الزراعة الرقمية …. فرص واعدة للإستدامة والأمن الغذائي | بقلم مازن مجوّز
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
غيرت الثورة الزراعية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر طرق عمل الزراعة بشكل جذري، فسهلت مكننة الآلآت الزراعية سبل الإنتاج وزادت منه، لكن التحديات الجديدة التي يواجهها القطاع كتغير المناخ، وتناقص الاراضي الخصبة، والانفجار السكاني في كل انحاء العالم، دفعت بالكثير من الدول لإعتماد الحلول الرقمية، وبعضها بات يتميز بمزارع عالية التقنية، تمثل مؤشرات أساسية لمستقبل الغذاء والزراعة معا.
تعتبر التكنولوجيا الزراعية – agritech من أهم المجالات التي إزدهرت مع العالم الرقمي، حيث فُتح المجال للمنافسة في هذا القطاع الحيوي، مع ظهور مفاهيم جديدة حول العالم منذ عدة سنوات كالزراعة الذكية، الزراعة الدقيقة، الزراعة الرقمية، لكن الأخيرة تدمج كلا المفهومين ( الزراعة الدقيقة والزراعة الذكية ) تحت اسمها العلمي E-agriculture .
والزراعة الرقمية هي “تلك الزراعة التي تستخدم تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وبيانات الأنظمة البيئية ، لدعم تقديم المعلومات والخدمات للمزارعين في الوقت المناسب وتطويرها، لجعل الزراعة عملية مربحة ومستدامة إجتماعيا وإقتصاديا وبيئيا، وتقديم طعام آمن ومغذٍّ وبأسعار معقولة للجميع في الوقت ذاته”.
مع الحاجة المستمرة إلى مزيد من الطعام والغذاء، والتمدد العمراني الذي قلل حجم ومساحة الأراضي الصالحة للزراعة في العالم، والحاجة لاستخدام الموارد الطبيعية بكفاءة عالية. هل تتجه الدول إلى ايجاد حلول سريعة لتلبية حاجات سكانها الغذائية وتوفير الامن الغذائي لهم بشكل تقني وعلمي حديث ؟ .
استثمارات وأرباح متنامية لهذه الثورة
كشفت دراسة أنجزتها حديثا شركة الاستشارات الإستراتيجية وأبحاث السوق (Blue weave consulting) عن أن قيمة السوق العالمية للزراعة الرقمية بلغت 4770.8 مليون دولار أميركي عام 2020، ومن المتوقع أن تبلغ 10702.3 مليون دولار أميركي بحلول عام 2027، بمعدل نمو سنوي قدره 12.7%، بسبب زيادة الطلب على الغذاء، والاستعمال المتزايد للتكنولوجيا في الزراعة، إضافة الى التوفير الكبير في تكاليف الإنتاج بتطبيق التقنيات الزراعية الحديثة.
هذا التوجه يرجحه الدكتور صلاح يوسف الطراونة ممثل الأردن في الفاو سابقا في 23 تشرين الثاني 2021 بقوله” يبدو أن هذا التوجه آخذ في النمو في ظل التحديات التي يواجهها الإنتاج الزراعي الذي يجب أن يزيد بنحو 60 % بحلول العام 2030 من أجل تلبية إحتياجات سكان كوكب الأرض من الغذاء” .
كذلك تنسجم هذه المعطيات مع توقعات بعض الدراسات الحديثة بإزدهار السوق العالمي للتكنولوجيا الزراعية، بمعدل نمو سنوي يزيد عن 18% ما بين عامي 2019 و 2025.
كما يرى تقرير لمجلة (فوربس) الأميركية بأنه يجب على كافة العاملين في هذه الصناعة، سواء كانوا مزارعين أو منتجي أغذية الإستجابة للتحولات الرقمية الجارية في الزراعة، وتوظيف التكنولوجيا بوصفها موردا مستداما وقابلا للتطوير، متطرقا الى سلسلة من هذه التحولات.
فعلى سبيل المثال في أوديشا في الهند تقدم مؤسسة “بريسيجن للتنمية الزراعية” توصيات رقمية مجانية لحوالي 800،000 مزارع، عبر هواتفهم المحمولة، ما مكنهم من زيادة محاصيلهم ومداخيلهم وصلابتهم ضد الصدمات؛ وهذا ما أثبتته ورقة بحثية نشرت مؤخرا في مجلة “ساينز” بأن هؤلاء كانوا أكثر احتمالية بنسبة 22% لتبني المدخلات الكيمائية الزراعية الموصى بها، مما أسفر عن فوائد بقيمة 10 دولارات لكل دولار يتم إنفاقه .
هل من منافسة عالمية ؟
يبدو أن المزارعين حول العالم، سيجدون انفسهم قريبا مضطرين الى التعود على العمل من خلف الشاشة، بدلا من الحقول الزراعية، بفعل الاعتماد على الروبوتات والذكاء الاصطناعي في مجال الزراعة.
وعلى الرغم من هيمنة الولايات المتحدة على غالبية الاستثمارات العالمية في الزراعة الرقمية، يلاحظ المراقبون في هذا المجال أن أعداد الراغبين الجدد بالاستثمار في تزايد، وأبرز هذه الدول تأتي الصين والبرازيل والهند واليابان وجنوب افريقيا واستراليا وكينيا ودبي وهولندا والاردن ولبنان( ولوبشكل خجول). وبذلك إنخفضت نسبة إحتكار الشركات الامريكية الى 58 في المائة من 90 في المائة، إقبال يعزوه المراقبون الى المخاوف المستقبلية من ظاهرة نقص الغذاء عالميا، وعدم كفاية الموارد الغذائية.
من هنا تمثل الزراعة الرقمية جزءا لا يتجزأ من الحلول لهذه المشاكل ، لكنها لا يمكن لها وحدها أن تحل مشكلة الجوع وأزمة الغذاء العالمية، ففي إطار سيناريو “الاعمال المستمرة كالعادة ” ( business as usual ) سيبقى ثمانية في المئة (أو 650 مليون شخص ) من سكان العالم يعانون من نقص التغذية بحلول العام 2030 .
مميزات وتقنيات ذكية
تتيح الزراعة الرقمية للمزارعين إمكانية تقديم إنتاج زراعي أكثر إنتاجية وإستدامة، من خلال الفرص المتنوعة باستخدام المعلومات والخدمات المؤتمتة لمراقبة ظروف الحقل عن بعد، تخول المزارع الاطلاع الدائم على التغيرات والظروف المحيطة بسرعة، مما يؤدي الى زيادة الانتاج وتحسين جودة المنتج واستدامته، وإلى تبسيط سلاسل الامداد وخفض التكاليف التشغيلية.
كما وتتيح أنظمة الزراعة الذكية أيضا الإدارة الدقيقة لتوقعات الطلب وتسليم البضائع للسوق في الوقت المناسب وإدارة أفضل للتكلفة، وتقليل الفاقد، ومواجهة المخاطر، وإتخاذ القرارات بأسرع وقت.
ومن أبرز ميزات هذه التقنية الزراعية هو -على عكس المتوقع- أنها تحتاج لكميات أقل من المياه، التي تحتاجها الزراعة التقليدية التي تتم بالتربة، حيث تتم إعادة تدوير المياه في دورة مغلقة، واستخدامها مرات عديدة، من خلال تكثيفها وإيصالها مرة أخرى للنباتات المزروعة.
أما أهم التقنيات التي تعتمدها الزراعة الرقمية حول العالم فتتجلى ب:
– أجهزة الإستشعار عن بعد .
– تكنولوجيا نظام التموضع العالمي GPS .
– الطائرات من دون طيار لالتقاط الصور الجوية .
– الروبوتات
– المركبات ذاتية القيادة.
هذه الاجهزة المتقدمة، ونظم الزراعة الدقيقة والروبوتات ستتيح للمزارع، زراعة أكثر ربحية وكفاءة وأمنا ومراعاة للبيئة، مقابل تراجع الزراعة التقليدية تدريجيا، والتي تعد من أكبر مصادر التلوث، وخصوصا انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون، الذي ساهم سلبا في تغير المناخ على مستوى العالم.
بين الايجابيات والتحديات
قدّر المنتدى الاقتصادي العالمي أنه إذا استخدمت 15-20% فقط من المزارع الموجودة في العالم تقنيات الزراعة الرقمية، فإن نسبة إنتاج الغذاء في العالم ستزيد بنحو 10-15%، وستقلّ الانبعاثات الغازية الملوثة للبيئة بنسبة 10%، وسيتم توفير 20% من كمية المياه المستخدمة في العمليات الزراعية؛ متوقعا أن تكون هذه التقنيات هي السائدة في القطاع الزراعي في المستقبل القريب.
في المقابل كشفت وثيقة موجزة صادرة عن الفاو في العام 2019 ومؤلفة من 24 صفحة عن أن اولى التحديات بالنسبة إلى فهم التحول الزراعي الرقمي تتمثل في قلة البيانات الرسمية المنهجية حول هذا الموضوع، حيث أن نسبة كبيرة من البيانات – كالبيانات المتعلقة مثلا بمستويات الإلمام بالتكنولوجيا المعلوماتية – متوفرة فقط على المستوى القطري. وتركّز البيانات بخصوص الشبكات على التغطية فقط ولا توفر معلومات حول جودة الخدمات أو تكلفتها.
كذلك فإن التحدي الثاني ” معلوماتي” ويتمثل بوجود نقص في المعلومات المتعلقة بالدعم الحكومي للتحول الرقمي وبأطره التنظيمية، إضافة الى التباينات الكبيرة على مستوى إعتماد تكنولوجيات الزراعة الرقمية بين البلدان المتقدمة والبلدان النامية، وبين الشركات العالمية ونظيرتها على المستوى المحلي أو المجتمعي أو العائلي.
أما التحدي الثالث فيتجسد بالعوامل التي تشمل الموارد المالية ومستويات التعليم، في اعتماد التكنولوجيات الزراعية الحديثة، إذ غالبا لا تكون الابتكارات والتكنولوجيات الرقمية التحويلية، مصممةً للنطاق الذي يعمل فيه صغار المزارعون.
إلّا أنّه وعلى الرّغم من كلّ هذه التحديات، فإن الرهان يبقى أكبر على أن تشكل الزراعة الرقمية نقطة تحول في مستقبل الغذاء والزراعة، خصوصا بعد نجاحها في توفير الاصناف الغذائية كافة، في جميع فصول السنة بغض النظر عن التغيرات المناخية، مع حفاظها على البيئة.
في الخلاصة، إذا كانت هذه الثورة ستسمح فعلا للبشرية بإنتاج مزيد من الغذاء رعلى مساحة من الاراضي أقل من السابق، وستسهم في تقليل النفايات والملوثات، وفي وحماية التنوع البيولوجي وتوفير مزيد من فرص العمل في انحاء العالم، فكم من الأعوام علينا الإنتظار لنرى ذلك يتحقق ؟