الاحدثدولي

الحزبان الأمريكيان “الديموقراطي والجمهوري” وجهان لعملة واحدة نحو “تعظيم المصالح الأمريكية | بقلم د. عوض سليمية

  نحو "تعظيم المصالح الأمريكية"

 

مع انهيار الكتلة الشرقية التي قادها الاتحاد السوفييتي في ديسمبر من العام 1991، بدا لمعظم دول العالم ان العداء الأيديولوجي القائم بين الشرق والغرب قد بدأ بالتراجع، وان الهيكل المصمم لحلف الاطلسي “الناتو” كتحالف دفاعي عسكري ضد المعسكر الشيوعي الشرقي قد بدأ يفقد مببرات وجوده، بالنظر الى غياب العدو المركزي الذي منح هذا التحالف شرعية استمراره.

اوضح صورة لبدء تفكك وحدة دول الناتو وضعف نفوذه، كانت التصريحات الشهيرة للرئيس الفرنسي ماكرون خلال العام 2019، التي حذر فيها الدول الغربية من وفاة الناتو، تعقيبا على التصريحات الصادرة عن الرئيس الامريكي السابق ترامب، والتي أكد فيها ضرورة وجود نظام عادل لتمويل عمليات الحلف بين الاعضاء. في تصريحاته لمجلة الإيكونوميست في 7 نوفمبر قال ماكرون «ما نشهده الآن هو الموت الدماغي لحلف الناتو». معربا عن حالة عدم اليقين بشأن تفعيل المادة 5 من ميثاق الناتو، التي تقول إن “الهجوم على حليف واحد هو هجوم على الجميع” – هذه المادة هي حجر الزاوية في التحالف الاطلسي منذ تأسيسه عام 1949.

وبالنظر لانخراط ترامب في انجاز “الصفقات الخارجية” التي كانت في معظمها اعلانات شعبوية ومُعاكسة لسياسات سلفه الديموقراطي باراك اوباما، بقيت اجندته الخاصة بتفكيك وإذابة حلف الناتو، قيد الانتظار. وعاد الان لاطلاقها من جديد على سلم اجندته الانتخابية لعام 2024.

من المفارقات العجيبة في السياسة الامريكية الخارجية خلال فترتي الرئاسة لكل من ترامب وبايدن، ان (عقيدة) قادة الحزب الجمهوري التي تنص على ان “ما لم يأتِ بالقوة، يأتي بمزيدا من القوة” لم يتمسك بها ترامب، بل قام بعكس جميع المسارات تماما، ولجأ الى نظام الصفقات شبه المضمونه لاظهار انجازات سريعة. على العكس من ذلك، وفي محاولة منه لاظهار التباين في السياسات الخارجية لسلفه ترامب، لجأ الرئيس الديموقراطي بايدن الى استخدام عقيدة الجمهوريين (القوة ومزيدا من القوة)، تاركا الارث “الديموقراطي الليبرالي” الذي ينص على “ما لم يأتِ بالمفاوضات، يأتي بمزيدا من المفاوضات”. ودشن رئاسته الاولى بحرب كبرى مع روسيا الاتحادية – قد تتحول مع أي خطأ استراتيجي في أي لحظة الى حرب نووية. ودخل في حرب باردة مع الصين، كادت ان تتحول الى حرب نووية بعد ايفاد رئيسة مجلس النواب السابقة نانسي بيلوسي الى تايوان، واكمل سياسته اليمينية بدعم حملة إبادة جماعية تشنها اسرائيل على قطاع غزة منذ الــ7 من اكتوبر 2023.

بعبارة اخرى، تحول الحزب “الديموقراطي الليبرالي” في عهد بايدن الى اعتناق ايديولوجيا الصقور من الجمهوريين امثال الرئيس جورج دبليو بوش، دونالد رامسفيلد، وجونداليزا رايس،… اصحاب المشروع الامبراطوري “قرن امريكي جديد”، ورعاة الحروب والكوارث عبر العالم. وابتعد كثيرا عن السياسات التقليدية لاسلافه من الديموقراطيين.

من ناحية، ترامب الذي منح اسرائيل صفقة اشبه بوعد بلفور “صفقة القرن المشؤومة”، واغلق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، وبادر الى الغاء الاتفاقية النووية مع ايران من جانب واحد، ينادي الان بضرورة احلال السلام في الشرق الاوسط، وانهاء الحرب الروسية-الغربية على الارض الاوكرانية. ويهدد بحرق المعبد وتحويل امريكا الى “حمام دم” إذا لم يفُز في الانتخابات الرئاسية المقررة في 5 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. يقول ترامب “إذا لم أفُز بالانتخابات فلست متأكداً من أن انتخابات أخرى ستجري في البلاد”. في اشارة الى تصميمه على اغراق الولايات المتحدة في اتون حرب اهلية.

