الاحدثدولي

وكالة “وداعاً بيزو” للسفريات: أو كيف يستخدم أهل صقلية السياحة لمحاربة المافيا | كتبت د. بولا الخوري

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

 

ما ينطبع في الذهن من اللحظات الأولى في ثلاثية أفلام “العرّاب” عن المافيا الإيطالية هو مشهد ذلك الرجل أو الرجلين الذين تبدو على محياهما وجسديهما كل ما تختصره المافيا من بشاعة وسوقية وعنف، يدخلان الى محل تجاري وبلا أي كلام أو جدال يفتح التاجر صندوق حساباته ويدفع لهما. وقي نهاية المطاف، يغلق الكثير من التجار محالهم بعد أن يتخطى ما يدفعونه ما يحققونه من أرباح، عدا معايشتهم اليومية للخوف لا بل للرعب من انتقام المافيا.

حاربت إيطاليا المافيا منذ عقود، وجرى اغتيال قضاة ومحققين ومواطنين تجرأوا على التصدي لها بأبشع الأساليب وأكثرها عنفاً لإعطاء درس للآخرين. وبلغ هذا الترهيب ذروته في أوائل التسعينيات من القرن الماضي من خلال عمليات إغتيال وتفجيرات مروّعة. ومع ذلك نجحت هذه الجهود البطولية في سوق كبار وجوه المافيا الى المحاكمة، فضلاً عن أحزاب كبرى وسياسيين معروفين أداروا حكومات متتالية بسبب تواطؤهم معها بل الاستفادة منها لمراكمة الثروات والوصول الى السلطة.

بالرغم من أن هذه المحاكمات خلقت نوعاً من التوازن بين السلطات المحلية والسكان من جهة والمافيا من جهة أخرى، فإنها لم تقض على ممارسات هذه الأخيرة بشكل كلي، بوجه خاص في موطنها الأصلي، صقلية. فالشرطة مثلاً تحاول تشجيع السكان على فضح أعضاء المافيا الذين يتعرضون لهم بفرض الخوة والإبتزاز والتهديد، لكن النتائج تبقى محدودة. ذلك بسبب التجارب المريرة السابقة، ومنها اختراق أعضاء المافيا للسلطات المحلية وللشرطة، وبالأخص لأن الشرطة وإن صدقت نواياها لن تتمكّن من حماية التجار وعائلاتهم على مدار الساعة.

وهكذا ما زالت المافيا في منطقة صقلية تفرض نظام خوة على الشركات والمتاجر وكل رواد الأعمال بغض النظر عن مستوى مداخيلهم. تسمى “بيزو” Pizzo وتعني حرفياُ “مال الحماية”، أي مقابل أن تؤمن المافيا حمايتك عليك أن تدفع جزءاً من أرباحك لها. ولعبثية الوضع فإن التاجر يدفع لأعضاء المافيا بحجة حمايته، لكن ممن؟ في الواقع هم يحمونه من أنفسهم وليس من أي خطر آخر، أي أنه يدفع لهم فقط ليتركوه يعمل بسلام.

في بداية التسعينات ظهرت في صقلية حركة اجتماعية مناهضة للخوة. قبل ذلك كان تجرأ عدد قليل من أصحاب المحال ورواد الأعمال على رفض دفع البيزو. وبالرغم من جهود الحركة للفت الانتباه لمخاطر ممارسات أعضاء المافيا فإنها فشلت في التصدي لهم، وفي بعض الحالات عانى المبلغون عن المخالفات انتقامًا عنيفًا ودموياً على أيدي عملاء المافيا. مثل هذه الأحداث عززت القناعة لدى أرباب الأعمال إن التصدي لها هو سلوك خطير للغاية. وحتى أوائل عام 2000 واصل ما يقرب من 90 ٪ من التجار ورجال الأعمال الصقليين دفع البيزو.

لكن هذه التجربة لم تذهب سدى، بل خلقت القناعة لدى عدد من الناشطين والناشطات في باليرمو، عاصمة صقلية، بتطوير الحركة وعدم الإكتفاء بفضح أعضاء المافيا أو التبليغ عنهم، لصالح خلق شبكة دعم واسعة حول رواد الأعمال والشركات والتجار الذين لا يدفعون الخوة. بدأ الناشطون بدعوة المجتمع المدني والمستهلكين لدعم هذه المنشآت، فضلاً عن تأمين الحماية الجسدية لأصحابها لردء خطر انتقام المافيا عنهم، ومنحهم الثقة والقدرة على مقاومة التهديدات. وفي عام 2005، أصدرت الحركة شهادة شبيهة بشهادات النوعية لمكافحة الخوة أسمتها Addiopizzo حرفياً “وداعاً بيزو”، وهو اسم الحركة نفسها. وأصبحت الشركات الصقلية تعلّق الشهادة على أبواب متاجرها وعلى جميع منتجاتها وعربات النقل التي تستخدمها، لإشهار موقفها المعلن من معاداة الخوة والتصدي لها.

في نهاية عام 2006، وبعد عام واحد فقط من إدخال الشهادة، تلقى التجار وأرباب الأعمال دعماً علنياً من مئات من النشطاء ومن 12 جمعية لا تبغي الربح و136 وكيلاً تجارياً و8269 مستهلكًا أعلنوا صراحة عن استعدادهم للشراء فقط من المتاجر والشركات التي تشهر هذه الشهادة. بحلول عام 2009، حصلت 419 شركة على الشهادة، وتلقت الحركة دعما شعبياً من آلاف النشطاء في الجمعيات وحوالي عشرة آلاف مستهلك.

كما عمدت الحركة إلى التعاون مع شرطة صقلية، وغرف التجارة وجمعيات الصناعة المحلية، والمدارس والجامعات لتعزيز حركة مقاومة الخوة. ولأول مرة يترسخ الاعتقاد بين الشركات الصقلية، خاصة في العاصمة باليرمو، بأن رفض دفع البيزا هو خيار قابل للتطبيق، لأن التاجر أو صاحب الشركة لم يعد وحيداً بل يسبح في محيط اجتماعي وأهلي حاضر دائماً للوقوف الى جانبه وللدفاع عنه، والأهم هو تشجيع الآخرين الخائفين أو المترددين على اتباع النهج نفسه.

بعد تحقيق أولى نجاحاتها أطلقت الحركة نشاطاً جديداً عنوانه السياحة المسؤولة اجتماعياً انسجاماً مع إعلان كيب تاون عام 2002 للسياحة والذي جرى تبنيه على نطاق واسع عالمياً، وحدّد السياحة المسؤولة على أنها مجال من شأنه أن يدير اقتصاد السياحة بمسؤولية اجتماعية وبيئية، ولصالح التفاعل الإيجابي وذات المغزى ما بين شركات السياحة والمجتمع المحلي.

أنشأت الحركة شركة للجولات السياحية المحلية وبدأت بالإتصال بوكالات السفر ومنظمي الرحلات والفنادق وأماكن المبيت والإفطار والمطاعم وكل من يقدّم خدمات ومبادرات سياحية من أجل تنظيم جولات سياحية في صقلية تجمع بين متعة السياحة والتعريف عن مناهضة التجار والسكان عموماً للمافيا من أجل دعمهم حصراً عبر الشراء منهم أو الإقامة لديهم.

على سبيل المثال تنظم آديوبيزو للسياحة إحدى جولاتها تحت شعارPago chi non paga أي “أنا أدفع لمن لا يدفع.” (أي لمن لا يدفعون البيزو). وفي إحدى إعلاناتها تتوجه بالدعوة للسائح: “اتخذ موقفاً وساعد في تنمية الاقتصاد النظيف. اتخذ موقفًا وساعدنا في منع المافيا من تلقي سنتيم واحد من أموالك” وهي دعوة لمقاطعة كل الأنشطة الاقتصادية التي تديرها المافيا.

والملف للنظر أن كل شركات السياحة والخدمات السياحية التي تعاونت مع الحركة وجدت أن أعمالها تزدهر وردود فعل السياح التي تصلها إيجابية جداً مما زاد من عددها في دعم الحركة وشركتها “أديو بيزو ترافل”. ومن التعليقات التي أتتهم من إحدى السائحات: “التقيت بأناس جميلين جداً واستمعت إلى قصص مذهلة عن بطولات السكان: شعب شجاع، مناظر طبيعية خلابة وطعام شهي، صقلية هي كل هذا في آن واحد”.

تدل جولات شركة السياحة على البعد الاجتماعي الواضح لنشاطاتها الاقتصادية. فتضع في متناول السائح لائحة بالفنادق وبيوت الضيافة أو المزارع وشركات النقل التي اتخذت القرار بالتمرد على المافيا، ومنها تلك التي تمت مصادرتها من زعماء المافيا الشهيرة “كوزا نوسترا” وأعيدت للسكان لاستثمارها. كما تبيع مجموعة “تي شيرت” طبعت عليها شعارات ضد البيزو ومنتوجات غذائية محلية أثناء الجولات، أو على موقعها على الانترنت.

في إحدى جولاتها تدعو الى اكتشاف وجه قرية كورليوني الحقيقي ما وراء الكليشيهات والقوالب النمطية التي تروجها أفلام المافيا منذ العرّاب، مشدّدة على أن إسم كورليوني ليس مجرد اسم عائلة العرّاب. والجولة تتيح اكتشاف تاريخ

كورليوني من أواخر القرن التاسع عشر، عندما كان نضال الفلاحين هو الشكل الوحيد لمقاومة المافيا.

فيما تهدف جولة أخرى الى تكريم ذكرى الأبطال الذين قاوموا المافيا مثل المدعيّين العامين جوفاني فالكونه وباولو بورسيلينو، واللذين دفعا حياتهما ثمناً للمواجهة معها دون كلل أو خوف، وما زالت جرأتهما وتفانيهما يلهمان السكان والنشطاء حتى اليوم، وهذا ما يروونه للسيّاح. أو أيضاً قصة بيبينو امباستاتو الذي على الرغم من أن والده كان عضواً في مافيا “الكوزا نوسترا”، كانت لديه الشجاعة للتمرد عليها وشجب سلوكها الإجرامي والفاسد. وقادته جرأته إلى إطلاق برنامج إذاعي ساخر منها، فقامت باغتياله عام 1978.

وتنظم الحركة رحلات أخرى على شكل دورات تدريبية مصمّمة لطلاب المدارس والجامعات، ايطاليين وأجانب، وتتوجه بشكل أساسي الى طلاب علم الإجرام والقانون وعلم الاجتماع وذلك لزيادة معرفتهم بظاهرة المافيا، لكن أيضًا لتوسيع فهمهم للطرق المختلفة التي يمكن من خلالها المساهمة في دعم المجتمع وتغييره.

كما تعلن “أديو بيزو ترافل” عن تبرعها بجزء من إيراداتها الى منظمات غير حكومية محلية، من أجل المساهمة في الأنشطة الاجتماعية والثقافية والترفيهية مع الأطفال والمراهقين في أفقر مناطق باليرمو.

ربما كان أهم درس تقدمه حركة “وداعاً بيزو”، أن الأفراد لوحدهم مهما بلغت جرأتهم وعزة نفسهم في التصدي للتهديد والابتزاز يضطرون للرضوخ بخيارهم أو بإجبارهم ما لم يتلقوا دعماً من محيطهم الاجتماعي، لا بل أن فشلهم في المواجهة يؤدي الى تخويف كل هذا المحيط. وهكذا تعلن “أديو بيزو ترافل” في إحدى منشوراتها: “يمكنهم أن يرهبوا أو يقتلوا رجل أعمال واحد أو ناشط واحد، لكنهم عاجزون عن تخويف مجتمع بأكمله”.

تبدو الحركة كنموذج رائد للحركات الاجتماعية التي تعتمد النشاط الاقتصادي لترويج أفكارها ودعم مجتمعها، وهو نموذج بدأنا نشهده في تجارب عديدة حول العالم. وتكمن أهميته في ذلك الإبداع في الجمع بين ريادة الإعمال والمسؤولية الأخلاقية والتجارية تجاه مصلحة المستهلكين وصحتهم، وتجاه البيئة والمجتمع الحاضن.

وتعبّر أيضاً عن شكل جديد من النضال الاجتماعي لا يتوسل الأحزاب السياسية أو تغيير المجتمع باستبدال السلطة من الأعلى بل عبر النضال المحلي والمتجذّر اجتماعياً، أي من الأسفل الى الأعلى، مما يؤدي الى انخراط السكان في الحركة الاجتماعية على طول مرحلة التغيير، ولا يفصل بالتالي بين المناضل المحترف في الحزب أو الزعيم وجمهور هذا الحزب.

ربما في هذه الأشكال من الحركات الاجتماعية نوع من الإجابة الأولية على ذلك السؤال الذي ما زال يطرح بإلحاح عبر العالم منذ الانتفاضات الشعبية الواسعة التي توالت منذ عقدين بدءاً من إسبانيا الى الدول العربية الى فرنسا وبعض بلدان أميركا اللاتينية: لماذا لا تنتظم هذه الحركات بأحزاب أو تنضوي تحت برامج سياسية شاملة للوصول الى السلطة؟

هل لأن المواطنين وجيل جديد من الناشطين لم يعد يؤمن بأن التغيير يحصل بتغير رأس الهرم وحسب، واستبدال سياسيين بآخرين أو برامج بأخرى؟

لزيارة موقع أديو بيزو:اضغط هنا

د. بولا الخوري باحثة وصحافية في علم الاجتماع

د. بولا الخوري، باحثة مشاركة في مركز التحليل والتدخل الاجتماعي CADIS في معهد الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية في باريس EHESS - CNRS. لدى الخوري خبرة لأكثر من 20 عاماً كعالمة اجتماع وصحافية، حيث تساهم في تعميم نظريات العلوم الاجتماعية في الصحافة بغية جعلها بمتناول الجمهور غير الأكاديمي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى