تتبادر لمن يتابع الوضع في لبنان، الكثير من الأسئلة الثقيلة العيار. ولعل من يسأل، يتمنى في معظم الأحيان أن لا تأتيه الإجابة، لأنها ستكون مؤلمة. ومن أصعب هذه الأسئلة التي تمر في الأذهان هي: “متى سيحصل الانهيار؟”. فمع كل هذه الأثقال، والدوامات، والإدارة الرديئة، والاستهتار الوطني، والغباء السياسي، والتضخم الاقتصادي، وملحمة الشراهة التجارية، والمآزق الاجتماعية التي يعاني منها الشعب كل يوم، أصبح هذا السؤال قلقاً يومياً يعيش معنا من الصباح الى ما بعد الدخول الى مخادعنا. وما يثير الرعب في أنفسنا، هي الحتمية التي تحملها هذه ال “متى”، وكأننا – لا بل إننا – فقدنا الأمل بحصول ما يمكن حصوله لتغيير مجرى الأمور. وما زاد على الجرح إهانة، هو هذه الدوامة “الكورونية” التي لا تشاء أن تنتهي. فقد أصبحنا كأننا في عالم من السوريالية المتقد، الذي يشبه الى حد كبير مسرحية “بانتظار غودو” لصامويل بيكيت. هذا الأدب “التراجيكوميدي” الذي يرتقي لأن يكون من نوع “أدب السخافة” (Literature of Absurdity)، جسَّد الى حدٍ كبير القول العربي العميق “شر البلية ما يضحك”.
إذا بقي منا من يأبه، فإنه كمن ينتظر مجيء غودو، الذي لن يأتي. ينتظر أن تنتهي الكورونا، وينتظر ان تتشكل الحكومة، وينتظر أن تفك المصارف أسر أمواله، وينتظر أن يستقر سعر صرف الدولار على “1500” من جديد، وينتظر أن ترخص الأسعار، وينتظر، وينتظر… في هذه الأثناء، لا يتوانى الجزء الأكبر من الشعب، عن اللجوء الى أدب النكتة للتعبير عن أوجاعه، والسخرية مما تبقى من دستور وقانون وسياسة وحُكُم. والحقيقة أن الإجابة عن متى سيحصل الانهيار لا يمكن تحديدها بساعة أو بزمن، لأنها تشبه بتفاعلها حالة بركانية صعبة التفسير. فالبركان الناشط ممكن أن ينفجر، وممكن أن يطلق الحمم والدخان بدون انفجار، وممكن أن لا ينفجر إطلاقاً. وهذا ما ينطبق على الوضع في لبنان. فللناظر من قريب أو من بعيد، يبدو البلد في حالة ترنح كبيرة، وكأنه حتماً سينهار بين لحظةٍ وأخرى. فالأمور كلها في حالة من الغليان والفوضى ولا ينقص لهذا البركان الناشط، إلا أن ينفجر مدوياً، حاملاً معه الدمار والدماء. لكن، مع هذا كله، وبعد أكثر من 15 شهراً من دخول النفق، ما زال هذا البركان ناشطاً، ومازال البلد مترنحاً، ومازال المواطن صامداً، ومازال السياسيون يعيثون خراباً في الوطن. فلماذا لم يحصل الانهيار بعد؟
نعم، لعله من الأسهل علينا الإجابة على ال “لماذا” بدل ال “متى” في هذه الحالة. فإن تحليل الأمور من هذه الزاوية، ممكن أن يلقي الضوء على بعض الوقائع التي تُفَسِّر لماذا لم ينهار البلد بعد بالرغم من الضغط الهائل الذي يتعرض له. ومن الناحية التحليلية، تندرج الإجابة على هذا السؤال في ثلاثة محاور أساسية هي: أولاً، مدخرات اللبنانيين التي تمكنوا من إنقاذها من براثن المصارف؛ ثانياً، طبيعة الاقتصاد اللبناني؛ وثالثاً، الأنظمة البيئية الاقتصادية-الاجتماعية Socioeconomic Ecosystems المتواجدة في لبنان.
من ناحية المدخرات، تسابق معظم اللبنانيون في النصف الثاني من العام 2019 على سحب ما تمكنوا من أن يستردوه من أموالهم بالليرة اللبنانية والدولار من المصارف، وحفظه في منازلهم بشكل نقدي. ونقول “يستردوه” لأن المصارف كانت قد نفَّذت خطة متكاملة لامتصاص الأموال بشكل ودائع طويلة الأمد، من خلال منح فوائد غير منطقية من الناحية المالية. وقد وقع معظم الشعب اللبناني في براثن هذه الخطة. لن نخوض في غمار هذا الموضوع، وإنما لنقول، أن أحد الأجوبة التحليلية حول عدم حصول الانفجار إلى الآن، هو أن جزء لابأس به من اللبنانيين ما زالوا يصرفون مدخرات حفظوها في المنزل، أو ودائع يأسوا من أن يحصلوا عليها، فآثروا أن يقبلوا خطة المصارف في تذويب ودائع العملة الصعبة شيئاً فشيئاً على معادلة ال 3900.
من ناحية النظام الاقتصادي، وبالرغم من أن الجميع لديه الكثير من الشكوك في قدرة هذا النظام على توفير الاستقرار المالي والاجتماعي للمواطن، فإنه ممكن أن يكون قد ساهم بشكل إيجابي بعض الشيء في هذه المرحلة القاتمة. فالاقتصاد اللبناني هو اقتصاد غير إنتاجي، أي أنه لا يعتمد بشكل كبير على استيراد المواد الأولية واستهلاك الطاقة بشكل مماثل للدول الصناعية. وبالرغم من وجود قطاع صناعي ناشط بشكل عام، فإن الحركة الصناعية التي تتطلب كميات كبيرة جداً من المواد الأولية والطاقة، محصورة بنسبة قليلة من المصانع. أما من ناحية اليد العاملة، فإن الاقتصاد بشقيه الصناعي والزراعي – اذا اعتبرنا أن هذان القطاعان هما من القطاعات الإنتاجية – يعتمد بشكل كبير على اليد العاملة الأجنبية، وبالأخص السورية منها، أو على يد عاملة لبنانية من مناطق الأطراف حيث يُجبِر الفقر الناس على قبول رواتب جد متواضعة. بالإضافة، فإن الكثير من المصالح المنتجة، كانت دائما ما تقوم بتصدير إنتاجها إلى الخارج منذ ما قبل الأزمة. ما يعنيه هذا الأمر تحليلياً، هو أن جزء كبير من القطاعات الإنتاجية وخاصة تلك المُصدِّرة للإنتاج، تأثَّر بشكل أقل بالوضع العام لأنه وبالرغم من أنه يستورد بالعملة الأجنبية، فإنه أيضاً يقبض بالعملة الأجنبية الطازجة، ويدفع لعماله بالعملة اللبنانية. لربما في هذا الاستنتاج شيء من الاستفزاز، وعذراً لأن الكثير يأبون أن يروا الواقع. واذا اعتبرنا ان “النق” هو ميزة لبنانية عند الأغنياء قبل الفقراء، فإن العزف على هذا الوتر هو أمر يومي منذ عشرات السنين في لبنان.
من هنا، وبما أنه غير إنتاجي، فإن الاقتصاد اللبناني هو بشكل واسع اقتصاد ثلاثي الأبعاد. هو أولاً اقتصاد خدمات، وثانياً اقتصاد ريعي، وثالثاً اقتصاد تحويلات. هنا أيضاً من الناحية التحليلية، يحمل هذا الواقع دلالات كثيرة لجهة الإجابة على سؤال “لماذا لم يحصل الانهيار؟”، والتأثيرات الإيجابية لهذا الواقع على استدامة حالة الترنح وتأخير الانفجار. لعل قطاع الخدمات اليوم هو الأكثر تأثراً من بين كافة القطاعات، فباستثناء القطاع الصحي والتجاري الذين يشهدان حركة ناشطة نتيجة الوضع الاقتصادي والجائحة، فإن القطاعات الخدماتية الباقية كالهندسة، والتعليم، والسياحة، وخدمات الأعمال بشكل عام تواجه الكثير من التحديات. ولكن، إذا نظرنا عن كثب، فإنه يمكننا أن نرى بعض البوادر الإيجابية الناتجة عن قدرة التأقلم التي لا مثيل لها للبنانيين. فتضخم العملة من ناحية، وحاجة العالم كله الى خدمات ذات نوعية ممتازة من ناحية أخرى، خلق فرصة متبادلة بين المهنيين اللبنانيين وبين طالبي الخدمات من كافة أنحاء العالم. فأصبح لطالب الخدمة أن يحصل على عمل لبناني مميز بسعر جداً مقبول، ومن ناحية أخرى أصبح للمهني اللبناني (مهندسين، مصممين، مبرمجين، مطورين، مترجمين، استشاريين، إلخ.) القدرة على الاستمرار ولو بسعرٍ أقل بكثير من الذي كان يطلبه سابقاً؛ طالما أنه يقبض ثمن عمله بالعملة الصعبة. وقد نشَّطَ هذا الأمر قطاع التوريد Outsourcing والعمل الحر Freelancing في مختلف المهن. هنا، ومن الناحية التحليلية، يعني هذا الأمر أن قطاع الخدمات، ولو أنه يواجه صعوبات مصيرية، فإنه مازال يحاول إيجاد وسائل مبتكرة للاستمرار، توفر له مدخول متواضع من العملة الأجنبية.
أما من ناحية كونه اقتصاداً ريعياً، فإن الجزء المعني من الشعب والشركات التي كانت تعتمد على أولياء النعمة من السياسيين، والأحزاب، وبعض مسؤولي الإدارة العامة النافذين، لا بد أنهم يواجهون صعوبات كبيرة. فالمدفوعات الريعية أصبحت تأتيهم بالعملة اللبنانية أو بشكل عيني، أو لا تأتيهم أبداً على مقولة “على الوعد يا كمون”. وقد حصدت هذه المجموعة التي كانت جزء من مزاريب الهدر، نتيجة أعمالها واعتمادها على ما لا تزرع. ولكن، لسخرية القدر، فإن مصائب قوم عند قوم فوائد. فانفجار المرفأ كان كفيلاً بضخ بعض الدماء الى عروق الاقتصاد الريعي، حيث بادر القاصي والداني، والصادق وصاحب الغاية الى تقديم المساعدات المالية (بالعملة الصعبة) والعينية. وكان آخر عمليات الضخ هذه هو قرض ال 246 مليون دولار من البنك الدولي، الذي من المفترض توزيعه على الفقراء الذين للأسف أصبحوا قميص عثمان في لبنان. فكل عمل خيِّر وشرير يُصنع تحت يافطة معلقة إسمها “الفقراء”. وبالطبع، من هو القيَّم على هذه المساعدات؟ مهندسي الاقتصاد الريعي، الذي كان في هذا الانفجار لديهم فَرَجاً ساعدهم على امتصاص نقمة قاعدتهم الشعبية التي كانت قد بدأت تتكون في الأشهر السابقة. ولهذا السبب نرى أن المساعدات لم تطل فقط المناطق التي مزقها الانفجار، وإنما كافة الأراضي اللبنانية، وفي كثير من الحالات هُرِّبت الى الخارج. تحليلياً، ساهم هذا الأمر أيضاً باستمرار حالة الترنح القائمة، وبقي أولياء الاقتصاد الريعي ومن معهم قادرين على البقاء واقفين ولو مع انحناءةٍ واضحة.
أخيراً، ولناحية كونه اقتصاد تحويلات، فلربما كانت الفئات المتأثرة بهذا النوع من الاقتصاد أكثر حظاً في هذه الفوضى اللبنانية العارمة. فمن كان يحصل على الأموال من خلال التحويلات الخارجية المباشرة، حافظ على نوع من الاستقرار الحياتي مقارنة بالارتفاع المسعور في سعر الصرف. كذلك، فإن الوضع الاقتصادي الصعب، لا بد أنه حفز العديد من الأهل والأقارب الذين لم يكونوا داخل نظام التحويلات الخارجية سابقاً، للدخول الى هذا المجال بهدف المساعدة. وربما إذا حدقنا قليلاً نجد أيضاً أنه هناك من دخل من هذا الباب بهدف التجارة بالعملة الصعبة، أو تبييض الأموال من خلال تحويل الأموال الى أقارب أو جهات محلية تقوم ببيع وشراء الدولار. صحيح أن التحويلات الخارجية لم تعد كبيرة كما كانت في السابق، فال 100 دولار اليوم تفعل فعلها، ولا أحد من الخارج يريد تكديس الودائع في المصارف اللبنانية المترنحة، وإنما هذه التحويلات ما زالت تؤثر بشكل كبير في بقاء الكثير من البيوت والعائلات واقفة على أرجلها.
