الاحدثفلسطين

القتال الأخير في غزة يقوي “الجهاد الإسلامي” على حساب “حماس” | بقلم غابي طبراني

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

سَلّطَ الصراع ُالأخير في قطاع غزة الأضواءَ الدولية على حركة “الجهاد الإسلامي” في فلسطين، ثاني أكبر جماعة مسلّحة في تلك المنطقة المُحاصَرة بعد “حماس“. على مدار ثلاثة أيام، من 5 إلى 7 آب (أغسطس)، أطلق الجناح العسكري لـ”الجهاد الإسلامي”، “سرايا القدس”، ما يقرب من 1,000 صاروخ وقذيفة هاون على إسرائيل، بينما شنّت الأخيرة 147 غارة جوية على قطاع غزة. أسفر تبادل إطلاق النار عن مقتل ما لا يقل عن 47 فلسطينيًا، بينهم أعضاء قادة في “الجهاد الإسلامي” و16 طفلًا، معظمهم بسبب الغارات الجوية الإسرائيلية، وبعضهم جرّاء اختلال صواريخ الجماعة. وقد اضطر الإسرائيليون في مناطق بعيدة مثل تل أبيب والقدس إلى اللجوء إلى الملاجئ. وانتهى القتال أخيرًا بوقف إطلاق النار بوساطة مصرية.

بدأت الجولة الأخيرة من القتال بعد أيامٍ عدة من اعتقال الجيش الإسرائيلي لزعيم حركة “الجهاد الإسلامي” المخضرم في الضفة الغربية بسام السعدي. طالبت الحركة بالإفراج عنه مُهدّدة بالرد على أهداف إسرائيلية بالقرب من غزة، وفي نهاية المطاف، شنّت إسرائيل ضربات استباقية في 5 آب (أغسطس)، ما أسفر عن مقتل قائد كبير في حركة “الجهاد الإسلامي”. ونظرًا إلى أن الحكومة الإسرائيلية رفضت حتى الآن الإفراج عن السعدي وناشطٍ آخر في “الجهاد الإسلامي” مُضرِبٍ عن الطعام كشرطٍ للحفاظ على وقف إطلاق النار الحالي، فإن خطر اندلاع القتال مُجدَّدًا لا يزال مُرتفعًا.

على الرغم من خسائرها، قد تكون حركة “الجهاد الإسلامي”، مع ذلك، قد زادت قوّةً واستفادت سياسيًا. يبدو أن التصعيد قد عزّز مصداقيتها كحركة مقاومة في بعض الأحياء الفلسطينية بفضل قدرتها الواضحة على تهديد التجمّعات السكانية الإسرائيلية. وقد يؤدي الصراع القصير أيضًا إلى حركةٍ أكثر تطرّفًا – حركة يُمكن أن تُسبّبَ في المستقبل مشاكل ليس فقط لإسرائيل ولكن أيضًا لحركة “حماس”، الحاكمة الفعلية لقطاع غزة، التي كانت لحركة “الجهاد الإسلامي” علاقات مُعقّدة معها على مدى العقود الأربعة الماضية.

تأسّست حركة “الجهاد الإسلامي” في فلسطين في العام 1981 على يد فتحي الشقاقي، وهو طبيب ولد في مخيم الشاطئ للاجئين بمدينة غزة. مثل “حماس”، نشأت الجماعة كفرعٍ من جماعة “الإخوان المسلمين”، لكنها سرعان ما وجدت نفسها منبوذة من الحركة الإسلامية الأوسع بسبب احتضانها القوي للإيديولوجية الجهادية والثورة الإيرانية لعام 1979. لتجنّب أي أجندة سياسية حقيقية لصالح الكفاح المسلح ضد إسرائيل، شنّت حركة “الجهاد الإسلامي” العديد من الهجمات ضد الجنود والمدنيين الإسرائيليين، بما في ذلك سلسلة من التفجيرات الانتحارية استمرت حتى العام 2007. ومنذ ذلك الحين امتدت شبكتها إلى الضفة الغربية، إلى اللاجئين الفلسطينيين في جنوب لبنان وإلى سوريا حيث تتمركز قيادتها السياسية الآن.

طوال هذا الوقت، حافظت حركة “الجهاد الإسلامي” على علاقاتٍ مُعقّدة مع حركة “حماس”. للحركتين الإسلاميتين تاريخٌ طويل من التنافس على النفوذ والأعضاء والتمويل، إلّا أنهما تعاونتا أيضًا، وشنّتا عمليات تفجيرات انتحارية مشتركة، وقاتلتا جنبًا إلى جنب في حروب متتالية. ومع ذلك، فإن “الجهاد الإسلامي” قد كسفها وطغى عليها بشكلٍ مطرد النفوذ السياسي والعسكري المتنامي لحركة “حماس”، التي سيطرت على غزة في أعقاب حرب أهلية فلسطينية قصيرة في صيف العام 2007، والتي هزمت خلالها قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية التي تسيطر عليها حركة “فتح”.

بعد تولّيها مسؤولية الحكم في غزة، ومحاولاتها الفاشلة لكسر الحصار الإسرائيلي اللاحق للقطاع من خلال الصراع المُسلّح، وآخرها في أيار (مايو) 2021، طوّرت “حماس” تدريجًا علاقات أكثر براغماتية مع تل أبيب. على الرغم من التزامها العَلَني المستمر بالمواجهة المُسَلَّحة ضد إسرائيل، وافقت “حماس” مرارًا وتكرارًا على فترات طويلة من التهدئة مع إسرائيل، مُقابل تخفيف تدريجي للقيود الإسرائيلية على حركة الأشخاص والبضائع من غزة وإليها. ومن أجل الحفاظ على وقف إطلاق النار الهشّ مع إسرائيل، اضطرت “حماس” إلى مراقبة وضبط الجماعات المسلحة الأخرى في القطاع، بما فيها حركة “الجهاد الإسلامي” في فلسطين.

جاءت البراغماتية النسبية ل”حماس” تجاه إسرائيل بالتوازي مع تحوّل الحركة نحو سياسات أكثر اعتدالًا. أيّدت “حماس” حلّ الدولتين للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني باعتباره “صيغة إجماع وطني” في العام 2017، وشكّلت حكوماتٍ مُتعاقبة للسلطة الفلسطينية بعد فوزها في الانتخابات التشريعية لعام 2006، وسعت إلى الحوار مع أوروبا والولايات المتحدة. وهذا يتناقض مع حركة “الجهاد الإسلامي”، التي تستمر في رفض التسوية السياسية مع إسرائيل والمشاركة في المؤسسات الفلسطينية، باستثناء تقديم مرشحين بانتظام في الانتخابات الجامعية.

أدّى هذا الاختلاف إلى حدوث احتكاكات، وفي بعض الأحيان انقسامات مفتوحة، بين المجموعتين، وكان قرار “حماس” في الأسبوع الفائت بعدم المشاركة في الاشتباكات في غزة هو المثال الأكثر وضوحًا. لكنها لم يكن ذلك للمرة الأولى. في تشرين الثاني (نوفمبر) 2019، وقفت “حماس” جانبًا عندما خاضت “الجهاد الإسلامي” صراعًا استمر لمدة يومين بسبب اغتيال إسرائيل لقائد عسكري كبير في “الجهاد الإسلامي” في غزة ومحاولة قتل نائب قائدها ورئيس الدائرة العسكرية في الحركة أكرم العجوري في دمشق.

في كل حالة، ربما شعرت “حماس” بالحاجة إلى السماح ل”الجهاد الإسلامي” بالانخراط في انتقام عسكري محدود من أجل علاقات “حماس” داخل وبين الفصائل ومؤهّلات المقاومة. لكن “حماس” عملت أيضًا على كبح جماح المجموعة الأصغر وضغطت عليها بسرعة لإنهاء الأعمال العدائية بالتزامن مع جهود الوساطة المصرية. كما حاولت كلٌّ من “حماس” و”الجهاد الإسلامي” التستّر على انقساماتهما من خلال الإعلانات العلنية للوحدة وإنشاء “غرفة عمليات مشتركة” في العام 2018 لتنسيق العمل العسكري. لكن أعضاء “الجهاد الإسلامي” يتذمّرون من تركهم بمفردهم لمحاربة إسرائيل. بل إن بعض المنتقدين يتّهم “حماس” بدعمها الضمني للأعمال الإسرائيلية لكبح حركة “الجهاد الإسلامي”.

قد لا يكون ما حصل خلال الضربات الجوية التي وقعت هذا الشهر بمثابة تغييرٍ جذري في علاقات “الجهاد الإسلامي” مع “حماس”، ولكن هناك عوامل أخرى تشير إلى تحوّل نوعي لصالح الأولى. لم يقتصر الأمر على قدرة الجماعة الجهادية على مضاعفة كمية الصواريخ التي تم إطلاقها مقارنة بحرب تشرين الثاني (نوفمبر) 2019 الصغيرة فحسب، بل تمكنت أيضًا من حشد الدعم النشط من الفصائل الأخرى المتمركزة في غزة، مثل الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين ولواء نضال العامودي المتحالف مع فتح، وهو مجموعة منشقة عن كتائب شهداء الأقصى.

مثلما عزّزت معركة أيار (مايو) 2021 بين إسرائيل و”حماس” الموقف الداخلي للأخيرة بين الفلسطينيين، قد يؤدي هذا الحادث الأخير أيضًا إلى زيادة شعبية “الجهاد الإسلامي”، خصوصًا وأن “حماس” تواجه اتهامات علنية بأنها تتواطأ مع إسرائيل وتستفيد من الحصار الإسرائيلي. في حين أن “الجهاد الإسلامي” لا تزال تفتقر إلى القوة العسكرية والرغبة السياسية لإزاحة “حماس” باعتبارها المجموعة المهيمنة في غزة، فإن بروزها الجديد يمكن أن يتحدّى بالتأكيد قدرة “حماس” على الحفاظ على التسوية المؤقتة مع إسرائيل.

كان التركيز خلال الأيام القليلة الماضية على غزة، ولكن يبدو أن “الجهاد الإسلامي” تقوم بأهم خطواتها في الضفة الغربية، ومن المرجح أن تستفيد من الجهود المشتركة التي تبذلها إسرائيل والسلطة الفلسطينية لقمع “حماس”. تنشط “الجهاد الإسلامي” بشكلٍ خاص في مدينة جنين الشمالية، التي يُنظَرُ إليها تقليديًا على أنها مَرتَعٌ للنضال الفلسطيني. وهناك شارَكَت إلى جانب كتائب شهداء الأقصى التابعة لفتح في اشتباكات منتظمة مع قوات الأمن الإسرائيلية. وتزيد الحركة الآن نفوذها في مناطق أخرى، ولا سيما في مدينة نابلس المجاورة.

كثّفت إسرائيل حملتها الأمنية لتفكيك وجود “الجهاد الإسلامي” في الضفة الغربية في الأشهر الأخيرة، بعد موجةٍ من الهجمات الإرهابية قام بها مهاجمون من شمال الضفة الغربية. لكن كما يُظهِرُ اعتقال السعدي في الأول من آب (أغسطس)، فإن الغارات العسكرية الإسرائيلية يُمكنُ أن تُشعِلَ التوترات في غزة وتُخاطِرَ بزيادة التطرّف لدى الجماعة ودفعها أكثر إلى حضن إيران، الراعي الرئيس لها. وبينما حافظت “الجهاد الإسلامي” تاريخيًا على علاقات عمل جيدة مع المخابرات المصرية، فقد اقتربت أكثر من الجمهورية الإسلامية في ظل زعيمها الحالي، زياد النخالة، الذي كان يزور طهران بالمصادفة أثناء الصراع.

وكما أشار المُحلّلُ الفلسطيني محمد شحادة في صحيفة “هآرتس” الاسرائيلية في 8 آب (أغسطس)، فإن مقتل خالد منصور، القائد البارز في جنوب غزة، خلال الضربات الأخيرة، أزاح شخصية مؤثّرة وعملية كانت بمثابة ثقلٍ مُوازن للتيار الأكثر تشدّدًا الذي يُمثّله النخالة. إلى جانب قتل قادةٍ آخرين من كبار قادة “الجهاد الإسلامي”، قد يؤدي موت منصور الآن إلى تحويل المزيد من عملية صنع القرار إلى قيادة الجماعة التي تتخذ من دمشق مقرًّا لها، والتي أظهرت فهمًا محدودًا للمقايضات البراغماتية المطلوبة للتخفيف من بعض المشاكل الاجتماعية والاقتصادية في غزة. وهذا من شأنه أن يُعقِّدَ البحث عن حلٍّ ديبلوماسي يُمكِنُ أن يُوَفِّرَ لسكان غزة المستقبل المُستدام والكريم الذي يستحقّونه.

غابريال طبراني، كاتب وصحافي لبناني مقيم في لندن

غبريال طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب”. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه: gabrielgtabarani.com أو عبر تويتر على: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى