نعيش في أيامنا هذه في حروب ضارية تولّد يوماً بعد يوم المزيد من الإعاقات وتعني المزيد من الأفراد والعائلات وخاصة في منطقة الشرق الأوسط. لكن هذه المنطقة ما زالت متخلفة جداً من حيث الاهتمام بأوضاع المعوّقين، سواء من حيث المساواة في فرص الدراسة والعمل، سهولة التنقل، المساعدة المتاحة للمساعدين العائليين أو للجمعيات، وبالأخص النظرة الاجتماعية لهم باعتبارهم أصحاب حقوق، لا بل ممتلكين لطاقات ومواهب ويستطيعون خدمة مجتمعاتهم كأي أفراد أسوياء. وهذا ما أظهرته ألعاب فرنسا البارالمبية على الصعيد الرياضي.
تحولت الألعاب الأولمبية والبارالمبية في فرنسا على امتدادها الى عرس شعبي ندر مثيله. والمعروف عن الفرنسيين عادة اقتصادهم في التعبير عن مشاعر الفرح والفخر، لا بل ميلهم الى التذمر وكثرة الإنتقاد ربما لمداراة هذه المشاعر ومحاولة إخفائها. هذا ما دفع بالصحافيين الأميركيين في وال ستريت جورنال، اللذين غطيا الحدث، للكتابة إنه حتى الفرنسيين لم يجدوا ما يتذمرون منه في هذه الألعاب بل كانت مدعاة لفخرهم، كونها تجري في بلدهم وتوظف طاقات رياضية، موسيقية، فنية عالية المستوى لإنجاحها. كانت الأعمال الموسيقية، ألعاب الإضاءة والإستعراضات المختلفة مميزة وأغلبها من إنتاج فرنسي.
أما الألعاب البارالمبية التي جرت بين 28 أغسطس و8 سبتمبر وتلت الألعاب الأولمبية فقد بلغت صدى دولياً استثنائياً لأول مرة في تاريخ هذه الألعاب. ساهم في ذلك دون شك كونها تلت الألعاب الأولمبية التي نجحت في استقطاب اهتمام دولي واسع لحسن تنظيمها وجمالية إخراجها الفني، بالرغم من الانتقادات التي رافقت حفل الإفتتاح حول تقليد لوحة العشاء السري، والتي سرعان ما تبددت بعد تفسيرات بدت مقنعة للعمل الاستعراضي موضوع الانتقاد.
وأسهمت أيضاً دعوة فنانين دوليين ليلة الإفتتاح: سيلين ديون، ليدي غاغا، توم كروز وسنوب دوغ، في هذا البعد العالمي للحدث. لكنها أول ألعاب أولمبية تجري في ظل هذا التطور المذهل للتكنولوجيا الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي، مما جعلها تصل وبشكل حيّ ومتواصل لأربع أصقاع العالم. ولم يشبهها بذلك ما حدث قبل أربع سنوات في طوكيو حيث ترافقت الألعاب مع انشار مرض الكوفيد وسياسات الحجر عبر العالم.
وعلى أي حال فقد جرت تغطيتها بشكل يومي من قبل الصحافة العالمية التي كانت شديدة الحضور في فرنسا، بفعل عالمية الحدث بحد ذاته وهو الذي شارك فيه أربعة ألآف وأربعمئة رياضي من العالم ممثلين 184 بلداً. وهكذا بدت الألعاب كفسحة للاسترخاء والمتعة في ظل أحداث عالمية تشعر الناس عموماً بالعجز عن التأثير بها وفي أغلب الأحيان عن فهم ما يجري أو لماذا. وبدا الإعلام الرياضي ربما لأول مرة كإعلام رئيسي يضاهي الإعلام السياسي، لا بل تسارع إعلاميون غير رياضيين للكتابة أيضاً عن الحدث.
كل ذلك وضع اللاعبين المعوّقين أو ذوي الإحتياجات الخاصة تحت الأضواء لمدة عشرة أيام متواصلة، ووضعنا نحن المشاهدين أمام إختبارات مشاعرية وفكرية ندر مثيلها. لقد طرحت هذه الألعاب موضوع الإعاقة بكل إبعاده على الطاولة مكشوفاً أمام أنظار العالم أجمع. وذلك بدءاً من التعجب والإنذهال أمام إداء وقدرات هؤلاء الرياضيين، الى طرح تساؤلات متعددة ومتنوعة حول “نحن وهم” وما الفرق فعلاً إذا ما تتخطينا الشكل، أي الجسد.
لا شك إنه بدا للأفراد “السويين” إنه بإمكانهم تعلم الكثير من مثابرة وقوة الإرادة الرياضيين المعوّقين، وحتى من تفاؤلهم وفرحهم كما حزنهم تجاه الربح أو الخسارة، مما بدا شديد الصدق على وجوههم وبقوة أكبر من تلك المشاعر التي تبدو في الغالب أقل عفوية على وجوه اللاعبين “الأسوياء”. ربما لأن المعوّقين يتحققون من قدرة جسدهم الذين يضعونه قيد الإختبار في كل مرة يلعبون ويكتشفون إذا كان سيخذلهم أم لا، بعد أن تخطوا عقدة كشفه أمام أنظار البشرية جمعاء، وفي ذلك بحد ذاته جرأة استثنائية.
