الاحدثفلسطين

حاجز الموت | بقلم د. شادي الكفارنة

عندما بدأت الحرب على سكان قطاع غزة الذي يمثل مساحة جغرافية ثلاثمائة وخمسين كيلو متر مربع تقريبًا، تستطيع أن تتحرك فيها شمالًا وجنوبًا في غضون خمسة و أربعين دقيقة فقط، وعند مقارنتها بالمناطق أو المدن أو المحافظات بالمعيار العالمي لا تمثل إلا حيًا واحدًا من حيث المساحة الجغرافية، فلقد نزح الناس من أماكن تواجدهم ومستقر سكناهم من الشمال إلى الجنوب من شدة القصف المتواصل، وتفريغ أغلب سكان مدينة غزة وشمالها، وتكدس النازحون من منطقة وسط القطاع حتى جنوبه في أماكن محشورة ضيقة بأمتارٍ محددة في خيام لا تقي حرًا ولا بردًا ، وقد انقطعت الطريق بالآلة العسكرية ما بين الشمال والجنوب، ووُضعت حواجز عسكرية فصلت قطاع غزة من وسطه من منطقة وادي غزة شارع صلاح الدين امتدادًا حتى غربًا باتجاه البحر خط شارع الرشيد ، وانفصل الناس عن أحبتهم وتشتت شمل أسرهم وتهجر الآباء عن أبنائهم أو العكس، وانقطع الحب بين الأزواج والحنان للأبناء والود بين الأقرباء ؛ لتجد من يحاول الذهاب من الشمال إلى الجنوب يُقتل مرميًا منسيًا، حتى عندما سُمح للنازحين الذهاب للجنوب في حالات محددة لتفريغ الشمال من سكانه لم يسلموا ، تم التعامل معهم على الحواجز بالقنص المزاجي والسب والشتائم على الجنس والضرب على الوضع الميداني وخلع ملابسهم كما ولدتهم أمهاتهم لذل النساء وقهر الرجال، وأخذ أموالهم بالنهب وممتلكاتهم الثمينة بالسرقة، وكل من يحاول العكس العودة من الجنوب إلى الشمال يقتل على حواجز الموت بكل أدوات ويبقى جثة محللة مبعثرة على حاجز القطيعة .

بحاجز الموت الموجود صار من الصعب جدا أن يلتقي أحبة من أقصى كوكب الأرض وأدناه ويتصافحون بأيدهم، ويتعانقون بالأحضان والحب والفؤاد؛ لأن حواجز الموت تمنعهم في مساحة جغرافية صغيرة لا تتجاوز الأمتار المعدودات على الحواجز التي نهشت عليها الحيوانات الضالة والطيور أجساد المصابين الأحياء الذين ينتظرون الموت المعلن، وشبعت من الجثث وما تبقى من أشلاء ، إنها حواجز التراب المثقل بدماء القتلى المفقودين على الأرض المغطية بالهياكل العظمية، والمبعثرة في مساحة حواجز الموت الجغرافيّة، إنها حواجز الحرمان من لقاء الأحياء، فهي المروية بالدموع حزنًا عليهم وعلى فقدان الأموات دون لقاء نظرة الوداع الأخيرة أو حتى معرفة خبر موتهم أصلًا، نموت مجهولي الهوية فاقدي الإنسانية، يُوزع علينا الموت في كل زاوية من هذا القطاع، وليس فقط على حواجز الذل والموت المحقق ، إنها حواجز الفصل الذي يذكرنا بالفصل التاريخي ما بين ألمانيا الشرقية والغريبة ، ففيها يُجرب علينا نماذج معاناة عالمية من عقود زمنية سابقة، تعيد علينا البؤس والحرمان والقتل، إنها حواجز الموت التي قطعت علاقات الود بين سكان أهل الشمال والجنوب، وفصلت اتصالات الحنان بين الأسرة الواحدة ، فالذين يموتون أو يُفقدون لا يعرف مصيرهم، فتجد الوالدين فقدا أخبار أبنائهم ، وقد يموتون دون علمهم، والأزواج فاقدون أخبار زوجاتهم أو العكس، نعيش في عالم مُقطع المعالم مُقسم الأماكن مُشتت المساكن فاقدين لأدنى تواصل الحياة الاجتماعية.

الغريب !! إننا نازحون داخل وطننا، ومُهجرون من بيوتنا الكبيرة إلى خيماتنا الصغيرة، وأصبح حلم العودة من الجنوب إلى الشمال مطلبًا ضمن مقترحات بنود اتفاقات حل إنهاء الحرب بعودة النازحين ، السلام للأحياء فوق الأرض، والرحمة للأموات المفقودين تحت الأرض.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى