الاحدثدولي

“بالنسبة إلى أوروبا، السنوات الجميلة باتت جزءًا من الماضي”

“يقفُ الاتحادُ الأوروبيُّ على عتَبةِ اختبارٍ قاسٍ يُشبِهُ الذي شهِدتهُ سويسرا أواسطَ القَرنِ التاسعَ عشرَ”، هذا ما كتبَهُ مؤلفُ كتابٍ، سويسريٌّ-ألمانيّ. ومن أجلِ منعِ الانقسامِ والتّشظّي -يُضيفُ المؤلفُ- فإنَّ على الاتحاد الأوروبي أنْ يُقدِمَ على استِلهامِ المزيدِ من سويسرا.

إلى أيِّ مدىً يُمكِنُ الاعتبارُ أَنَّ السّنواتِ الجميلةِ لأوروبا قدِ انتهت؟

شْتيفِّن كْلات: بعدَ سقوطِ جدارِ برلين وانهيارِ الأنظمةِ الاشتراكيّةِ شهِدتْ أوروبا نهوضًا لا يُضاهَى باتّجاهِ الديمقراطيّةِ والحريّةِ والرفاهيّة. في الوقتِ ذاتِهِ، وعلى مدى عقدَيْنِ ونصفٍ، لم يتحدَّ القارّةَ أحَدٌ منَ الخارج. أوروبا كانتْ تُعاني فقط منْ مشاكلَ خلقَتْها بِنفسِها.

هذا انتهى الآن، وذلكَ منذُ الغزوِ الرّوسيِّ لشبهِ جزيرةِ القرم في العامِ 2014، أو على أبعدِ تقديرٍ مع أزمةِ كورونا بَدْءًا من العامِ 2020. سنواتُ نموِّ أوروبا البطيءِ وأمنُها غيرُ المحدودِ سوفَ لن تعود بسرعةٍ.

أينَ يكمُنُ الخطر؟

لأولِ مرّةٍ منذُ الحربِ الباردةِ، يوجدُ مرّةً أُخرى تنافسُ أنظمة. الخطرُ الأكبرُ على كاملِ أوروبا، بما فيها سويسرا، يتمثّلُ في القوى الاستبداديّةِ. تعملُ الصّينُ على توسيعِ شبكةٍ منَ الحكوماتِ الاستبداديّةِ؛ أيضًا في أوروبا.

مثلُ هذهِ الحكوماتِ الاستبداديّةِ نراها في المجر وفي بولندا، وكذلكَ في إيطاليا ومنَ المحتَملِ قريبًا في فرنسا. وصلَ التّحكّمُ الاستبداديُّ إلى أوروبا. يكادُ الاتحادُ الأوروبيُّ أنْ لا يملُكَ الوسائلَ لمنْعِ ذلك.

كتبتَ بأنَّ “أوروبا لديها كلُّ ما يثيرُ مُعتدينَ محتملين”، مَنْ يُمكِنُ أنْ يريدُ مهاجمةَ أوروبا عسكريَّا؛ روسيا، الدول الأفريقية…؟

تعيشُ أوروبّا مع جارَيْنِ يقودانِ سياسةَ استعادةٍ ثأريّةٍ: روسيا التي تريدُ إعادةَ بناءِ الاتّحادِ السّوفياتيِّ السابق، وتركيا التي ترغبُ في استعادةِ جزءٍ منْ سيطرَةَ الامبراطوريّةِ العثمانيّةِ السابِقة.

منذُ عقودٍ، تحاولُ تركيا ممارسةَ النُّفوذِ والتأثيرِ على البلقان. أردوغان يمارسُ الاستفزازَ في بحرِ إيجة ويغامرُ هناكَ بحرب. ونعم، أنتمْ على حق. قدْ يكونُ منَ المحتَملِ جدًّا أن يأتيَ النّاسُ الذينَ يهربونَ الآنَ منْ أفريقيا إلى أوروبا، مسلحين يومًا ما. أوروبّا مثيرةٌ للاهتمامِ لأنّها غنيّةٌ وليسَ لديْها حدودٌ واضحة. هيَ ليستْ كأمريكا المحميَّةِ بمحيطَيْن، كما إِنّها ليستْ مسلّحةً بشَكلٍ مُناسبٍ.

تُنفِقُ الدّولُ الأوروبيّةُ المُنضويةُ في حِلفِ شمال الأطلسي مجتمِعةً أموالًا على القوّاتِ المُسلّحةِ أكثرَ مِمّا تُنفقُ روسيا.

عندَما تستطيعُ دولةٌ أنْ تهدّدَ بالتّدميرِ النوويِّ لقارّةٍ كاملةٍ، وتفعلُ ذلكَ علنًا، فإنَّ الأسلحةَ التقليديّةَ لا تُشكِّلُ حمايةً كافيةً. في الصحافةِ الرّوسيّةِ جرى التّباهي بإمكانيّةِ تدميرِ الجُزرِ البريطانيّةِ بضربةٍ واحدةٍ من خلالِ قنبلةٍ نوويّةٍ تحتَ مائيّة.

ليس لأوروبّا ما تفعلُهُ إِزاءَ ذلكَ سوى الأملِ بأنْ تتخلّى روسيا عنِ استخدامِ مثلِ هذهِ الأسلحةِ أو أنْ تمنَعها الولاياتُ المتّحدةُ الأمريكيّةُ.

ولكنْ في السّنواتِ العشرينَ الماضيةِ ارتفعَ نصيبُ الفردِ منَ الناتجِ الإجماليِّ المحليِّ على المستوى الأوروبيِّ إلى الضِّعفِ تقريبًا.

بعدَ نِهايةِ الحربِ الباردةِ نقلَ الاقتصادُ الأوروبّيُّ إنتاجَهُ إلى شرْقِ أوروبا وإلى آسيا وأَخضَعَ نفسَهُ طائِعًا للهيمنةِ الماليّةِ والرَّقْميّةِ الأمريكيّة. أوروبّا سمَحتْ لمنافسَيْها؛ الصينيِّ والأمريكيِّ، أنْ يسلباها أهمَّ أشيائِها، وما زالَ الحالُ اليومَ على ما هو عليْهِ. كونُنا ما زِلنا بِخيرٍ نسبيًّا، أو بوضعٍ أفضلَ منَ التّسعينيّات، لا يغيّرُ في حقيقةِ أنَّ القراراتِ الاقتصاديّةَ المهمَّةَ لا تُتَّخذُ في أوروبّا، بلْ في الصّينِ وفي الولاياتِ المتّحدةِ.

ثمَّ ماذا بعدُ، هلْ يوجدُ جانبٌ آخر؟

نعم. ثلاثونَ عامًا بعدَ الحربِ العالميّةِ الثانيةِ كانتْ أوروبّا الغربيّةُ اقتصاديًّا “نصفَ قارّةٍ” قويّة. كانَ غربُ ألمانيا قدْ عاشَ للتّوِّ معجزةً اقتصاديّة. في المقابلِ، ثلاثون عامًا بعدَ مرحلةِ التحوّلِ ولا نرى معجزةً اقتصاديّةً في شرقِ أوروبّا. إذا لمْ نأخذْ نصفَ القارّةِ معَنا، فإنَّ ذلكَ يشكّلُ ثِقْلًا على تماسُكِ القارّةِ.

تقصِدُ أنَّ الفجوةَ في الرّفاهيّةِ داخلَ الاتحادِ الأوروبيِّ تقودُ إلى الانقسام؟

نعم، هذا الانقسامُ يُثقِلُ كاهلَ أوروبّا بقوَّةٍ. لقدْ ذهبَ الأوروبيّونَ الشرقيّونَ إلى مرحلةِ التحوّلِ وهُمْ يتوقّعونَ أَنَّ معَ الحريّةِ ستأتي الرفاهيّةُ أَيضًا. جيلٌ كاملٌ، جيلُ والديَّ، خابتْ آمالُه.

جيلي أيضًا، في الغالبِ كانَ يجدُ فرصتَهُ في الغرب. ذلك يضغطُ كثيرًا على من تَركوا وراءَهم، وهو ما يُفسِّرُ لماذا يحصلُ حزبٌ قوميٌّ مثلُ حزبِ البديلِ لألمانيا (AfD) على 30% منْ أصواتِ الناخِبينَ والناخِباتِ في مناطق شرقِ ألمانيا، حيثُ الكثيرُ منَ النّاسِ لا يُعانونَ إطلاقًا منْ وضْعٍ ماليٍّ سيّئٍ؛ أو لماذا يُمسِكُ حزبٌ قوميٌّ محافظٌ بالسُّلطةِ في بولندا، ولماذا يستطيعُ فيكتور أوربان توسيعَ سلطتِهِ الاستبداديّةِ في المجر.

لا يتعلّقُ الأمرُ فقطْ بالأرقامِ المُطلقةِ مثلِ مضاعفةِ الناتجِ المحليِّ الإجماليِّ، بل بكيفَ يُحِسُّ النّاسُ بأوضاعِهِم. لا يُمكِنُ العيشُ إلى الأبدِ تحتَ شعور “نحنُ أوروبيّونَ منَ الدّرجةِ الثّانيةِ”، وذلكَ ما يَشعُرُ بِهِ الكثيرُ منْ أبناءِ وبناتِ أوروبّا الشرقيّةِ.

تقولُ إنَّ سويسرا واجهتْ في أواسطِ القَرْنِ التّاسِعَ عشرَ مشكلةً مُماثلةً لما تواجِهُهُ أوروبّا اليومَ. ماذا تقصِدُ بذلك؟

قبلَ مئةٍ وسبعينَ عامًا تقريبًا كانتِ سويسرا تشكيلًا منْ مجتمعاتٍ صغيرةٍ على شفير حربٍ أهليّةٍ، ثمَّ وقعتْ هذهِ المجتمعاتُ بالفعلِ في مناوشاتٍ عسكريّةٍ لمْ تدُمْ طويلًا: حربُ الـ”زَونْدَرْبُنْد” (Sonderbund). كانتِ البلادُ تواجِهُ تحدّيًا يتمثّلُ في كيفيّةِ جمعِ مجتمعاتٍ مختلفةٍ تمامًا؛ لغويًّا وثقافيًّا وطائفيًّا واقتصاديًّا. وفي الوقتِ ذاتِهِ كانَ هنالكَ ثلاثُ أو أربعُ قوىً عظمى نشِطةٌ حولَ سويسرا ترغبُ في أن تمنْعَ النّهضةَ السويسريّةَ آنذاك.

كيف يُمكِنُ جمْعُ هذا الكمِّ الكثيرِ منَ الثّقافاتِ والمجتمعاتِ في دولةٍ واحدةٍ، ثُمَّ تدومُ هذهِ الدّولةُ طويلًا وتتماسكُ جيّدًا؟ لسويسرا في هذا السياقِ بعضُ التَّجاربِ التي على الاتحاد الأوروبيِّ أنْ ينظرَ فيها.

مثلا؟

يُمكننا أنْ نتلمَّسَ ثلاثةَ مستوياتٍ. أولًا: إرادةُ النُّهوضِ. الدولةُ الاتحاديّةُ السويسريّةُ هي نتاجُ نهضةٍ تحرريّةٍ، وَوفْقًا لذلكَ، فإنَّ التفكيرَ الليبرالي طغى سياسيًّا على البلادِ لعقودٍ طويلةٍ. لكنْ ثانيًا: كانَ هذا التفكيرُ الحرُّ ذكيًّا بما فيهِ الكفايةُ ليتمسَّكَ بالفدرالية.

على الرَّغْمِ منْ أنَّ الدولةَ الاتحاديّةَ السويسريّةَ كانتْ تقدُّميَّةً، إلّا أنَّ المحافظينَ الذين هُزِموا في حربِ الـ”زَونْدَرْبُنْد” تمكّنوا منَ البقاءِ أسيادًا في مناطِقِهم.

ثالثًا: جرى تطبيقُ الديمقراطيّةِ المباشِرةِ خُطوةً خطوةً، حيثُ أمكنَ شمولُ الأقليّاتِ في جميعِ الكانتونات.

لا أستطيعُ أنْ أتصوَّرَ أنَّ الاتحادَ الأوروبيَّ سيستمعُ لكَ أو لسويسرا. أنتَ نفسُك تقولُ بأنَّ أوروبا الموجودةَ واقعيًّا ليستْ جاهزَةً بعدُ. إذنْ كيفَ ستبدو القارّةُ بعدَ عشرينَ عامًا؟

تقفُ أوروبّا أمامَ خيارَي النّهضةِ أو الانهيارِ، فإِمّا أنْ تمضي في اتّجاهِ نهضةٍ ديمقراطيّةٍ يكونُ فيها للمواطنينَ والمواطناتِ المَزيدُ منَ المشاركةِ في القرارِ، وإِمّا في اتّجاهِ انهيارٍ ديمقراطيٍّ. عندذاكَ سيُصبِحُ أتباعُ كلٌّ منْ أردوغان وأوربان وميلوني ولوبان، هُمُ المعيار.

مقترحاتُكَ للحلِّ وَفقًا للمثالِ السويسريِّ تهدفُ إلى الوحدةِ الداخليّةِ التي ينبغي أنْ تمنعَ تفكّكَ الاتحاد الأوروبيّ. لكنّني لمْ أقرأْ في كتابِكَ كيفَ يُمكِنُ أنْ تصمُدَ أوروبّا بوجْهِ الأعداءِ الخارجيِّينَ؟

أيُّ بلادٍ، تكون قويَّةً عندما يكونُ التّماسُكُ فيها قويًّا. لا تتفكّكُ أوروبّا في المقامِ الأوّلِ لأنَّ روسيا أو تركيا تُصبِح أقوى وتهاجمُها، بل إِنّها تتعرضُ للخطَرِ عندما لا تكونُ متّفقَةً داخليًّا. وهذا هو الحالُ اليومَ في الواقع.

إذنِ الوحدةُ الداخليّةُ أهمُّ منَ القوّةِ العسكريّةِ. لكي تستطيعَ أوروبا البقاءَ في هذا العالمِ، لمْ تعُدْ بحاجةٍ إلى أسلحة، بل إلى اجتماعٍ داخليٍّ فاعل. بعدَ ذلكَ لا يجبُ أنْ يكونَ لديْها خوفٌ منَ الصّينِ، وبالتأكيدِ ليسَ منْ روسيا أو تركيا. ما زالتِ الصّينُ عسكريًّا تمثّلُ قوَّةً إقليميّةً آسيويّةً. روسيا وتركيا بالمُقارنةِ مع أوروبّا الموحّدَة، ضعيفتانِ جدًّا، بغضِّ النَّظرِ عنْ التَّهديداتِ النوويّةِ.

الوحدةُ الداخليّةُ المفقودةُ هي أكبرُ تحدٍّ بالنّسبةِ للاتحادِ الأوروبيّ، في هذا الحقلِ تستطيعُ أوروبّا بالتأكيدِ أنْ تتعلَّمَ شيئًا منَ سويسرا.

مصدر المقال : اضغط هنا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى