الرئيس الروسي بوتين: إلى كييف سر… ثم ماذا بعد؟ | بقلم د. عوض سليمية
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
بعد اكثر من خمسة شهور على اندلاع الازمة الاوكرانية بين الطرفين الرئيسيين حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية، عقب اعلان اوكرانيا نيتها الانضمام لحلف الناتو، تخللها جولات ماراثونية دبلوماسية قادها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكارون والمستشار الالماني اولاف شولتز، بهدف ايجاد حلًا دبلوماسيًا للازمة، الا ان واشنطن ولندن واصلا سياسة المماطلة بشأن الضمانات الامنية التي قدمها الطرف الروسي اواخر العام 2021.
في السياق، وعلى الرغم من قناعة غالبية أعضاء حلف الناتو بان الدولة الاوكرانية لم تستوفِ شروط الانضمام الى عضوية الحلف لعدة اسباب ليس اقلها ان كييف غارقة في الفساد وتمارس انتهاكات جسيمة لحقوق الانسان….، الا ان بعض اعضاء دول الحلف استمروا في سياسة إيهام الرئيس الاوكراني فلاديمير سيلينزكي بان طلبه قيد الدراسة، علما انه تم تقديم طلب العضوية للانضمام الى نادي الغرب منذ اكثر من 20 عامًا دون ان تحصل كييف على جواب، وفي الوقت ذاته امتنعوا عن تقديم ضمانات امنية للجانب الروسي.
وبالتوازي مع محاولات الرئيس الفرنسي ماكارون ايجاد حل دبلوماسي، استمرت الولايات المتحدة بتزويد اوكرانيا بانواع مختلفة من الاسلحة بما فيها صواريخ ستينجر المضادة للدروع، بينما انشأت لندن جسر جوي للامدادات العسكرية لكييف، وصلت الى قرابة 200 طن من المعدات العسكرية بما فيها اسلحة وصفت بالفتاكة. هذا الدعم المطلق مهد الطريق امام الرئيس الاوكراني بالاعلان في خطابه الاخير في ميونيخ نية بلاده العودة الى امتلاك اسلحة نووية.
ودفع تدفق السلاح الغربي الى زيادة هجمات الجيش الاوكراني على مواقع الانفصاليين الموالين لموسكو على الحدود الشرقية فياقليم الدونباس، وزادت وتيرة القصف المدفعي والصاروخي على قوات الجيش الشعبي والتي طالت المدنيين وادت الى سقوط عدد من القتلى والجرحى، بالاضافة الى نزوح قرابة 50 الف من مواطني الاقليم نحو الاراضي الروسية.
عشية خطابه الشهير الموجه الى الشعب الاوكراني، وبعد تيقنه من نوايا الغرب المبيته تجاه استعداء الدولة الروسية، وتحلل كييف من اتفاقية مينسك لعام 2014 بتشجيع مباشر من الولايات المتحدة، اعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اعتراف موسكو بجمهوريتي لوغانستك ودونستك المستقلتين من جانب واحد منذ العام 2014، بعد أن تقدم قادة الجمهوريتين يوم 19 فبراير 2022 إلى روسيا بطلبين منفصلين للاعتراف باستقلالهما، وتوَجت الاطراف هذا الإعلان بتوقيع اتفاقيتي دفاع مشترك بينهما.
إستنادًا الى هذه الاتفاقية، والتزامًا من الحكومة الروسية بالاهداف التالية، (1) فرض الامن والاستقرار في منطقة الدونباس ووقف الابادة الجماعية التي يتعرض لها سكان الاقليم منذ ثماني سنوات وفقًا لتصريح الرئيس بوتين. (2) تحييد القدرات القتالية لاوكرانيا ونزع سلاح من أسماهم بوتين النازيين الجدد، من خلال توجيه ضربات صاروخية دقيقة وتدميرية للبنية التحتية للجيش الاوكراني، الى جانب الهدف الاساس وهو (3) منع تمدد حلف الناتو شرقًا نحو الحدود الروسية.
أطلق الرئيس بوتين صباح يوم 24 فبراير ما اسماه بعملية خاصة في اوكرانيا لتحقيق هذه الاهداف،وشدد الرئيس خلال خطابه المتلفز ان موسكو لا تهدف الى احتلال اوكرانيا ولن تفرض أي شيء على احد بالقوة.
بدأت العمليات العسكرية الروسية بهجوم صاروخي مكثف طال معظم الاهداف الحيوية للجيش الاوكراني،وشمل بنك الاهداف الروسي،(مراكز القيادة والسيطرة، وسائط الدفاع الجوي، الرادارات الى جانب المطارات العسكرية وقواعد الجيش ومخازن السلاح…)، وتم خلالها تدمير قرابة 118 هدفًا عسكريا للجيش الاوكراني-حتى صباح اليوم الثاني للحرب 25 فبراير، الى جانب اسقاط عدد من الطائرات الاوكرانية، وامتد القصف الصاروخي والمدفعي الى جانب غارات متتالية للطيران الحربي الروسي على مواقع الجيش الاوكراني، من اقليم الدونباس شرقًا حتى مدينة لافيف على الحدود البولندية غربًا، بما في ذلك العاصمة كييف التي تعرضتلضربات صاروخية مركزة، ومن مقاطعة تشيرنوبل الواقعة على الحدود مع بيلاروس شمالًا الى مدينتي اوديسا وخيرسون على البحر الاسود جنوبًا.
وتم فرض السيادة الروسية على بحر الازوفوالبحر الاسود بعد انسحاب الجيش الاوكراني من جزيرة زمييني- التابعة اداريًا لمدينة اوديسا/ على بعد 35 كم من السواحل الاوكرانية،تزامن ذلك مع توغل بري محدود لقوات الجيش الروسي انطلاقًا من اقليم الدونباس حتى مدينة خاركيف شرقًا، رافقها عمليات انزال واسعة النطاقفي مدينة اوديسا وماريوبول في المنطقة الجنوبية لاوكرانيا، وتحرك قطعات عسكرية من شبه جزيرة القرم جنوبًا، مستهدفةً بذلك البنية التحتية للجيش الاوكراني باسلحة فعالة وعالية الدقة.
بالنظر الى التفوق العسكري للجيش الروسي على نظيره الاوكراني، وقرار الناتو بعدم الاشتباك مع الجيش الروسي على الارض الاوكرانية خاصة بعد إعادة تاكيد الرئيس الامريكي جو بايدن على هذا الموقف، واكتفائهم بعبارات الشجب والاستنكار، والتلويح بفرض عقوبات اقتصادية صارمة ستطال الرئيس بوتين شخصيًا، والتهديد بقطع العلاقات الدبلوماسية مع موسكو بشكل كامل، وعلى وقع التهديدات الجادة التي اطلقها الرئيس بوتين في اليوم الاول للعملية العسكرية، والتي حملت في طياتها تهديدًا وجوديًا لمستقبلأي دولة تحاول الحيلولة دون تحقيق روسيا لاهدافها المعلنة في العملية العسكرية الجارية الان في اوكرانيا، بات من شبه المؤكد ان الهدفين الاول والثاني من هذه العملية تم تحقيقهما بشكل شبه كامل خلال اليوم الاول من العملية.
ولكن يبقى تحقيق الهدف الثالث(منع تمدد حلف الناتو شرقًا نحو الحدود الروسية) وهذا لن يكون الا من خلال السيطرة الكاملة على كل الارض الاوكرانية، وهو ما يتعارض في جوهره مع اعلان الرئيس بوتين عدم رغبته باحتلال اوكرانيا، ولتجنب هذا السيناريو فإن الخيار الاخر يكون بإعلان اوكرانيا من جانب واحد سحب طلبها للانضمام لحلف الناتو وبقائها على خيار الدولة المحايدة وهو محور ورقة الضمانات الامنية التي سبق وان تقدمت بها موسكو لبروكسل.
وحتى يتم ذلك (السيطرة على كييف او اعلان الاخيرة الحياد)، فان السيناريوهات القائمة لتوقف الحملة العسكرية الروسية يمكن حصرها في الاحتمالات التالية:
السيناريو الاول: المنطقة العازلة للمقاطعات الشرقية يتحقق ذلك من خلال اعلان كييف العودة الى التزاماتها بتطبيق بنود اتفاقية مينسك والتي تنص من بين بنود اخرى، على منح اقليم الدونباس وضع خاص اشبه بالحكم الذاتي ولكنه يبقى ضمن وحدة الاراضي الاوكرانية، ولكن بالنظر الى الانجازات العسكرية للجيش الروسي والحقائق الجديدة على الارض، فمن المتوقع ان يتمسك الرئيس بوتين باقامة منطقة عازلة تشمل مساحة جغرافية اوسع من حدود اقليم الدونباس، تمتد على مساحةمقاطعة تشيرنوبل شمالًا، مرورًا بمقاطعة خاركيفحتى مدينة ماريوبولاخر مدينة اوكرانية جنوب شرقية واقعة على سواحل بحر الازوف، ولاسباب استراتيجية، الاحتفاظ بمدينة اوديسا الساحلية على البحر الاسود ومدينة خيرسون/ لضمان استعادة تدفق المياه الصالحة للشرب الى جمهورية شبه جزيرة القرم، وبالتالي عزل اوكرانيا عن سواحلها بشكل كامل.
وبهذا السيناريو يضمن الرئيس بوتين اقامة شريط حدودي فاصل، بموجبه يتم تحقيق الامن والاستقرار في اكبر مساحة ممكنة للجمهوريتين الجديديتين في اقليم الدونباس، وبالتالي تحقق العملية العسكرية الروسية الهدف الاول بعد ان اصبح الهدف الثاني (نزع سلاح الجيش الاوكراني) شبه متحقق.
خارطة توضيحية تقريبية للسيناريو الاول: (ايجاد منطقة عازلة للاقاليم الاوكرانية الشمالية).
السيناريو الثاني: سيناريو التقسيم
يمكن اخذه بعين الاعتبار في حال اصرار اوكرانيا على عدم العودة لتنفيذ إتفاقيات مينسكو/أو اعلانها عدم القبول بضم اقاليم شرقية جديدة، ضمن هذا السيناريو نرى أن العملية العسكرية سوف تتواصل حتى وصول الجيش الروسي الى نهر دنيبر،بهدف تأمين المنطقة الشرقية المحاذية لروسيا بشكل كامل، بعبارة اخرى، اعادة رسم الحدود الجغرافية لاوكرانيا الجديدة، بحيث يكون نهر دنيبر- المحاذي لحدود العاصمة كييف – والذي يقع على بعد 700 كم تقريبا من العاصمة موسكو، وقرابة 500 كم من حدود اقليم الدونباس، هو خط وقف اطلاق النار،وبالتالي يتم تقسيم اوكرانيا الى قسمين شرقي يتبع للنفوذ الروسي، وغربي يتبع لنفوذ الناتو.
خارطة توضحية للسيناريو الثاني: (سيناريو التقسيم) حتى نهر دنيبر.
ومع ذلك، تبقى فرضية وقف العمليات العسكرية بالاستناد الى تحقيق اهداف السيناريو الاول (المنطقة العازلة) أوالسيناريو الثاني (التقسيم) متوقفه على مدى قناعة بوتين بان تحقيق هذين السيناريوهين معًا أو أحدهما سوف تحد من تهديدات حلف الناتو للامن القومي الروسي من عدمه وهو المحور الرئيسي للازمة.
السيناريو الثالث: سيناريو الضم الكامل
يمكن ترجيحه في حالة عدم مبادرة كييف بإعلانها الحياد التام والغاء فكرة الانضمام لحلف الناتو، وبالتالي يستمر الجيش الروسي بعملياته العسكرية حتى الوصول الى كييف واسقاط حكومة سيلينزكي-اعلن رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون أن المملكة المتحدة مستعدة لمنح اللجوء للقيادة الأوكرانية في حال الضرورة، وتعيين حكومة جديدة موالية لموسكو وقادرة على ادراج بند اساسي في دستورها الجديد بعدم الانضمام لحلف الناتو الا باجراء استفتاء شعبي يحوز على الاغلبية، وبالتالي يكون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد حقق الهدف الرئيسي لهذه العملية العسكرية وهو منع حلف الناتو من الاقتراب من حدوده الشرقية، بل أن موسكو تصبح هي الاقرب لدول اوروبا الشرقية.
خارطة توضيحية لاقتراب روسيا من حدود حلف الناتو الشرقية في حال قيام روسيا بتنفيذ السيناريو الثالث/ ضم اوكرانيا، (اللون الاصفر).
وفي ظل الشلل الذي يعانيه مجلس الامن والانقسام الحاد في المواقف الدولية، ومع غياب مبادرات لانهاء الازمة، يستمر الجيش الروسي في تنفيذ عملياته العسكرية في انتظار صدور قرار جديد من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.