مجلة “ذا لانسيت”.
بشكلٍ تراكمي، من المرجّح أن تؤدّي هذه الاتجاهات إلى زيادةٍ في عدد “المهاجرين بسبب المناخ”، مع عواقب صحّية سلبية لأولئك الذين اقتُلِعوا من ديارهم. ومن بين الفئات الأكثر ضعفًا أولئك الذين يعيشون حاليًا في مجتمعاتٍ ساحلية تقع على ارتفاع أقل من متر فوق مستوى سطح البحر، ويُقدَّر عددهم بنحو 146.6 مليون شخص. وأوضحت مجلة “ذا لانسيت” أن أكثر من 400 مليون آخرين يعيشون على ارتفاع أقل من 5 أمتار فوق مستوى سطح البحر يواجهون اليوم “مخاطر متزايدة من الفيضانات والعواصف الشديدة وتملّح التربة والمياه”.
أخيرًا، يشير التقرير إلى أن تغيّرَ المناخ يزيد من تعرّضِ الإنسان لبعضِ الأمراض المُعدِية، بما فيها مسبّبات الأمراض المنقولة بالمياه والفيروسات المنقولة من طريق البعوض والقراد والمفصليات. بفضل ارتفاع درجات الحرارة العالمية والتنقل والتحضّر، تَضاعَفَ معدل الإصابة بحمى الضنك، وهو مرض فيروسي ينتشر من طريق البعوض، كل عقد منذ العام 1990. كما أدّى الاحترار العالمي إلى زيادة النطاق الجغرافي ل”المُتصوّرة المنجلية” (Plasmodium falciparum)، وهي أخطر أنواع الطفيليات المُسبِّبة للملاريا، بما في ذلك المناطق المرتفعة التي كانت بعيدة المنال. وفي الوقت نفسه، أدّت درجات الحرارة المرتفعة والتغيّرات في ملوحة سطح المياه الساحلية إلى خلق ظروفٍ أكثر مُلاءمة لانتقال البكتيريا المسؤولة عن الكوليرا والأمراض الأخرى التي تنتشر عبر المياه.
ردًّا على هذه التهديدات، دعا مؤلفو التقرير في “ذا لانسيت” الدول إلى الاستثمار في عمليات التكيّف المناخي المُتعلّقة بالصحة؛ ربط جهود التخفيف بأولويات الصحة العالمية؛ تسريع الانتقال إلى اقتصاد عالمي ما بعد الكربون؛ وتوسيع نطاق المشاركة العامة والخاصة للحد من التفاوتات الصحية العالمية التي تفاقمت بسبب تغيّر المناخ. في حين أن عددًا من البلدان قد أدرج الاعتبارات الصحية في استراتيجيات التكيّف الوطنية الخاصة بها، فقد تم توجيه نسبة ضئيلة فقط من التمويل الفعلي لتحسين النُظُم الصحية -0.3 في المئة- أو إلى مبادرات أوسع تتعلق بالصحة -5.6 في المئة. وقد تعهّد المانحون الدوليون بدفع 100 مليار دولار للتمويل الأخضر سنويًا، وتخصيص نصف هذا المبلغ للتكيّف. للمضي قُدُمًا، يجب على كلٍّ من الدول المانحة والمُتلقّية توجيه جزءٍ كبيرٍ من هذه الموارد إلى مرونة الصحة العامة.
في موازاة ذلك، يجب على البلدان تسريع جهودها للتخفيف من تغيّر المناخ وإقامة علاقة صريحة بين هذا التخفيف والنتائج الصحية العالمية الإيجابية. إن التخلص التدريجي من الفحم والانتقال إلى الطاقة النظيفة، على سبيل المثال، يَعِدُ بتقليل الوفيات من تلوّث الهواء المُحيط، الذي يقتل ما يقدر بنحو 3.3 ملايين شخص سنويًا. وبالمثل، فإن التحوّل نحو إنتاجٍ زراعيٍّ أكثر استدامة، بما في ذلك تقليل استهلاك اللحوم الحمراء، سيؤتي ثماره الغذائية وكذلك المناخية.
سيتطلّب تحقيق هذه الأهداف الصحية بالطبع مستوى أعلى بكثير من الطموح المناخي الذي أظهره القادة السياسيون حتى الآن. لقد أشادت الحكومات الوطنية باستراتيجيات “التعافي الأخضر” التي من المفترض أن تساعدها على تحقيق هدف اتفاقية باريس المتمثل في الحدّ من متوسط الاحترار إلى 1.5 درجة مئوية، وهو هدفٌ يعني خفض الانبعاثات إلى النصف في تسع سنوات فقط وتحقيق حيادية الكربون بحلول العام 2050. هذه التصريحات جوفاء. وفقًا لآخر تقرير “فجوة الانبعاثات” الصادر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة، والذي صدر في الأسبوع الفائت، من المتوقّع أن ترتفع درجات الحرارة العالمية 2.7 درجة فوق مستويات ما قبل الصناعة بحلول العام 2100، مع عواقب وخيمة على رفاهية الإنسان. في وتيرته الحالية، لن يستطيع العالم إزالة الكربون بالكامل لمدة 150 عامًا.
في الوقت الذي يسعى العالم للخروج من وباء كوفيد-19، فإنه يواجه خيارًا مصيريًا. يمكن أن يُحبَس الاقتصاد العالمي في مسار الانبعاثات الذي تقول مجلة ذا لانسيت “سيضرّ بصحة الأجيال الحالية والمقبلة”. أو يمكنه متابعة الانتعاش الأخضر الذي يعزز صحّة كل من الأرض وسكانها. وكما قال منسق المناخ والصحة في منظمة الصحة العالمية، ديارميد كامبل-ليندروم، في العام 2018: “إذا كان الرسم البياني لدرجة حرارة الشخص يشبه كوكبنا، فيمكنك التدخّل. لن تنتظر [حتى] تشريح الجثة”.
رابط المقال الأصلي : اضغط هنا