شعورنا هذا بالإعجاب لا بل الذهول أحياناً من قدرات المعوّقين، هو ما يلقى نقداً من قبل العديد من ممثلي المعوّقين والباحثين في مجال الإعاقات، ذلك إنه يجب التعامل معهم كرياضيين أو كأصحاب مهارات مختلفة كأي فرد آخر في المجتمع. إنه شعور يتأرجح حسب هؤلاء بين حدّين نقيضين: الإعجاب المفرط بإنجازات المعوّقين بالنسبة لشروطهم الجسدية أو الذهنية، ومشاعر الشفقة التي تثيرها فينا مراقبة أجسادهم وإعاقاتهم. أي إننا نبقى في الحالتين ضمن النظرة الفوقية التي تقيم تمييزاً ابين نوعين من البشر: “الكامل” و”الناقص”. أهمية هذه المقاربة أنها تطرح على “الأسوياء” مسألة التصالح مع ذاتهم التي تعاني دائماً بالشعور بنقص ما، وترفض أن تتساوى مع المختلف عنها خوفاً من الانكشاف على نفسها وعلى هواجسها الشخصية.
لكن عدا عن المهارات الرياضية المميزة بدأت الدراسات تبيّن أن المعوّقين لا يشكلون عبئاً على المجتمع بل على العكس يساهمون في تطويره بفضل قدرات وإمكانات خاصة يمتلكونها عنوة عن الأسوياء، وذلك للمفارقة في الإعاقات العقلية. مثلاً كان أداء الأفراد المصابين بالتوحد أفضل من الأسوياء في الاختبارات التي تتطلب التركيز على التفاصيل الصغيرة ضمن بنى الاختبارات الصعبة. كما إنهم أظهروا تفوقاً في معالجة التركيبات المنطقية وفي لغة الكمبيوتر المعقّدة. وتبيّن أن الطلاب المصابين بالتوحد يحقّقون نتائج أفضل بشكل كبير من غيرهم في اختبار الذكاء الذي يستخدم فيه الأشخاص المهارات التحليلية لإكمال متوالية مرئية مثلاً، عدا عن قدرتهم على معالجة الأشكال ثلاثية الأبعاد المعقدة ذهنيًا بسهولة أكبر من باقي الطلاب.
تُظهِر فئات أخرى من الإعاقة مزايا خاصة إذ يتمتع العديد من الأطفال المصابين باضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط (ADHD) بقدرات أعلى من المتوسط للبحث عن الجديد، وهو شرط أساسي مهم للسلوك الإبداعي. ويسجل الأطفال المصابون بالاضطراب ثنائي القطب (Bipolar) درجات أعلى من الأطفال الآخرين في اختبار شائع للتفكير الإبداعي. وغالبًا ما يُظهِر الأشخاص المصابون بمتلازمة ويليامز قدرات واهتمامات موسيقية متطورة. وتم وصف متلازمة داون بأنها “متلازمة الأمير الساحر” بسبب الموقف الودود الذي يتمتع به هؤلاء الأفراد.
قرأت مقالاً، لا بل استمعت إليه، على موقع وال ستريت جورنال، عن القانون الأميركي الذي يلزم المواقع الالكترونية لوسائل الإعلام أن تكون متاحة للمعوّقين. لهذا أقول إني استمعت اليه لأن مقالات الموقع متوفرة لمعوّقي البصر والعميان، وفي حال لم تلتزم الوسيلة الإعلامية بتسهيل استخدامها من قبل هؤلاء وغيرهم من المعوّقين فإنها تجازى ماديا بشكل باهظ الثمن. حتى اليوم يبدو أن القانون الأميركي هو الأكثر تطوراً لناحية جعل الانترنت بمتناول المعوّقين، وهو قانون قد تم تبنيه من قبل الكونغرس الأميركي عام 1998، وجرى توسيع نطاقه في ظل أوباما عام 2010.
تطرح علينا هذه الألعاب أيضاً أسئلة مهمة حول موقع ودور المعوّقين في حياة المجتمعات وما تفعله السياسات العامة لتسهيل عيشهم كمواطنين أصحاب حقوق وواجبات كغيرهم من البشر، ذلك أنهم يمثلون 15% من سكان الأرض. وحتى اليوم تبقى مشكلة تسهيل الحياة اليومية لهؤلاء وسهولة تنقلهم بدءاً من المساكن، مروراً بالأماكن العامة ووصولاً الى المؤسسات، كمشكلة رئيسية مطروحة على المجتمعات، بالرغم من تطورات مهمة بالأخص في الدول الغربية.
لا شك إن حدثاً مثل الألعاب البارالمبية الدولية سيساهم في تغيير نظرتنا التمييزية بين الحالات السوية والمعوّقة، باعتبارها نماذج مثالية تجعل من الانسان السوي كائناً “كاملاً” بميزات غير موجودة فعلاً في الواقع، فالكل معوّق في مجال أو آخر من حياته. هذا يسهّل علينا التصالح مع نقاط ضعفنا والتحرر من النظرة الى كمال الجسد أو النماذج النمطية للتفوق الفكري أو الاجتماعي كغايات تختصر حياة البشر على الأرض.