يعتبر البحث في موضوع الشركات العائلية من المواد المهمة التي باتت محل اهتمام الباحثين في علمي ادارة الاعمال والاقتصاد على حد سواء؛ لما تلعبه هذه الشركات من دور مهم في صياغة وتشكيل اللبنة الاساسية للكثير من اقتصاديات الدول في العالم بشكل عام وفي الدول العربية بشكل خاص.
تجمع الدراسات والأبحاث في هذا الصدد؛ على أن الشركات العائلية كانت ولازالت تعتبر النواة الاولى في تكوين اقتصاديات الدول وعصب الاقتصاد في الدول العربية؛ وذلك عند مقاربة المسالة من الناحية العملية التي لعبها المبادرون (Entrepreneurs ) أو رواد الاعمال واصحاب المهن والحرف أفرادا كانوا أو مجموعات ؛الذين رغبوا في تأسيس وممارسة أعمالهم ضمن نماذج وأطر قانونية تحفظ لهم حقوق الملكية والإبداع واستمرارية العمل والتطور في آن معا؛ كذلك تكفل دورهم في خلق الأسواق الداخلية والمشاريع التي تساهم في التنمية الاقتصادية والاجتماعية في كافة القطاعات.
من هذا المنطلق؛ بدأ الدور الفعلي لأفراد العائلة المبادرين وأصحاب الطموح وهم ما نطلق عليهم الجيل المؤسس ؛ في استغلال رؤيتهم وأهدافهم وخبراتهم وتجاربهم لوضعها ضمن استراتيجة غير محددة وواضحة المعالم والانطلاق بها نحو تشكيل وخلق الأسواق وإيجاد فرص للعمل ضمن الامكانيات المتاحة لديهم وبالتالي إشباع رغباتهم الإنسانية في تطوير مجتمعهم ومساعدة أفراده؛ وهذه من السمات التي يتمتع بها مؤسس الشركة العائلية في الجيل الاول.
لابد لنا هنا من الاشارة الى حقيقة ان الجيل الاول والمؤسس يمتلك روح المبادرة الفردية والشفافية في تأسيس الأعمال من منطلق انساني ؛ وان الجيلين الثاني والثالث لإدارة الشركة العائلية يمتلكان روح المبادرة في التطوير الإداري وتنمية حجم الشركة وأرباحها من منطلق واقعي يكاد لا يخلو من انانيات سلوكية وبعض الغرور وخاصة أن فكرة الإدارة وحق الملكية لديهم هي المحرك الرئيسي في مقاربة واقع الشركة وطريقة إدارتها.
أما مع الجيل الثالث الذي تجمع معه معظم الدراسات على أنه الجيل الذي تنتهي عنده أحلام استمرارية الشركة العائلية بالشكل التي تأسست عليه من قبل الجيلين السابقين ؛ وذلك يعود لعدة اسباب من اهمها:
– الاختلاف في الرؤية الاستراتيجية و الأهداف وطرق تحقيقها وانعدام الثقة بين أفراد العائلة
– تفاوت المستوى العلمي والأكاديمي والخبرات بين الأجيال والاعتماد على التكنولوجيا
– النزعات الفردية وحب الأنا في تحقيق أهداف الربحية وعدم الرغبة في تحفيز العمل الجماعي بين أفراد العائلة.
– اشكالية الفصل بين الادارة وحق الملكية وهي بيت القصيد الذي أما من خلالها تضمن الشركة العائلية استمراريتها نحو أجيال لاحقة واما تتلاشى الشركة وتتعرض للانقسام وهذا ما يطمح إليه على الأغلب الجيل الثالث في محاولة لإثبات الذات أولا ومحاولة بناء مستقبل جديد خالي من العواطف معتمدا على المعايير المهنية والاحترافية في العمل مما يؤسس لفكرة تعيين مدراء من خارج العائلة والاستفادة من خبراتهم.
إذا المعضلة الاساسية والتحدي الأبرز الذي يواجه الشركات العائلية على مستوى العالم اليوم هو التعاقب على الإدارة وضمان استمراريتها بشكل يكفل جميع حقوق أفرادها وعامليهم وعدم الوقوع في مصيدة وفخ الانقسام في الرؤية والأهداف وبالتالي حصول نزاعات في تطبيق استراتيجية الأعمال و الذهاب نحو تقسيم الشركة العائلية وخلق تنافس غير مستحب في الأسواق ؛من شأنه زعزعتها وخاصة إذا ما عرفنا من الإحصاءات المتعددة أن حوالي ٨٠% من الشركات في لبنان هي صغيرة ومتوسطة الحجم منها حوالي ٦٠ الى ٧٠ %شركات عائلية.
أما في منطقة الشرق الاوسط و دول الخليج العربي؛ تجمع الابحاث انه لطالما ساهمت الشركات العائلية في تحقيق اعلى معدلات النمو الاقتصادي ورفع إجمالي الناتج المحلي وتوفير فرص العمل وبالتالي لعبت الشركات العائلية دورا رائدا في تحفيز البيئة الاقتصادية والاجتماعية ومنع التعرض الى انهيار الاقتصاد الذي ثبت أنه يحمي نفسه بوجود الملاذ الآمن وهي الشركة العائلية.
كذلك؛ يعتبر الاقتصادي اللبناني ايلي يشوعي أن ٩٠ % من الشركات العربية لاتزال عائلية وفردية في بنيتها وهيكليتها ولا تفصل بين ملكية رأس المال والإدارة وهذا تلقائيا يشكل خطر حقيقي للتطور والاستمرار في العمل حيث يؤكد الخبير يشوعي أن حجم الأعمال في أي قطاع يحدد حجم الشركات العاملة فيه وبالتالي عندما يكبر حجم العمل ماليا يجب أن يواكبه تطور إداري وبشري ينسجم مع طبيعة هذا النمو لكي لا يحدث عجز في الادارة وخسارة في المالية.
الحوكمة ثم “الحوكمة”
لابد للجيل الأول والثاني للشركة العائلية التي يرغب أفرادها وأعضائها بغض النظر عن حجمها أن يحددوا الأولويات اما الرغبة في الاستمرار والنمو ضمن الشكل التلقائي الشفاف وعبر الروابط العاطفية والاسرية؛ وبالتالي احتمال انقسام الشركة في جيلها الثالث قد يكون وارد بقوة ؛ وأما التطوير المحكم المعتمد على قوانين ودستور ينظم علاقات أفراد العائلة المالكين و الإداريين؛ وبالتالي احتمال استمرارها وتطورها في النجاح هو الاحتمال الأرجح وهو مانطلق عليه بالحوكمة.
– إنشاء مجلس إدارة عائلي مصغر مؤلف من الأفراد الذين يديرون العمل فعليا وممن لا يديرونه لكنهم يملكون حقوقا في الشركة وهذا من الأهمية بمكان من حيث تعزيز مبدأ المشاركة في التخطيط واتخاذ القرارات الاستراتيجية مما يعزز الشفافية ويساهم في الابتكار.
– خلق دستور عائلي قانوني يعزز مبدأ الثواب والعقاب في الادارة والمحاسبة ضمن الأطر الادارية التي تعمل على اضفاء روح المبادرة والتفاني والإخلاص والابتعاد عن الانانية الفردية وتعزيز روحية فريق العمل.
– تعيين خبير أو عضو مجلس ادارة من خارج العائلة ذو كفاءة معينة وصوت ترجيحي في اتخاذ القرارات الهامة والتي قد تكون محل خلاف أو اختلاف بين أفراد العائلة بحيث يكون هذا الخبير مؤهلا اما اكاديميا او بالخبرة العملية ؛قادرا على حسم الخلاف.
– التركيز على المصلحة العامة للشركة وليست المصالح الشخصية التي من شأنها خلق مناخات للانقسام وتشتيت تطبيق الاستراتيجية بالشكل الصحيح وبالتالي رفع الكلفة الانتاجية وخفض القيمة المعنوية والفكرية.
اخيرا وليس أخرا؛ يبقى السؤال الابرز والاهم ؛هل من الافضل الفصل بين الملكية والادارة في نموذج اعمال الشركات العائلية لضمان استمرارها؟!
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
مقال رائع … ويحاك عصرنا الحالي من الشركات العائلية الكبيرة المتواجدة