البنوك التكافلية في الحل الاقتصادي اللبناني
عطفا على مقالي السابق ” بئس الربحية دون مسئولية اجتماعية” والذي سلطنا فيه الضوء على أهمية وضرورة الموازنة بين مفهومي “الاستدامة” و “المسؤولية الاجتماعية” كركيزتين اساسيتين في بناء الاستراتيجية الشاملة للمنشآت ودورهما الهام في تحفيز التنمية المجتمعية والاقتصادية من منطلق نفعي واخلاقي لضمان الربحية وديمومة العمل.
لابد من هذا المنطلق من إعادة تسليط الضوء على دور القطاع المصرفي بجميع مكوناته وادواته المالية والنقدية في رسم خارطة الطريق الاقتصادية والاجتماعية لاي دولة او نظام حكم وخاصة تلك الدول التي تتمتع بنظام اقتصادي ليبرالي حر يسمح للبنوك بلعب دور مركزي في منظومة الاعمال والتجارة وفي دعم موازنات الحكومات عبر تمويلها بنظام فائدة متوسط وعالي المخاطر؛
كما هو الحاصل في لبنان الذي بات الدين الحكومي لديه يشكل عبئا على خزينة الدولة (فوق 91 مليار دولار) وباتت البنوك اللبنانية فيه عاجزة عن تحصيل أموال مودعيها التي استثمرتها بالسندات الحكومية دون اذن مسبق من أصحابها مما يشكل خرقا فاضحا للقانون وخللا في الإدارة وسوء الائتمان.
كي لا يخسر هذا القطاع الحيوي فرصته الذهبية الأخيرة في انقاذ الوضع في لبنان المهزوم اقتصاديا وماليا والمتأزم اجتماعيا وسياسيا؛ عليه ان يبادر سريعا في تأكيد ضمان حقوق المودعين لديه وتحرير ودائعهم المحتجزة بطريقة تعسفية بعيدة عن ماهية البنوك الوجودية ودورها الوظيفي في حفظ أموال الزبائن واعادتها عند الطلب او الاستحقاق.
ان المفهوم التقليدي للبنوك والذي يعتمد على الأهداف الربحية البحتة من خلال الفوائد العالية والاستثمار بالمشتقات المالية وأسواق السندات بات يشكل اليوم نموذجا رديئا لمفهومي التمويل والادخار؛ وأصبح ذو صبغة تنافسية استغلالية بعيدة عن الواقع المجتمعي والحاجة الى تطوير الاقتصاديات الكلية والاستثمار بالحاصل الإنتاجي وليست بالفلسفة الريعية الاستهلاكية المدمرة.
ان الحاجة في لبنان لاعتماد نماذج تمويل جديدة تحفز على الإنتاجية وتردم الفجوة والهوة بين طبقة رأسمالية متوحشة وطبقة فقيرة تعيش دون 300 دولار شهريا؛ باتت ملحة وضرورية وغدى من الأولوية بمكان إعادة التفكير بفلسفات مالية جديدة تحقق الأهداف الربحية والإنسانية وتعتمد استراتيجية ذات مسؤولية اجتماعية تحاكي العدالة في اقتصاد أخلاقي يوازن بين نظرية العرض والطلب من جهة وبين التمويل في قطاعات منتجة تعود على المستثمر والممول بفوائد متعادلة مادية ومعنوية.
نموذج البنوك اللاربوية هو نموذج أرسى مفهومه في العصر الحديث المفكر الراحل “محمد باقر الصدر” والذي يعتبر من اهم المفكرين في القرن العشرين وخاصة في مجالات الفلسفة والاقتصاد عبر مؤلفين (فلسفتنا) و (اقتصادنا) الذين ارفدا العالم بأطروحات جديدة تحاكي واقع البشرية من منطلق ايدلوجي وفلسفي عميقين يجمع بين ما هو اجتماعي تكافلي في الفكر الماركسي وما هو ربحي منفعي في الفكر الرأسمالي.
يطرح المفكر الصدر(كتاب البنك اللاربوي في الإسلام) ببساطة نظرية البنوك التكافلية التي تشجع على الاستثمار دون جني الفائدة الربوية المشروطة والتي يمولها المصرف التقليدي حيث يشترط الفائدة قبل الإقراض ولا يتحمل المخاطر الاستثمارية بينما يعمد البنك اللاربوي في صلب استراتيجيته على الاستثمار بتحمل المخاطرة جنبا مع المقترض من خلال المشاركة الفعلية في فكرة المشروع وتكاليفه واقتسام الأرباح او العوائد بطريقة عادلة تكفل الحق التضامني لكلا الطرفين كل بحسب مساهمته برأس المال وبالجهد العملاني.
على الرغم من وجود بعض البنوك التي تعتمد فكرة المرابحة في بعض الدول العربية والخليجية ويطلق عليها بالبنوك الاسلامية؛ الا ان هناك اشكاليات حول مبدأ تطبيق الربحية فيها حيث يعتبر بعض الخبراء انها نسخة عن البنوك التقليدية بينما يعتبر البعض الأخر انها تطبق الشريعة وتعمل وفق منهجها الفقهي.
النموذج الثاني المتاح للأخذ فيه هو نموذج بنك “غرامين” والذي اسسه الاقتصادي الدكتور “محمد يونس” عام 1983 في بنغلاديش؛ والذي أطلق عليه بنك الفقراء او “مصرف القرية”؛ حيث تعتمد فكرة هذا المشروع المالية على اقراض الفقراء والطبقة المتوسطة وأصحاب المهن والحرف بقروض ميسرة شرط الالتزام بالاستثمار في اعمال مهنية متخصصة وعبر فوائد متدنية جدا تحاكي قدراتهم المتواضعة في الأرباح وطرق السداد.
والمنطلق من هذا النموذج التكافلي الائتماني هو كسر الاحتكار الاستثماري الذي فرضته البنوك التقليدية في الاقتصاديات على الفقراء وأصحاب الدخل المحدود ليكون المشروع الاستثماري حكرا على الأغنياء وأصحاب الثروات فقط وبالتالي تعود الربحية والمنفعة على شريحة محددة من المجتمع ولا تعود على سائر الطبقات الأخرى.
كذلك عمد الدكتور يونس من خلال فكرته الى تمكين المقترض من المساهمة في التملك بهذا البنك المثالي من خلال شراء أسهم ملكية تمكنه من الاستفادة المستمرة من الربح والإنتاج وتحفزه على العمل مع ضمان حقوقه المالية والمعنوية وبالتالي الانطلاق نحو خلق الأسواق الداخلية والموازنة بين القدرات والموارد من جهة العرض وبين الاستهلاك من جهة الطلب وخاصة في المناطق الريفية والتي تراجعت بها نسب الفقر من 90% الى 30% تقريبا.
وتركزت مهامه على اقراض وتمويل أصحاب المشروعات المنزلية كالمزارعين ومربي المواشي واغلبهم من نساء القرى والاستفادة من منتجاتهم في المدن الكبرى والعاصمة وبالتالي خلق تواصل مدني في الدولة من شأنه تعزيز التلاحم المجتمعي.
ولابد من الإشارة الى ان هذا البنك انطلق نحو العالمية بعد نيله ومؤسسه جائزة نوبل للسلام عام 2006 حيث بات يمتلك افرعا في الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا وافريقيا واسيا وامريكا اللاتينية؛ وباتت فكرة البنك لدى الاقتصاديين والباحثين أحد الأفكار الإبداعية التي تعالج قضايا الانسان والمجتمع والاقتصاد وتؤسس لنموذج اعمال ذكي يضع البشرية وحاجياتها ضمن الأولويات الاستراتيجية في ممارسة الاعمال ولاسيما الحاجة لهذا النموذج في عالمنا العربي الذي يتعطش لمثل هذا الابتكار المؤسسي.
للأشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
دراسة جميلة و مفيده … يا ريت تترجم الى افعال في دولتنا و دول العالم الإسلامي … خاصة في دعم الاعمال الصغيره و المفيده في قطاع الزراعة و الصناعة و الاعمال الحرفية.
كلام مركب العصر الاقتصادي الحالي … يجب العمل من المصارف لدعم المشاريع الصغيرة و المتوسطة ..
مقال ممتاز.احسنت