الاحدثدولي

  السنغال… تحديات الحاضر والمستقبل | بقلم د. محمد حسب الرسول

أكدت نتائج الانتخابات الرئاسية، التي جرت في السنغال، نهاية الشهر الماضي، الجذور العميقة لتطلعات الشعب في السنغال إلى الانعتاق من أنماط نظم الحكم، التي ارتبطت بالاستعمار الغربي، أو تلك التي دخلت في علاقات مخادمة مشتركة مع الدول المستعمِرة، بُنيت على قاعدة الحكم في مقابل السيادة والثروات.

ووفقاً لهذه القاعدة، مكّنت الدول الاستعمارية عدداً ممن توافرت لديهم القابلية للاستعمار من حكم أوطانهم، فأقاموا فيها حكماً عضوضاً، جارَ على الوطن والمواطنين، وأفرغ الاستقلال الوطني من كل قيمة ومضمون.

وعلى هذا النحو، بُنيت أنظمة الحكم في أغلبية دول العالم الثالث، وفي أفريقيا بصفة خاصة، وكلفها ذلك أثماناً غالية ضاعت معها فرصٌ تاريخية للبناء والنهوض الوطنيَّين، وضاعت معها ثروات تلك البلاد وأحلامٌ وطنية واعدة، ونُهِبت فيها ثروات لَما بُنيت من دونها في الغرب الفقير نهضة.

لم تألف دول العالم الثالث رسوخاً للتجربة الديموقراطية في أقطارها، كما لم تألف انتظاماً للعمليات الانتخابية فيها. وبالتأكيد، لم تعرف سقوطاً وفشلاً انتخابيَّين لمرشحي السلطة، وكل ذلك سقط في السنغال لناحية رسوخ تجربتها الديموقراطية، وقدرة الناخب على اختيار حاكمه بإرادة وطنية حرة، وهذا الذي جسّدته الانتخابات الرئاسية الأخيرة في السنغال، التي نصبت مرشح حزب “وطنيي السنغال من أجل العمل والأخلاق والأخوّة”، باسيرو ديوماي فاي، الذي خرج من السجن حبيساً إلى القصر رئيساً.

ولعل خطاب باسيرو التحرري صنع له رافعة أجلسته في كرسي السلطة الأول والأهم. ويلاحظ القارئ، من دون عناء، في خطاب باسيرو وحزبه مفردات تحمل مضامين تحررية واستقلالية كثيفة وشديدة الوضوح.

فللتحرر عند باسيرو بُعدان: أولهما بُعد يتصل بمفاصلة مطلوبة مع “الاستعمار” الفرنسي، عبر أبعاده السياسية والاقتصادية ليتحقق التحرر من أنماط الحكم التي وظفت مقدرات البلاد وثرواتها لمصلحة “الاستعمار” والطبقة الحاكمة عبر التاريخ في ظل حقبة الحكم “الوطني”.  والبعد الثاني حضاري يهدف إلى تحرير السنغال من هيمنة الثقافة واللغة الفرنسية.

طرح باسيرو رؤية جديدة تتأسس عليها علاقات بلاده الخارجية، بناها على 4 ركائز: الركيزة الأولى هي استعادة السيادة الوطنية، التي عدّها مرهونة للخارج. والثانية هي تحرير ثروات بلاده من القبضة الغربية. والثالثة هي الوحدة الأفريقية. أمّا الركيزة الرابعة فهي تأسيس علاقات السنغال على ما سمّاه التعاون الشريف والمحترم والمثمر.

وركز باسيرو على العمل الأفريقي المشترك من أجل تعزيز المكاسب التي تمّ تحقيقها في عمليات تحقيق التكامل في الجماعة الاقتصادية لدول غربي أفريقيا، مع تصحيح نقاط الضعف وتغيير بعض الأساليب والاستراتيجيات والأولويات السياسية، وإحداث تغييرات داخل الجماعة الاقتصادية لدول غربي أفريقيا (إكواس).

وهنا يظهر توجهه نحو قارته السمراء ومحيطه المباشر، الأمر الذي يحدث بوضوح نتيجة احتمال راجح لتعضيد التوجهات الاستقلالية التي برزت مؤخراً في النيجر ومالي وبوركينا فاسو، لتؤسس قاعدة استقلال وتكامل فيما بين دول القارة.

لم يغفل باسيرو في خطابه عن الداخل السنغالي، بحيث أشار إلى عزمه تحقيق قطيعة مع النظام الذي ظل قائماً في البلاد بعد الاستقلال، وإعادة بناء مؤسسات الدولة على نحو جديد، وتحقيق المصالحة الوطنية، ومكافحة الفساد. وفي ذلك محوران: الأول يتصل بإصلاح الدولة، والثاني يتصل بالمجتمع. ومع أهمية هذين  المحورين، إلا أن أي مقاربة لهما ستكون مقاربة نمطية ترقيعية، إذا لم تنطلق من رؤية فلسفية جديدة، وخصوصاً أنهما يرتبطان بتحديات الحاضر والمستقبل.

لا شكّ في أن القطيعة مع النظام القديم لن تبرئ الذمة الوطنية ولن تخدم قضايا الاستقلال إذا أُعيد بناؤها لتحتكر السلطة للنخبة والنادي السياسيين، ولتظل الدولة قائدة للمجتمع وقاطرة له، تعطل أدواره وتبدد جهوده، وتحرمه من استعادة دوره الطبيعي في ريادة الدولة وقيادتها، ومن استعادة دوره في المحافظة على سيادة البلد، وهو الأقدر على ذلك، وفي رتق النسيج الاجتماعي وتقويته، وهو الأعرف بذلك، وفي معالجة الظواهر الاجتماعية، وهو الأجدر بذلك، وفي صون منظومة القيم، وفي حشد الطاقات الوطنية من أجل البناء والنهوض الوطنيين.

إن المقاربة الكفيلة بتحويل مضامين خطاب باسيرو إلى حقيقة تاريخية هي تلك المقاربة التي تعيد تعريف السلطة وأدوارها، على نحو جديد، وهي التي تمكن المجتمع من دور تاريخي في قيادة الدولة، وهي التي تحدد، بصورة دقيقة، تحديات السنغال في الحاضر والمستقبل، وتوظف كل الطاقات الوطنية في رسم المستقبل والمسار السنغالي الجديد. والمقاربة هذه هي الكفيلة بضمان تحقيق التكامل والوحدة الأفريقيَّين حين يعاد، بناءً على فلسفتهما، تأسيسُ النظم في دول القارة والعالم الثالث بأسره.

د. محمد حسب الرسول

د. محمد حسب الرسول ▪️حاصل على درجة الدكتوراة في الدراسات الاستراتيجية في العلاقات الدولية. ▪️ كاتب، وباحث في الشؤون الاقليمية ▪️له خبرات في العمل الدبلوماسي وفي مجال الدراسات الاستراتيجية والتخطيط الاستراتيجي عنوان البريد الالكتروني: [email protected]

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى