نظرة جديدة على الوثائق الإسرائيلية (7) كتب مجدي منصور
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
هذا هو الجزء السابع من تلك السلسلة ، وأود أن أقول كلمة قبل الدخول لساحة العتبات المقدسة للموضوع. إن أهم أهدافي من شروعي في كتابة تلك السلسلة هو تغطية «الفجوات» المعلوماتية والفكرية في مرحلة حرجة من تاريخ أمتنا المتلومة في رجالها و كذلك «تنشيط» ذاكرة الأمة التي يريد الأقوياء في زماننا أن يحصروها في إطار الهزيمة – هزيمة الوجدان والروح ، هزيمة الفكر قبل الفعل.
وكان تقدير هؤلاء الأقوياء في زماننا وهو صحيح أنه إذا توقفت «الذاكرة» توقف «العقل» ، ولو توقف العقل توقفت «الإرادة» أو على أقل تقدير «تعطلت» وإذا توقفت الإرادة انقطع «الفعل» أو شُل عن «الحركة».
وهذا هو ما تعيشه أمتنا العربية منذ عام 1974 ، فقد انقطعت عن الفكر والفعل و لازالت في حالة تِيه حقيقية حتى اليوم.
1- هنري كيسنجر ومرحلة الحرب
في البداية فوجئ كيسنجر كما الجميع في العالم بحدوث الحرب وفى الساعة 8.50 بتوقيت واشنطن (3.50 بتوقيت الشرق الأوسط) اتصل كيسنجر بمساعده المسئول عن مجلس الأمن القومي الجنرال برنت سكوكروفت (وهو مستشار الأمن القومي الأمريكي فيما بعد في عهد الرئيس بوش الأب وقت حرب عاصفة الخليج في صيف عام 1990 ) وحاول أن يصل معه لتحليل ولتصور للموقف ولما يمكن قوله وعمله واتفقا على النقاط التالية:
1- إن هذه على أرجح الظنون حرب واسعة النطاق في الشرق الأوسط.
2- إن نتيجة هذه الحرب سوف تكون على وجه التأكيد انتصاراً إسرائيليا يريعاً وساحقاً.
3- ونتيجة لذلك فإن أزمة دولية حادة على وشك أن تنشأ لأن العرب سوف يذهبون بإحباطاتهم إلى السوفييت الذين سيضطرون إلى إظهار تأييدهم لهم.
4- إن أوروبا الغربية في نزوعها إلى نوع من الاستقلال عن السياسة الأمريكية قد تجد لنفسها طريقاً مختلفاً غير الطريق الذى سوف تختاره الولايات المتحدة.
5- إن الكل يعرف أن الرئيس الأمريكي جريح بسبب فضيحة (وتر جيت) وقد يؤدى ذلك إلى تشجيع أطراف أخرى على استغلال الموقف ، وأولهم الاتحاد السوفيتي.
6- إنه والحال كذلك فإن الولايات المتحدة يجب أن تتصرف بما يوحي بالثقة التي لا تشوبها شائبة ضعف، وعليها أن تفعل ذلك بغير استفزاز.
7- إنه لتحقيق ذلك فقد يكون من الضروري تحريك الأسطول الأمريكي السادس إلى شرق البحر المتوسط ليكون بقرب ميادين القتال. كذلك من الأنسب البدء فوراً بتنفيذ خطط الطوارئ لتعزيز القوات الأمريكية في المنطقة.
كان كيسنجر همه ليلة 7 أكتوبر أن يُمسك بزمام التحركات في الأمم المتحدة بحيث يمنع بحث الأزمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة ، وكذلك استطاع تعطيل اجتماع طارئ لمجلس الأمن ، فلم يكن يريد لأى تحرك دولي أن يقيد حركته.
وكان اعتقاده الراسخ أن إسرائيل سوف ترد الهجوم المصري وسوف تحوله بسرعة لهزيمة ساحقة وقد عبر عن ذلك بنفسه في مذكراته بقوله: « إنه يوم أو يومين وتقوم إسرائيل بهجومها المضاد ، و تقلب كل الموازين ، ويصبح العرب على حافة كارثة».
2- صدمة كيسنجر
ثم إنه راح يضغط لتلبية كافة طلبات إسرائيل من السلاح لتعويض خسائرها في اليوم الأول ، وحتى تتمكن من تثبيت وتصحيح الموقف العسكري بسرعة خلال يومين أو ثلاثة على الأقصى تقدير.
وقال كيسنجر للرئيس نيكسون وهو يطلب منه إصدار أوامره بشحن كل ما تطلبه إسرائيل من سلاح «إن العرب لا ينبغي لهم تحقيق انتصار بأسلحة سوفيتية».
ثم أجرى كيسنجر تحليلاً للموقف على ضوء الأحداث في الأربع والعشرين ساعة الأخيرة ، وكان تصوره :
1- إن حالة اللا سلم واللا حرب قد انتهت في الشرق الأوسط – وهناك الآن حرب.
2- لا يمكن السماح تحت أي ظرف بهزيمة تحيق بإسرائيل ، حتى ولو أدى ذلك إلى تدخل أمريكي مباشر.
3- لا يجب أن يظهر الاتحاد السوفيتي بعد هذه المعركة باعتباره المنقذ الوحيد للعرب.
4- إذا انتصرت إسرائيل في هذه الحرب بطريقة ساحقة ، فينبغي الا تجد أمريكا نفسها هدفاً لسخط عربي واسع بسبب إمدادات السلاح.
5- إن العمل الأمريكي إذن يجب أن يكون موجهاً إلى اثبات عدم جدوى الحرب.
6- إذا تحقق ذلك فالخُطوة التالية هي التوجه نحو السلام.
7- إذا حدث التوجه نحو السلام فلا بد أن يكون ذلك بإشراف أمريكي كامل.
وفى يوم 9 أكتوبر 1973 فاق كيسنجر على صدمة كبرى له ولتوقعاته التي بنى سياسته على أساسها ، وللحق فقد كان يوم 9 أكتوبر هو يوم الذروة في الانتصارات العربية في الحرب وتحديداً على الجبهة المصرية.
عندما أيقظه السفير الإسرائيلى سيمحا دينتز من النوم مرتين في منتصف الليل ليطلب في الاتصال الأول «سرعة إرسال المدد العسكري لإسرائيل بدون أي تأخير».
وفي الاتصال الثاني عاد وأكد على ما طلبه في الاتصال الأول! ، وهنا استبد القلق والريبة بكيسنجر وطلب مقابلته في مكتبه صباحاً.
وفي الصباح سمع كيسنجر من السفير و من الملحق العسكري لإسرائيل الجنرال جور:
«إن خسائر إسرائيل حتى هذه اللحظة مروعة. وقد جاءت غير متوقعة بالمرة فلقد أسقطت لنا حتى الأن 49 طائرة بينها 14 من طراز فانتوم ، إلى جانب 500 دبابة». (أي أن الجيش الإسرائيلى فقد خُمس طائراته وربع دباباته في أربع أيام من القتال).
وحسب قول كيسنجر في مذكراته : «أنه كان يسمع صامتاً وإن لم يخف دهشته بتقاطيع وجهه. وقد تدخل السفير الإسرائيلى في الحديث طالبا من كيسنجر أن يبقى هذه المعلومات سراً لنفسه ولا يبوح بها لأحد ، لأن تسريبها يمكن أن يؤدى إلى كارثة».
كان تعليق كيسنجر على ما سمعه من السفير والملحق العسكرى مزيج من الغضب المشحون بالعصبية وملخصه:
· عليكم أن تعترفوا أن العرب فاجأ وكم هذه المرة.
· يبدوا أننا وأنتم بالغنا في تقدير قدراتكم.
· أنه رغم قيامكم بتوجيه ضربة قوية للسوريين ، إلا أنهم لا زالوا واقفين على أقدامهم أمامكم.
· وما دامت سوريا واقفة فإنكم لن تستطيعوا نقل القوة الضاربة لكم من جبهة الجولان لجبهة سيناء.
· وبالتالي لن تستطيعوا أن تؤثروا على الجبهة المصرية إلا بعد مرور وقت طويل.
وهنا طلب دينتز المزيد من الطلبات العسكرية وأضاف إلى تلك الطلبات طلب أن تقوم المخابرات المركزية وكذا المخابرات العسكرية الأمريكية بمدهم بكل ما لديهم من معلومات عن أوضاع الجبهات!
ووافق كيسنجر على الطلبات الإسرائيلية بدون مناقشة
وفى نفس يوم 9 أكتوبر في الساعة 9.40 صباحاً دعا كيسنجر إلى اجتماع عاجل لمجلس الأمن القومي. وعرض على أعضائها بعض مما سمع من السفير ومن الملحق العسكرى الإسرائيلى.
ونشب خلاف داخل الاجتماع لعدم رغبة بعض المجتمعين مثل رئيس المخابرات المركزية ووزير الدفاع وقتها بالتدخل الأمريكي المباشر والفج في الحرب.
وهنا فقد هنري كيسنجر أعصابه قائلاً بحدة: « إن إسرائيل قد تلقت هزيمة استراتيجية ، بصرف النظر عما يمكن أن يحدث بعد ذلك ، ولا ينبغي للولايات المتحدة أن تسمح لهذه الهزيمة بالوصول إلى مداها».
3- كيسنجر يفعل كل شيء من أجل تلبية طلبات إسرائيل من السلاح
إن كيسنجر لم يترك شيئاً لم يفعله من أجل تلبية مطالب إسرائيل من السلاح فهو طلب من اللوبي اليهودي في أمريكا أن يضغطوا بشدة على الرئيس نيكسون ( الغارق لشوشته في فضيحة وتر جيت) من أجل تليين موقفه لمد إسرائيل بكل ما تحتاجه من سلاح.
ثم إنه بعد ذلك اتصل بالرئيس (نيكسون) يخبره بأن اللوبي الإسرائيلي يضغط عليه ويستغل ورطته في وتر جيت ، وينصحه بأن يقف مع إسرائيل في الجبهة العربية من أجل أن يقف معه اللوبي اليهودي في ورطته على جبهة واشنطن!
وبعد ذلك دق كيسنجر على الحديد وهو ساخن فطرح على الرئيس نيكسون مشروع قرار يتضمن «موافقة الرئيس الأمريكي على كافة طلبات إسرائيل». ووافق عليه نيكسون على مشروع قرار كيسنجر وعلق بقوله « أننى أظن بأن الولايات المتحدة لا ينبغي أن تسمح لإسرائيل أن تخسر الحرب».
تعليق:
ولمن شاء أن يقرأ الكتاب الأخير لـ “هنري كيسنجر” وهو بكامله نصوص حرفية لتسجيلات صوتية للأحاديث التليفونية التي أجراها وزير الخارجية الأمريكية أيام حرب أكتوبر 1973.
وقيمة الكتاب أنه وثيقة أصلية سُجلت في الثانية واللحظة (حتي بالنكات والشتائم) - وهي تُزيح الستار بالطول والعرض عن حقيقة ما جرى - وليس لدي مجال للشك في أن هذه الوثيقة وما فيها مما سقط عنه حجاب السرية أخيرا قبل فترة - هي الكلمة الأخيرة النهائية والحاسمة في قضية السلاح والسياسة - أكتوبر1973.
وعلي الهامش فإن أي قارئ مدقق للكتاب الوثيقة سوف تلفت نظره محادثة تليفونية مسجلة بين وزير الخارجية هنري كيسنجر ووزير الدفاع جيمس شليزنجر – دارت في الساعات الأولي التي تأكد فيها نجاح الهجوم المصري والسوري (6 أكتوبر1973) بأكثر مما كان متصوراً أو متوقعاً أو محسوباً.