هذا التحليل يجيب على جزء آخر من السؤال حول أسباب عدم حصول الانهيار في لبنان حتى الآن. اما الإجابة على الجزء الأخير، فهي تتمحور حول التحليل المتعلق بالأنظمة البيئية الاقتصادية-الاجتماعية المتواجدة في لبنانSocio-economic Ecosystems . فالنظام البيئي الاقتصادي-الاجتماعي هو نظام يحتضن مجموعة من الشعب، ويوفر لها شيئاً من المدخول المادي والعيني يساعدها على العيش والاستمرار. وتعتمد معظم هذه الأنظمة على العملة الصعبة، مما يجعلها مصدر جذب واستقرار كبيرين خلال المرحلة الراهنة. وإذا نظرنا الى خارطة لبنان، فإنه يمكننا أن نرى هذه الأنظمة البيئية موزعة على الشكل التالي:
١. النظام البيئي للقوات الدولية UNIFIL: بعديد قدره حوالي 10,500 جندي، وميزانية تقترب من 500 مليون دولار (تموز 2020 إلى حزيران 2021)، ومساحة 1000 كلم 2 من منطقة العمليات، أوجدت القوات الدولية المنتشرة في جنوب لبنان النظام البيئي الأول. طبعاً، لا تُصرف ميزانية القوات الدولية كلها في لبنان، وإنما من دون شك، هناك جزءاً كبيراً منها يتم دفعه في البلد. فمعظم خدمات الدعم، والتوريد، والصيانة، والموظفين المدنيين، والعمال، وغيرها مما تطلبه منطقة العمليات تقوم بتوفيرها شركات وأفراد لبنانيون وهم يتقاضون أجورهم بالعملة الصعبة. هذا بالإضافة الى أن تواجد الجنود في المنطقة، وتنقلهم فيها خلال دوامهم ومأذونيتهم، يحملهم على صرف كمية لا بأس بها من العملة الصعبة الطازجة لشراء الحاجيات الخاصة، أو للترفيه أو غيره.
٢. النظام البيئي للجمعيات الأهلية: يوجد في لبنان اليوم أكثر من 800 جمعية أهلية (بحسب موقع www.arab.org)، منها ما هو محلي ومنها ما هو امتداد لجمعيات أهلية عالمية (نُميِّز هنا بين الجمعيات الأهلية والمنظمات الدولية). هذه الجمعيات المحلية التي ازدهرت في العقدين الماضيين وتخصصت بمروحة واسعة من المهام الإنسانية، والصحية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وغيرها، أثبتت أنها عامل جذب أساسي للمساعدات المادية والعينية من الخارج. وبالرغم من بحثنا الحثيث، فإننا لم نتمكن من تحديد حجم ميزانيات الجمعيات الأهلية الحقيقي. ولكن من الممكن جداً أن تكون بملايين الدولارات، تُصرف كلها في مناطق مختلفة من لبنان. في كل الأحوال، فقد ساهم هذا الواقع بشكل مباشر في تكوين النظام البيئي للجمعيات الأهلية التي توظف بشكل مباشر وغير مباشر، آلاف الموظفين وأصحاب المهن الحرة. وتكمن قوة هذا النظام أيضاً في أن معظم العاملين فيه يقبضون رواتبهم وتعويضاتهم (أو الجزء الأكبر منها) بالدولار.
٣. النظام البيئي للمنظمات الدولية: لا يختلف النظام البيئي للمنظمات الدولية كثيراً عن النظام البيئي للجمعيات الأهلية، لا بل إنه عنصر مكمل. فإن العديد من المنظمات الدولية توزع ميزانياتها أو جزءاً منها على مشاريع مصممة من قبل الجمعيات الأهلية. والميزانيات في هذا النظام هي أكبر من تلك التي تصرفها الجمعيات الأهلية، وهي تُدفَع أيضاً بالعملة الصعبة. وما يميز المنظمات الدولية في هذه الحال، هو أنها تعمل على كافة المحاور بشكل شبه عابر للبلد. فهي ناشطة في معظم المناطق اللبنانية، وتخدم المواطنين اللبنانيين بالإضافة الى المواطنين الفلسطينيين والسوريين الذين لجأوا الى لبنان طلباً للأمان، وهي بشكل عام تستهدف مختلف الفئات في المجتمع. لا ننسى أيضاً آلاف الموظفين الذين يعملون في هذه المنظمات، والتي عادة ما تدفع رواتب جيدة جداً لموظفيها، وبالعملة الصعبة أيضاً.
٤. النظام البيئي للاجئين: يرتبط النظام البيئي للاجئين ارتباطاً وثيقاً بالأنظمة البيئية للجمعيات الأهلية والمنظمات الدولية والتي تعتبر مصدر التغذية الرئيسي له. فبغض النظر عن قضية اللاجئين وتعلقها بحل سياسي شامل، فإن جزء كبير منهم وخاصة السوريين، يحصلون على إعانات مالية ومادية وعينية تساعدهم على تحمل شظى العيش في المخيمات التي توفر أبسط سبل العيش وأقل. ويكوِّن هذا الواقع الإطار العام للنظام البيئي الاقتصادي الاجتماعي للاجئين الذي يجعل هذا المكون في المجتمع اللبناني جزء من الدورة الاقتصادية الحالية. وبالرغم من عدم موافقة الكثيرين على هذا الأمر، بمعنى أن اللاجئين لا يصرفون مدخولهم في البلد، فإن المنطق يقول أنه لا بد لهؤلاء البشر أن يصرفوا المال حتى يعيشوا.
٥. النظام البيئي للأحزاب: لعِبَت الأحزاب دوراً كبيراً في تموضع لبنان داخل المربع الحالي المحرج، حتى لا نقول المخزي. فهي دائماً ما كانت امتداداً للاعبين السياسيين، كما أنها كانت آلية محورية في تنفيذ المخططات التي رُسِمَت للبنان تحت كل الشعارات، ودون تمييز. ولكن ما يجب الوقوف عنده، هو أن الأحزاب كانت أيضاً مُحفِّز أساسي في لعبة شد الحبال اللبنانية، وأخذت، من دون أي شك، حصتها من المعلوم الذي تحملته الدولة نتيجة سيطرة فكر الاقتصاد الريعي. في كل الأحوال، فإن استمرار الأحزاب بانتهاج المقاربات المختلفة للتمويل ما زال قائماً حتى اليوم، ومازالت الكثير من الأحزاب ومن كل الطوائف تضخ ما تيسر لها من الكثير أو القليل للحفاظ على قاعدتها الشعبية .
٦. النظام البيئي للمهربين (من كافة الأنواع): يندرج المهربون من الناحية القانونية في خانة المجرمين. وبالرغم من أن التهريب هو حالة عالمية لا تنطبق فقط في لبنان أو على اختصاص محدد، فإن النموذج اللبناني قد سبق العالم بأشواط. فالتهريب لم يعد يقتصر على المخدرات، والسيارات المسروقة، والدخان، بل تخطاها الى المحروقات، والمواد الاستهلاكية، والمواد الغذائية، وحليب الأطفال، والمواد الأولية والغذائية المدعومة، وحدث ولا حرج. ومع أن الجميع يعلم أن التهريب من وإلى سوريا هو أمر بالغ القدم، ولكن ما يُخزي هو الاكتشافات المتعددة لمواد غذائية مدعومة مصنعة في لبنان أو مستوردة الى لبنان بدعم من الدولة، على رفوف المحال التجارية في بلدان متعددة. فهذا النظام البيئي لا بد أنه يضخ الملايين من الدولارات على أصحابها من التجار الكبار الذين يقبعون هناك غير آبهين بما يحصل؛ وهم واهمون أنه عندما تغرق السفينة، لن يغرقوا معها!
لربما يكون في هذا بعض الإجابة على السؤال “لماذا لم يحصل الانهيار حتى الآن؟”. وبالرغم من أنها نظرة تحليلية، فإنه يمكننا في أضعف المنطق أن نقول “لم يحصل الانهيار بعد، لأن المدخرات لم تنفذ، والاقتصاد الملعون مازال يحصل على الفرص، والأنظمة البيئية الاقتصادية-الاجتماعية مازالت تؤَمِّن مدخول لا بأس به لفئات مختلفة وربما كبيرة من الشعب”. لعل في هذا رحمةً من الله لعباده، أو أن “اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)”.
أما “متى سيحصل الانهيار؟” فإن الوقت كفيل بأن يرينا ماذا بعد.