لعلنا لا نحتاج إلى ديباجة ومقدمة ، توضح أهمية التفاهم والتلاقي بين مختلف المكونات والتعدديات والتعبيرات في المجتمع الواحد لتحقيق مفهوم الأمن والاستقرار .. فالأخير ليس وصفة جاهزة ، وإنما هو مرحلة وفضاء تصل إليه المجتمعات ، حينما تزداد وتيرة التفاهم والتلاقي بين تنوعاتها ومكوناتها المختلفة .
وما نود أن نثيره في هذا الصدد هو دور التربية الجمالية في تعزيز خيار الاستقرار والسلم الأهلي والاجتماعي . فلو تأملنا قليلا في مفهوم التربية الجمالية نجد أنه يعتمد اعتمادا أساسيا على حقيقة الشعور بالبعد الجمالي لحقيقة التعدد والتنوع الموجود في الطبيعة والحياة الإنسانية . فالطبيعة ليست لونا واحدا ، كما أنها ليست منظرا واحدا ، من هنا فإن تنمية الذائقة الجمالية لدى الإنسان ، يعني الاقتراب من مفهوم التنوع الهائل الذي تشهده الحياة الطبيعية .
كذلك هي الحياة الإنسانية ، فإن التربية الجمالية تعني اكتشاف حقيقة التنوع الرائعة التي يعيشها الإنسان فردا وجماعة . وإن مقتضى الذائقة والتربية الجمالية هو التعامل مع حقيقة التنوع والتعدد المتوفرة في حياة الإنسان من منظور جمالي . بمعنى لو غاب التنوع من الوجود الإنساني ، لأضحت حياة الإنسان جحيما لا يطاق .
من هنا فإن التربية الجمالية تقتضي التعامل مع الحياة الطبيعية والإنسانية على قاعدة وجود حالة التنوع ، وأن جمال الحياة الحقيقي ليس في تحولها إلى لون واحد ، وإنما في استمرار تنوعها وتعددها . فالحياة كالشجرة التي تمتلك عشرات الأغصان ، وكل غصن يمارس وظيفته ويعطي جماله الخاص . كذلك هي الحياة الإنسانية ، فهي مليئة بصور التعدد والتنوع ، وهذا هو سر جمالها . ومقتضى التربية الجمالية هو التعامل الخلاق مع تنوع الطبيعة وتعدد الحياة الإنسانية .
وأعتقد اعتقادا جازما أن تطور التربية الجمالية بكل أبعادها في حياتنا الاجتماعية ، هو أحد المداخل الأساسية لتوطيد أركان الاستقرار الاجتماعي والسلم الأهلي . لأن الركن الأساسي لعملية الاستقرار هو الاعتراف والتعامل الإيجابي والخلاق مع كل حالات وحقائق التنوع والتعدد الموجودة في الحياة الإنسانية . وإن التعامل بروح إيجابية أو بمنظور جمالي مع حالة التعدد والتنوع ، لا يأتي صدفة ، وإنما هو بحاجة إلى تربية وتدريب في مختلف مراحل حياة الإنسان . فكما يحتاج كل واحد منا إلى أن يربي عقله ، ويربي نفسه ، ويربي روحه ، ويربي جسده ، هو بحاجة أيضا أن يربي ذائقته الجمالية .
وهنا نحن لا نتحدث فقط عن ضرورة تنمية الذائقة الجمالية للاستمتاع بالجمال الحسي فقط . وإنما نحن نقول ونعتقد أن مفهوم الجمال لا ينحصر في القضايا والمسائل الحسية ، وإنما هو أوسع من ذلك بكثير . فأنا وأنت حينما نربي ذواتنا على الصدق مثلا ، فإننا نزرع في وجودنا وحياتنا شجرة جميلة ، مزهرة ، مثمرة ، يراها الآخر في هذا السلوك اللطيف والتعامل الجميل والكلمات الطيبة فتبعث في نفسه ما تبعثه شجرة حقيقية مورقة ، مشرقة . ويشير إلى هذه الحقيقة أحد الكتاب بقوله : أن الطفل الذي يفتح عينيه ليرى أما صبوحة الوجه أنيقة الثياب ، عذبة الألفاظ ، وينتقل في بيت تكاد النظافة تنطق في كل جوانبه وزواياه ، ويجد الصفاء يرفرف في أنحائه من أم حانية وأب عطوف ، ينغرس حب الجمال في نفسه فينشأ وهو جميل في ملبسه وفي تعامله وفي نظرته للأشياء .
فدور الأم في تنظيم بيتها وتزيينه بما يحيله إلى جنينة يجعلنا نأخذ الدروس الأولى في التربية الجمالية . بنحو غير مقصود . ثم تأتي العوامل الأخرى في تنشئتنا تنشئة جمالية ، فأصدقاؤنا الذين انحدروا من بيوتات لا يسمع فيها إلا القول الجميل ، ولا يرى فيها إلا التصرف الجميل ، ولا يشم فيها إلا الأنفاس العاطرة ، ولا يلمس فيها إلا نبض القلوب الحانية ، سيتركون بصماتهم الجميلة علينا .
ومعلمونا الذين يقدمون لنا في حب وحرص وإخلاص وأبوة أساليب التعامل مع زملائنا والحياة من حولنا ، تبقى وصاياهم ترن في آذاننا مدى الحياة . وما نقرأه في كتاب الله الجميل ، وفي كتاب الكون الحافل بمشاهد الجمال ، إن ذلك كله يعطينا من التربية الجمالية مالا تمحوه الأيام ولا تغيره الطبائع المتقلبة حتى لو انقلبت مفاهيم الناس فصاروا يرون القبح جمالا والجمال قبحا .
لهذا كله فإن التربية الجمالية والتي هي في جوهرها تعني القبول بحقيقة التعدد والتنوع ، والتعامل مع هذه الحقيقة بوصفها هي سر جمال الكون والإنسان ، هي أحد المداخل الأساسية لتوطيد أركان السلم الأهلي . ولو نظرنا قليلا في كل الممارسات التي تناقض مفهوم السلم الأهلي والتعايش الاجتماعي ، لرأينا أن هذه الممارسات لا تنسجم والرؤية الجمالية المتنوعة لحياة الإنسان فردا وجماعة .
ونحن هنا لا نتحدث فقط عن الجمال الظاهري للإنسان ، والذي يتجسد في النظافة وحسن الطلعة وفي الأناقة والزينة ، وإنما نتحدث عن الجمال الباطني والجوهري والذي يتجسد في جمال البيان ورجاحة العقل والأخلاق الفاضلة .
ولو تأملنا في الفضائل الأخلاقية والاجتماعية كالحب والعفو والعفة والخير والتعاون والكرم والتواضع لرأينا أن هذه الفضائل وغيرها من صميم مفهوم الجمال الذي نتحدث عنه . وفي المقابل فإن كل الرذائل التي تضر بالحياة الإنسانية والاجتماعية فهي من القبيحات التي تناقض مفهوم الجمال . فالكذب قبيح ، والعدوان على السلامة الخاصة والعامة قبيح ، والغش قبيح وهكذا دواليك .
لهذا نجد أن التوجيهات الإسلامية ، تحثنا وتدعونا إلى تجسيد المحاسن والابتعاد كل البعد عن كل ما يشين ويقبح حياتنا . فالآيات تدعونا إلى العمل الأحسن دائما . قال تعالى [ إنا جعلنا ما على الأرض زينة لنبلوهم أيهم أحسن عملا ] ( الكهف ، الآية 7 ) . والقول الأحسن [ ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ] ( فصلت ، الآية 33 ) . والتحية الأحسن [ وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها ] ( النساء ، الآية 86 ) . والصفح الجميل [ فاصفح الصفح الجميل ] ( الحجر ، الآية 85 ). إلى غيرها من التوجيهات التي تحثنا دوما وفي كل الأحوال إلى تبني سلوك الجمال في حياتنا الخاصة والعامة .
لهذا فإن السلم الأهلي والاجتماعي ، يقتضي دائما إشاعة الجمال من حولنا فيما نكتب وفيما نرسم وفيما نعمل وفيما نبني من علاقات . لنسهم جميعا في إضافة ولو لبنة صغيرة في البناء الاجتماعي .
إن مسحة جمالية هنا ومسحة جمالية هناك بكلمة جميلة هنا وموقف جميل هناك ، بتخفيف ألم هنا وبزرع ابتسامة هناك ، بدعوة إلى الخير هنا ودعوة إلى الهداية هناك ، يمكن أن نزيل معا من خلال هذه الممارسات الكثير من القبح المزروع في حياتنا .
وهنا نود أن نؤكد على النقاط التالية :
- إن الكثير من المشاكل والتوترات في المجتمعات المتعددة والمتنوعة ، ليست من وجود هذه الحالات والحقائق ، وإنما لغياب الإدارة الحكيمة والواعية لهذه التعدديات والتنوعات . فكل المجتمعات الإنسانية لا تخلو من تعدد بنوع ما ، إلا أن هذه المجتمعات تفترق عن بعضها من ناحية الطريقة وصيغ التعامل مع حالات التنوع الموجودة فيها . فالمجتمعات التي استطاعت أن تبلور لنفسها صيغ المشاركة وتحمل المسؤولية العامة لكل مواطنيها بصرف النظر عن أصولهم . فإن هذه المجتمعات حققت استقرارها ليس بدحر خصوصيات مواطنيها ، وإنما ببناء علاقة إيجابية وحيوية مع هذه الخصوصيات . أما المجتمعات التي لم تتمكن من بناء هذه الصيغة لمختلف العوامل والأسباب ، فإنها أضحت عرضة للمشاكل والأزمات المفتوحة على كل الاحتمالات .
لهذا كله فإننا نستطيع القول : إن جوهر المشكلة الحقيقية ليس وجود حالة التنوع والتعددية في المجتمعات الإنسانية ، وإنما في غياب الإدارة الواعية والحكيمة والحضارية لحالة التنوع ومتطلباتها المختلفة.
- إن تجارب المجتمعات الإنسانية ، تعلمنا أن الأفكار والرؤى والقناعات ، لا تنتقل بين الناس بالفرض والقهر ، وإنما بالحرية والتداول الطبيعي للأفكار والثقافات . وإن المحاولات التي تبذل دائما لفرض رؤية وقسر الناس على نمط واحد من الفكر والثقافة ، لا تفضي إلى نتائج إيجابية ، حيث تتوفر كل موجبات التحرر من قهر الفرض والقسر .
لهذا وكما يشير إلى ذلك ( أدونيس ) بقوله : إن الإفراط في فرض اتجاه فكري على المجتمع لا يؤدي إلا إلى الإفراط في التمرد عليه . والأفكار التي تفرض بالقوة ، وتعمم بالقوة ، لا تكون موضوع إيمان ، بالنسبة إلى معظم العاملين في حقول الفكر والأدب بقدر ما تكون موضوع خوف . هكذا تهيمن شكليا ، وسطحيا . وتفقد فاعليتها ومعناها . الأفكار الخلاقة الفعالة هي التي تولد حرة ، ويستجيب لها الناس بحرية ، من دون ترغيب ومن دون ترهيب .
من هنا فإن مقتضى التربية الجمالية للإنسان فردا وجماعة ، هو أن لا تحتكر المعارف ، وأن الإنسان مطلق الإنسان بإمكانه أن يستفيد من الأفكار والمكتسبات الحضارية . والثقافات الإنسانية في نتائجها الأخيرة ليست نهائية وجامدة ، وإنما هي مفتوحة على كل الإبداعات والمبادرات والمكاسب . ومن الظلم أن نقهر الناس على قناعات مؤقتة ومتحولة باستمرار . فالحرية بكل آلياتها ، هي الشرط الضروري لتطور الثقافة ، كما أنها السبيل لتقدم حياة الإنسان في مختلف المجالات . فلا القهر والقسر ينسجم ونواميس حياة وتاريخ الأفكار . ولا محاربة روافد الحياة الثقافية والعلمية الإنسانية ، تجدي نفعا ، وتوصلنا إلى ساحل الأمن والاستقرار . وحدها الحرية هي الكفيلة بذلك والقادرة عليه .
- لعل من أبرز المخاطر التي تهدد السلم الأهلي والتعايش الاجتماعي ، ولا تنسجم ومبادئ وأسس التربية الجمالية ، هو خطر التعصب الأعمى للذات وأفكارها وقناعاتها الخاصة . وذلك لأن هذا الخطر ، بمثابة الآفة التي تلتهم كل عناصر الجمال وحقائق الحيوية والدينامية في المجتمعات الإنسانية .
فالتعصب هو الذي يقود صاحبه بشكل أو آخر للتعدي على حقوق الآخرين ونواميسهم . والمتعصب هو الذي يقوم بتصنيف الناس وفق آراءه الخاصة . والأنكى من ذلك أنه لا يكتفي بهذا التصنيف وإنما يعمل ويتحين الفرص للانقضاض على الآخرين الذين اعتبرهم خارج دائرته أو لا ينسجمون وقناعاته الفكرية والثقافية . فالتعصب هو الذي يحيل الحياة الإنسانية المليئة بصور التعدد وحقائق التنوع إلى ساحة لممارسة العنف والقتل الجماعي .
فاحتكار المشروعية وممارسة الوصاية على شأن الحياة والإنسان ، هو الذي يدمر كل أسس ومكونات السلم الأهلي والاجتماعي .
وعليه فإننا نعتقد أن تنمية أسس وأبعاد التربية الجمالية من احترام عميق لكل أشكال التنوع الموجودة في الحياتين الطبيعية والإنسانية إلى تعزيز كل الفضائل الأخلاقية والاجتماعية ، هو أحد السبل الأساسية لتجاوز كل المخاطر التي تهدد النسيج الاجتماعي لكل مجتمع .
فنحن مع الحب والمحبة قولا وفعلا ، ومع احترام الإنسان بصرف النظر عن أصوله العرقية وانتماءه الأيدلوجي وصيانة كل حقوقه الخاصة والعامة . ومع الوحدة بكل مستوياتها ، ولكنها الوحدة التي لا تبنى على جماجم الآخرين أو خصوصياتهم الثقافية ، وإنما الوحدة التي تبنى من خلال احترام التعدد والتنوع ، وفسح المجال لكل الخصوصيات لكي تمارس دورها في مشروع الوحدة وتمتين أواصر العلاقة بين كل مكونات الأمة والمجتمع الواحد .
فالسلم الأهلي لا يبنى بنزعات الاستفراد والإقصاء ، وإنما بمبادئ الشراكة والتعاون والتعاضد وإزالة كل الضغائن من النفوس والعقول والسلوك .