علي صفحة (29) من كتابه التسجيلي للأزمة يرد نص المحادثة التالية بين هنري كيسنجر وزير الخارجية وجيمس شليزنجر وزير الدفاع.
يوم 7 أكتوبر1973 الساعة3.45 بعد الظهر:
كيسنجر ـ « تكلمت مع الرئيس الآن عن صدمة الهجوم المصري ـ السوري وعن ضرورة إمداد اسرائيل بكل ما تحتاجه أياً كان بدون أن يكتشف أحد حقيقة ما نقوم به ».
شليزنجر ـ « لا أستطيع أن أضمن ذلك في الظروف الراهنة، لأن الجميع متنبهون ».
كيسنجر ـ « ولكننا فعلنا ذلك سنة67 ولم يستطع أحد أن يكشف السر حتى الآن وعلى فرض أنهم عرفوا فذلك لا يهم لأن اسرائيل في خطر».
شليزنجر ـ هل أنت مستعد لاستعمال حاملات الطائرات؟!
كيسنجر ـ ليس هذه الساعة ولكن مجموعة الحاملات لديها الأمر بأن تتحرك نحو شرق البحر الابيض.
عودة للسياق من جديد.
ثم بعد ذلك استدعى كيسنجر السفير الاسرائيلي إلى البيت الأبيض وأبلغه بنص القرار ، وكان على النحو التالي:
· إن الرئيس قد استجاب لكل طلباتكم الخاصة ، ووافق على قائمة الأسلحة التي تقدمتم بها .
· سوف يتم تعويضكم فوراً بطائرات الفانتوم. وسوف يتم تعويضكم عن كل ما تخسروه في الطيران طوال الحرب.
· كذا سوف يتم تسليمكم فوراً الذخائر والمعدات الإلكترونية التي طلبتموها فوراً.
· سوف تحصلون فوراً على عدد كاف من دبابات M60)) وهى أحدث ما في الترسانة الأمريكية.
· كذلك فنحن نقدم إليكم تأكيدنا الإضافي بأنه إذا نشأت ضرورة مفاجئة فإننا نتعهد بإرسال الدبابات بالطائرات.
ثم قرر كيسنجر أن يقوم بعملية تخدير وإلهاء للجانب المصري ، وأرسل رسالة جديدة في قناة مستشار الأمن القومي المصري حافظ إسماعيل.
وسجل كيسنجر في يومياته بعدها :
«أنه يشعر نوع من الرضا رغم سوء الموقف العسكري العسكرى بالنسبة لإسرائيل ، وسبب ذلك في تقديره:
· أنه الآن على اتصال في شأن الأزمة بجميع الأطراف : العربية والإسرائيلية و السوفيتية و وحتى منظمة التحرير الفلسطينية.
· وهو يحقق خطته ويتحكم في إيقاع الحركة الدبلوماسية الدولية في مجلس الأمن.
· وقد نجح بالكامل في فتح الباب على مصراعيه لتدفقات السلاح على إسرائيل.
· وهو يأمل أن يتمكن الجيش الإسرائيلى من تحويل الدفة في ميدان القتال حتى يستطيع هو أن يمسك بالدفة بسرعة في مجلس الأمن».
وتغيرت بعدها الأوضاع العسكرية على الجبهات العربية في (سيناء والجولان) نتيجة للتدخل الأمريكي وللأخطاء الداخلية والسياسية للعرب.
وبدأت المنطقة من يومها في الدخول لمأساة تُشبه المآسي الإغريقية و فواجعها الدامية كالتي حدثنا عنها سوفوكليس أو أسخيلوس في روائعهم الأدبية الخالدة.
المصادر
تقرير لجنة أجرنات عن حرب أكتوبر.
مذكرات هنري كيسنجر.
أكتوبر 73 السلاح والسياسة – محمد حسنين هيكل.
استئذان في الانصراف – محمد حسنين هيكل.