بالمقابل، يتمسك الرئيس بايدن وإدارته الديموقراطية بسياساتهم العسكرية، بما فيها، تبني السرد الاسرائيلي بحق اسرائيل فيما يسميه “الدفاع عن نفسها” واجهاض كل الجهود الدولية الساعية الى اصدار قرار من مجلس الامن الدولي لوقف العدوان على الشعب الفلسطيني، ويواصل امداداته العسكرية لحليفه الوثيق اسرائيل، والتي بلغت منذ 7 اكتوبر نحو 300 طائرة شحن عسكرية و50 سفينة تحمل اكثر من 35 ألف طن من الذخائر الأمريكية، وفقا لصحيفة إسرائيل اليوم “هيوم” العبرية.

على الجبهة الشرقية للكرة الارضية، يُصعد وزير خارجيته ضد الصين، ويعلن بلينكن عن «التزام واشنطن الصارم» بالمساعدة في الدفاع عن الفلبين في حالة شن الجيش الصيني هجوما مسلحا على قواتها بعد أن أصبحت الاشتباكات بين خفر السواحل الصيني والفلبيني في بحر الصين الجنوبي مشهدا متكررا. بالتزامن مع هذه الاعلانات الحربية، يجدد الرئيس بايدن وقوفه الى جانب تايوان لاحباط أي محاولات من جانب بكين لضم الجزيرة للبر الصيني. بالتوازي، يطالب مجلس الشيوخ بسرعة تمرير فاتورة بقيمة 300 مليون دولار مساعدات لضمان تغذية الحرب واستمرارها في اوكرانيا. في السياق، تقف الادارة الديموقراطية مضطربة لمواجهة طلب القادة العسكريين في النيجر إلغاء اتفاقية التعاون العسكري مع الولايات المتحدة. بينما تتجه الأنظار نحو اعلان باريس نيتها ارسال فرق عسكرية فرنسية قوامها الفي عسكري الى اوكرانيا، هناك صراع دموي جديد يختمر في يوغوسلافيا السابقة، فالاشتباكات العرقية تتجدد بين صربيا وكوسوفو، بينما تقود صربيا الأحداث على الأرض بدعم من موسكو، تعمل واشنطن على تأجيج النيران من جديد.

في سعيها لتأخير الاحتفال العالمي بنقطة التحول التاريخي المنتظرة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي بظهور عالم متعدد الاقطاب، تمكنت واشنطن من العثور على عدو جديد لحلف الناتو، وهنا روسيا الاتحادية، ونجحت إدارة بايدن في اعادة هيكلة الحلف العسكري والدفع به نحو حرب كبرى على الارض الاوكرانية، ونشطت الدبلوماسية الامريكية في توسيع الحلف واضافة مزيدا من الدول لعضويته لتحقيق اهدافها الجيوسياسية، التي تسعى فقط، دون تحديد خطوط التهديد للعدو “روسيا”، إلى تأمين وضعها المهيمن ضد المنافسين المحتملين عالمياً، دون اغفال ابقاء دول الاتحاد الاوروبي تحت هيمنتها المطلقة عبر اضعاف اقتصاداتها. مع التمسك الفريد باحياء الازمات والحروب وتقديم نفسها كدولة لا غنى للبشرية عنها في حل المعضلات.

تبادل الادوار الذي اظهره كلا الزعيمان “ترامب وبايدن” في سياساتهما الخارجية تؤكد صحة الفرضية التي تقول انه، “بغض النظر عن لون الطيف السياسي لساكن البيت الابيض (الازرق/ الاحمر)، فإن الركن الثابت في السياسة الخارجية الامريكية جوهره تعظيم المصالح الامريكية، ولا يكون ذلك الا من خلال اشعال مزيدا من الحروب واثارة الازمات عبر العالم، لضمان ابقاء عجلة الاقتصاد الامريكي في حالة دوران متعاظم”. وعندما يتعلق الامر بالمصالح الاقتصادية والسياسية لواشنطن، فلا مكان لاستحضار المبادئ والديموقراطية وحقوق الانسان، التي يتفاخر بها قادة كلا الحزبين الكبيرين. بل يتم على الفور استحضار عقيدة الرئيس جيمس مونرو 1823، «قوة تدخل دولية تشن الحروب دائمًا في الخارج فقط، ولكن ليس على أراضيها أبدًا». وتعزيزها بمبادئ الرئيس روزفلت 1904، حق الولايات المتحدة في ممارسة «قوة شرطة دولية» للحد مما اسماه «المخالفات المزمنة»، وهو ما يجمع عليه النخب الغربية لتبرير التدخلات في شؤون جميع دول العالم.

د. عوض سـليميـة

حاصل على الدكتوراة في العلاقات الدولية في تاثير اللوبي الإسرائيلي على السياسة الخارجية تجاه القضية الفلسطينية من جامعة university utara Malaysia. زميل ابحاث ما بعد الدكتوراة في السياسة الخارجية الأمريكية. مدير برنامج السياسة الخارجية الامريكية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى