الطريقة القادرية البودشيشية تبرز دور القيم الروحية في مواجهة الآفات | عبد العزيز اغراز
للأشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
شكل فيروس كورونا، كوفيد-19، تحديا كبيرا للبشرية في عصرنا الحالي، حيث فرض انماطا جديدة للعيش فوق كوكب الأرض، ودفع المجتمعات والدول إلى إعادة صياغة برامجها وأولوياتها في مختلف الميادين؛ الدينية، الثقافية، الاقتصادية، والاجتماعية، كما ظهرت للجميع أهمية قيم التضامن والتآزر والعيش المشترك من أجل تجاوز أزمة جائحة كورونا، لكون الإنسانية في نفس المركب، وتواجه عدوا موحدا، مما يحتم عليها استحضار هذه القيم من أجل الوصول إلى بر الأمان بأقل الخسائر، وتعد الطرق الصوفية من أبرز مكونات مجتمعاتنا التي تبنت هذه القيم عبر العصور، وكانت التربية على هذه القيم، على رأس برامجها التربوية والروحية.
وتمكن العمل التربوي والروحي للطريقة القادرية البودشيشية من لفت الأنظار على الصعيد العالمي، من خلال ترسيخه لقيم الأخوة والمحبة والرحمة والتعاون بين الإثنيات والأعراق المختلفة، وذلك راجع إلى ارتكاز هذا العمل على قيم المحبة والتضامن والتآزر واحترام الآخر بغض النظر عن معتقده الديني، وانتمائه الوطني، وفي إطار برامجها لشهر رمضان 1441ه نظمت مشيخة الطريقة القادرية البودشيشية ومؤسسة الملتقى بشراكة مع مؤسسة الجمال للسماع والمديح والفن العريق، فعاليات دينية عبر تقنية الفيديو، تم بثها على صفحة مؤسسة الملتقى بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، افتتحت بتلاوة آيات بينات من الذكر الحكيم، وعرفت مشاركة وازنة لمجموعة من العلماء، وتخللتها وصلات من المديح والسماع قدمها منشدون مغاربة وأجانب.
ووصف الدكتور جمال الدين القادري، شيخ الطريقة القادرية البودشيشية، في مداخلته، فيروس كورونا بأنه “صغير في حجمه وكبير في فعله”، حيث بين ضعف الإنسان، وهو ما يحتم الرجوع الى جادة الحق والصواب من خلال العودة الى الله، مذكرا بقوله تعالى ” وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَےْءٖ مِّنَ اَ۬لْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٖ مِّنَ اَ۬لَامْوَٰلِ وَالَانفُسِ وَالثَّمَرَٰتِۖ وَبَشِّرِ اِ۬لصَّٰبِرِينَ، اَ۬لذِينَ إِذَآ أَصَٰبَتْهُم مُّصِيبَةٞ قَالُوٓاْ إِنَّا لِلهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَٰجِعُونَۖ، أُوْلَٰٓئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَٰتٞ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٞۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اُ۬لْمُهْتَدُونَۖ”، كما نوه بالتدابير الاحترازية، والصحية والاجتماعية والاقتصادية التي اتخذها جلالة الملك محمد السادس حفظه الله، والتي شكلت البلسم في مواجهة هذا الوباء، لما أبان عنه من حكمة عالية في التعامل مع هذه الجائحة جاعلا صحة المواطن المغربي من أولى أولوياته، كما توجه بالشكر الى المرابطين في الصفوف الأولى من أطباء وممرضين وصيادلة ورجال الأمن والتعليم، معتبرا الحجر الصحي منحة ربانية وليس محنة، ومناسبة للإكثار من ذكر الله تعالى، الذي يثمر التحلي بقيم المواطنة الفعالة، ويبعد الغلو والتطرف.
ونبه الدكتور منير القادري، مدير مؤسسة الملتقى العالمي للتصوف، في كلمته إلى التحول الحاصل على مستوى منظومة القيم بفعل جائحة كورونا، كوفيد-19، من خلال العودة القوية للمعتقد الديني، وحذرمن بعض الإنزلاقات التي عزاها إلى غياب وعي ديني مستنير، كإصرار بعض المسلمين على عدم ترك صلاة الجماعة والجمعة، وأوضح أن تركهما من جوهر الدين لأن حفظ النفس مقدم على حفظ الدين، وندد ببعض الأفكار المغلوطة التي اعتبرت هذا الوباء عقابا إلهيا سُلّط على المذنبين، مشيرا إلى أن الابتلاءات تصيب الانبياء والصالحين أيضا، كما حدث زمن وقوع طاعون عمواس الذي مات فيه بعض المسلمين من الجيل القريب من العهد النبوي، كما بين قيمة الإخلاص وأثره في التنمية، مشيرا الى أن الأزمة الأخلاقية وحالات العجز والركود الاقتصادي، مردها الى فشل نظم التربية الروحية للأفراد، موضحا أن الإخلاص هو الطريق المختصر نحو التنمية، ذلك أن من سمات المشروع المؤسساتي للإسلام في بناء شخصية المسلم، تكوين الفرد على القيم والدوام على طلب تحقيق هدف أسمى، وأن يستوى لديه المدح والذم ، وبذلك يتفادى المجتمع تعطيل الكثير من أعمال الخير وكلام الحق.
وأكد أن الرؤية الصوفية الإحسانية ترى في هذا الوضع فرصة للتطهر الروحي والنفسي والفكري والسلوكي، والتسليم المطلق لقضاء الله تعالى، مع الأخذ بالأسباب الإيمانية باللجوء إلى الله تعالى لكشف هذا الوباء، والأسباب المادية كاتباع التعليمات الصادرة عن السلطات الصحية، ولفت الأنظار إلى دور التصوف في ترسيخ قيم التضامن والتكافل، والتآزر، مستدلا بالعمل الخيري والإجتماعي الذي رسخه شيوخ التصوف، ومنهم الشيخ أبو العباس السبتي، وأشار أيضا إلى إنخراط الطرق الصوفية اليوم بما فيها الطريقة القادرية البودشيشية، في التخفيف من آثار هذه الأزمة، من خلال المبادرات التضامنية التي يتم إنجازها داخل المغرب وفي مختلف دول العالم، مما يعكس صورة إيجابية عن التصوف بخلاف الصور النمطية التي يروجها البعض بكونه انعزال وانزواء، وإغراق في السلبية والعدمية.
وقدم الدكتور حسن التازي الطبيب والجراح المغربي المشهور، شهادة حول المنهج التربوي للطريقة القادرية البودشيشية، بين فيها دورها الفعال في تربية الناس على ذكر الله تعالى واللجوء إليه في كل الأحوال، و غرس محبة ملك البلاد وخدمة الوطن في نفوسهم، وهو ما دفعه إلى أن يضع مصحته الخاصة تحت تصرف وزارة الصحة المغربية، إسهاما في الواجب الوطني لمجابهة فيروس كورونا.
و تطرق الدكتور إسماعيل راضي، عميد كلية العلوم بوجدة، في مداخلته إلى موضوع “المحبة الالهية”، مبينا طرق بعثها وتجديدها في القلوب، من خلال الإكثار من النوافل كما ورد في الحديث القدسي ” وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ..” ، وكذلك من خلال صحبة الصالحين الذين تجوهرت قلوبهم بالحب الإلهي، وتحدث الدكتور سمير الحلوي، أستاذ التعليم العالي بالمعهد العالي للإدارة والتسيير حول موضوع “إشارات حول المعاني الروحية للابتلاء”، وقدم الدكتور فوزي الصقلي مدير مهرجان الثقافة الصوفية قراءة حديثة للعلاقة بين سيدنا إبراهيم عليه السلام والنمرود، كما تناولت مداخلة الدكتورة سعاد كعب مقام الصبر.
وقد تخللت هذه المداخلات وصلات من بديع الانشاد والسماع ، حيث شنف أعضاء من الفرقة الوطنية الرسمية للطريقة القادرية البودشيشية للسماع والمديح المتابعين بقصائد سمت بأرواحهم، إضافة إلى مشاركة مجوعة سماع الطريقة القادرية البودشيشية بليبيا، ومنشدين من مصر، والكويت وتركيا.
وتميز برنامج “ليالي الوصال” بتقديم شهادات لمريدي الطريقة القادرية من جنسيات مختلفة، من الولايات المتحدة الأمريكية، والمكسيك، وجنوب افريقيا، وماليزيا، واليابان، وبلجيكا، والذين تناولوا من خلالها تجاربهم مع الحجر الصحي وكيفية تعاملهم مع الوباء والدور الإيجابي الذي تلعبه التربية الروحية في هذا الصدد.