آمن الرئيس الأميركي أخيرًا وأشهر توبته التي نأمل أن تكون نصوحة، ورفع العشرة احترامًا وتقديرًا للمملكة العربية السعودية، وأعلن الردّة عن عقيدته السابقة التي أدار من خلالها ظهره لحلفائه العرب والمملكة، مصرّحًا في شهادته بأهميّة العلاقة والحلف الاستراتيجي والتاريخي مع السعودية، معلنًا تتويج هذه العودة الحميدة بتطبيقه لأحد أهمّ أركان الإيمان بالصداقة والشراكة والوفاء، وهو القيام بالحجّ وزيارة السعودية بعدما سُمِح له ذلك.
أتى بايدن بعدما قطع نصف ولايته متخبّطًا ومترنّحًا وضائعًا، وعليه أن يكون واضحًا لا باطنيًا، واقعيا لا خياليًا، وصادق النوايا لا خبيثًا ومتلوّنًا، لكي يحفظ هذه الحجّة السياسية وتكون بميزان حسناته، وإلا فسينطبق على زيارة الحجّ هذه مقولة “يطعمك الحجّة والناس راجعة”، وستكون بلا بركة ولا خير ولا منفعة ولا تغييرات عملية، وما ينال منها ويكسب إلا تعب مشوار الطريق ومشقّته وردّة الفعل العكسي.
لقد سبقت زيارة بايدن اعتذاراته عبر صحيفة “واشنطن بوست”، ووصل صداها إلى بلاد الحرمين قبل أن تتحرّك طائرته الرئاسية من أرضها. نبذ الرئيس الأميركي نفسه أوّلًا وكلّ سياسته السابقة التي تبيّن عدم واقعيّتها وانقلب عليها، فالسياسة الواقعية بحسب معلّمه كيسنجر هي التي “تطعم خبزًا”. وكانت تبريراته بطعم الاعتذار والترجّي والاستغاثة، أرسلها للمملكة وملأت بالحبر صفحات الجريدة الأميركية في سابقة تاريخية نادرة جدًّا، وكسر فيها العديد من المسلّمات لناحية شرحه الوصفي لأسباب الرحلة ومكافحته لتحديد جدول الأعمال قبل زيارته ليؤمّن على نفسه، ولناحية ندائه واستغاثته بالمملكة: “رجاء استقبلوني ولا تتركوني وحيدًا محرجًا أمام الأوروبيين، أريد دفئًا من طاقة المملكة يا حلفاء يا محسنين”.
السؤال الكبير هو: هل دخلت المنطقة حقبة ما بعد الولايات المتحدة الأميركية؟ وكيف ستتمّ هيكلة النظام الإقليمي الجديد؟ ما هي العناصر الأساسية لسياسة بايدن وأميركا الشرق أوسطية اليوم؟ وما هي أهدافها؟
كيف تأثّرت تعريفات السياسة الأميركية في المنطقة بالأزمة في أوكرانيا، وهي الأزمة التي أرخت بثقلها على الديناميكيات الأمنية والجيوبوليتيكية في العالم والمنطقة الشرق أوسطية، والتي كشفت أيضًا عن الانقسامات وخطوط الصدع الهشّة؟
أعطت السياسة الأميركية، على مدار ثلاثة عهود رئاسية متتالية، بدءًا من باراك أوباما ثمّ دونالد ترامب وصولًا إلى جو بايدن، الأولويّة لمعالجة التوتّرات الجيوسياسية في روسيا والصين وتقديمها على أيّ حلّ في الشرق الأوسط، وضعتها في مآزق وصراعات ومنافسات تستعصي على الحلّ، إضافة إلى تحدّيات أمنيّة ناشئة من النظام العالمي المتغيّر.
العرب مع روسيا والصين
لقد جوبهت التفاتة أميركا عن السعودية والخليج والمنطقة العربية بالتفاتة مقابلة روسية وصينية من أجل ترتيبات جديدة لـ”أوبك بلاس” قرّبتهم من الخليج، وبتمرّد نفطي أيضًا من جانب دول الخليج وقادته. فحتّى الزيادة المرتقبة في شهري آب وأيلول ستكون محدودة التأثير في هذا السياق، وقد حصلت بالاتفاق مع روسيا التي خفضت إنتاجها، وهو ما أربك أميركا وأوروبا، في محاولة لاستفادة دول المنطقة من توسّع نفوذ بكين وموسكو على الرغم من عدم تقديم أيّ منها لضمانات حقيقية.
يجتهد بايدن في حذلقته ومحاولة شرحه للعرب في أنّ عدم إعطائه أولوية للشرق الأوسط ولحلفائه. لكنّ الحقيقة أنّ للزيارة أولويّتين فقط، تتمثّل الأولى بالحصول على تخفيضات في أسعار الطاقة، والثانية بنجاح أميركا في كسب ثقة العرب وفي عدم تخلّيهم عنها، وإقناعهم أنّها هي صديقتهم الأولى لا الصين أو الروس.
عقود صناعة القرار العربي دوليًا وفي أميركا قد شارفت على التقلّص، فقد تغيّر المدّ والجزر الجغرافي والسياسي والاقتصادي كثيرًا، وبشكل كبير على مدى السنوات الماضية. أميركا ليست هي نفسها، فهي متراجعة، والمملكة العربية السعودية ليست نفسها أيضًا، فهي بالنسخة الجديدة والتغيّرات والتبدّلات الواضحة القوّة الإقليمية ومركز الجذب العالمي ونقطة الارتكاز والشريك الاستراتيجي الذي لا بديل منه للتطوّر والنموّ والأمان، وهذا مستقلّ عن كون الرئيس الأميركي ديمقراطيًا أو جمهوريًا. فأميركا لم تعد تتمتّع بنفس المرونة والتفوّق، وهي محاصرة بتحدّيات جمّة، أوّلها الحرب الأوكرانية وصعود التنين الصيني وعودة الدبّ الروسي غير السوفيتي، مع ضعف غير مسبوق للقارّة الأوروبية ودخولها مرحلة الشلل والعجز والقصور في الحركة، إذ نخر السوس القارّة العجوز ولم يعد لديها أيّ طاقة للحراك والمبادرات، وهي تبحث عن الطاقة من جديد لكي تدبّ فيها الحياة والروح ولكي يجري الدم من جديد بعروقها.
ينطلق مستقبل علاقة أميركا بالمملكة والعرب من التوازن والصدق الدائمين وإعطاء الاهتمام الكافي لهذه العلاقة بالتزامن مع تركيزها على الصين وروسيا، وهي كلّها أمور غير ثابتة وتتطلّب خصوصيات واقعية في السياسة وخطوطًا عريضة، وعليها أن تعترف بدايةً بالقدرات الشخصية للقادة العرب والمكانة الجديدة لدولهم. وهذا الاعتراف هو حجر الأساس لإحراز تقدّم في كلّ هذه الفرضيّات، فالقادة العرب عرفوا أهميّتهم وأهميّة موقعهم ومنطقتهم، وعلى أميركا أن تتصرّف على هذا الأساس، وذلك يحتاج إلى القيام بتطوير المشاركة ومنح الثقة والطمأنينة للحلفاء والشركاء وتقديم الدعم ليس فقط بالكلام وإنّما بالأفعال أيضًا.
حقل بايدن وبيدر المنطقة
كانت أهداف بايدن السياسية الخارجية واضحة عندما تولّى الحكم، وهي إنهاء الحرب في أفغانستان، ومواجهة مجموعة التحدّيات المرتبطة بالصين، واستعادة مكانة الولايات المتحدة لدى أوروبا وغيرها من الحلفاء (كوريا الجنوبية واليابان). ولم تكن المملكة والعرب والشرق الأوسط على قائمة أولوياته هذه، ظنًّا منه أنّهم تابعون ينتظرون دائمًا، وهنا مكمن خطئه. إذ لم ينجح في قراءة المتغيّرات العربية، ولم يقدّر أنّهم ليسوا حلفاء عاديين، بل أفضل الحلفاء ولا يمكن العبث معهم. وعرف بايدن أنّ عليه ألا ينام على حرير إذا أعطى الأولوية فقط لمجابهة مشروع طريق الحرير.
مع أنّ القليل من قضايا المنطقة قد حظيت باهتماماته، إلا أنّ التطوّرات قد فرضت نفسها نتيجة “بايدنيّاته السياسية غير المتوازنة والمتغربلة”، من انتخاب ابراهيم رئيسي المتشدّد في إيران وتعثّر الاتفاق على حلّ الأزمة العراقية، وصولًا إلى انخفاض معيار الحلول في المسألة الليبية، واستمرار الانهيار في لبنان الذي كان طبقًا أساسيًا في المحادثات الثنائية لناحية كيفية حلّ الأزمة عبر بوّابة الإصلاحات والقضاء على الفساد واحترام الاستحقاق الدستوري الرئاسي وإجرائه في وقته. من دون أن ننسى مواجهة دول الخليج الدائمة للتهديدات من أذرع إيران المنتشرة في الدول العربية كالحوثيين وحزب الله، إضافة إلى ضبابية موقفه من ارتكابات الكيان الإسرائيلي، وهي كلّها متغيّرات واقعية أجبرته على التغيّر وتبديل آرائه وسلوكيّاته.
فيما يقول بايدن إنّه يزور الشرق الأوسط، معتبرًا أنّه الأكثر أمنًا، يتبيّن لنا من كلامه هذا أنّه ضعيف البصيرة وأنّه يعوم على شبر ماء. وتركيزه على الاتفاق النووي فقط جعله لا ينتبه إلى أنّ الشرق الأوسط أقلّ أمنًا واستقرارًا بعدما تمكّنت إيران من تعزيز قدراتها الصاروخية وترسانتها العسكرية، وباتت يدها أطول بفضل أذرعها العربية ذات الصوت الأعجمي. إذ زادت سيطرة وكلاء الوليّ الفقيه وسفراء “سلام فرماندة” في الدول العربية، كالحشديّين في العراق والحوثيين في اليمن وحزب الله في لبنان، بحيث أضحى الشرق الأوسط آمنًا أكثر من وجهة نظر بايدن لمصلحة المحور الإيراني وحلف الأقليّات الذي يفضّله.
حلّ بايدن هذه الفترة ضيفًا في “شرق أوسط” متمرّد ومختلف عن الصورة التقليدية التي خبره فيها يوم كان سيناتورًا صغيرًا أو حتى نائب رئيس، في شرق أوسط جديد غير الذي اعتادت عليه أميركا، وفي منطقة عربية تغلي ودول خليجية مختلفة. قام بزيارة تاريخية عليه أن يعرف قيمتها جيدًا ويحفظها، لأنّها زيارة لمملكة عربية سعودية براغماتية ومختلفة تمامًا ومتحدّية لذاتها، لدولة أحدثت فارقًا كبيرًا بغضون سنين قليلة، لمملكة أضحى لها مركز ثقل وجذب عالمي وإقليمي، وباتت محرّكًا ومرجعًا رئيسيًا ومحورًا لملفّات استراتيجية وأساسية عالمية عديدة، ولا يمكن لأيّ كان أن يتجاهلها أو أن يتجاوزها أو أن يعارضها أبدًا، وإلّا فستكون زيارة الحج خاصّته منتهية الصلاحية وفاقدة البركة، ولن يكون في استطاعته أن يعود من خلالها بايدن الأبيض، بلا خطايا، كما ولدته أمّه، وستنطبق عليه مقولة: “يطعمك الحجّة والناس راجعة”.