الكورونا وإعادة هندسة الهوية الاخلاقية | د. حاتم علامي
للأشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
يمثل مفهوم الهوية الاخلاقية مرجعاً للتعرف الى المنظومة القيمية لتحديد المعايير والأحكام الاعتبارية في استكشاف الانسان لداخلنيته، ولإعادة تواصليته في المنظومة الاجتماعية التواصلية مع الآخر ضمن فاعلية القيم المشتركة .
طرحت المواجهة مع الكورونا استحقاقات جديدة على اشكاليات الهوية؛ يمكن التوقف عندها على مستويات عدة في مقاربة المرحلة من خلال اثرها على صعيد المرحلة الانتقالية، أو بالتلازم مع اتجاهات المرحلة اللاحقة والمؤشرات؛
١. الهوية الاخلاقية على المستوى الفردي هي ترجمة لمعنى الذات، كما ورد في المعجم الوجيز؛ والدلالة الذاتية للهوية تعني الإحساس بالانتماء الى منظومة راسخة تعطي للفرد خصائص متفردة؛ والهوية في المعجم الوسيط هي حقيقة الشيء .
والهوية في قيمتها الفردانية تتصل اتصالا عضويا بالوعي الجماعي؛ ذلك ان تكون الشخصية الفردية لا يتم بمعزل عن الانتماء الى جماعة. الا ان التحدي هنا يتمثل في الفصل بين القيمية المشتركة للجماعة والحرية الفردية، والبحث في حساسية التوازن بين الحرية الفردية والانتظام العام.
٢. وانطلاقا من المستوى الفردي وتجليه في الانتماء الجماعي، يطرح موضوع البنية السوسيوثقافية؛ فإذا كان الانسان يتجه بالفطرة الى الانخراط في الحياة الاجتماعية فإن النظام كضرورة لتنظيم حياة المجتمع شكل مفهوماً متبدلاً للدلالة على الخصائص في كل نظام.
ان تعقيدات الحياة الاجتماعية، وتطور الظاهرة السياسية بالتلازم مع نظام اقتصادي متجاوز للتوجهات التي أسست لخيارات الجمعية يثير عدة أزمات تتصل بالسياسة والاقتصاد والقانون.
نشير في هذا السياق الى الاختلافات بين البنى الاجتماعية وانظمتها السياسية.
وتتمثل ابرز عناصر البنية بالعوامل الديمغرافية والتوزيع السكاني على صعيد العمر والجنس والانتماء العرقي والديني.
تشغل المسألة الدينية مركز الصدارة في تأثيرهاعلى الهوية؛ على ان هذه المسألة في جوهرها الإنساني الثقافي تتجاوز حدود الممارسات العصبية والانغلاق؛ حيث نشير الى ان بصمة الانفتاح الديني والإبداع الايماني تجلت في عصر النهضة مع إسهامات مسيحية وإسلامية في بلورة اروع صورة للفكر الإنساني؛ وهذه الحقيقة مدعاة لدراسة علاقة الهوية الاخلاقية بالسياسة وبهوية الدولة الاخلاقية.
الى تأثير العوامل الدينية فإن مجموعة من المحددات الاجتماعية تلعب دوراً متقدماً في الهوية الاخلاقية على صعيد الفرد والمنظومة القيمية ودور الدولة؛ فموضوع المعايير القيمية للهوية الجمعية يتجلى في الأسرة والعلاقات الأسرية؛ وقد تطور دور المجتمع المدني ليشكل سمة من سمات العلاقات بين مستويات الهوية؛ لتتآلف هذه المقومات في تحديد توجهات الدولة وعلاقتها بالأخلاق.
٣. شغلت مسألة هوية الدولة الفلسفة قبل تطور التشريعات؛ وشكل المنطلق اليوناني للهوية الاخلاقية مرتكزاً للهوية الاخلاقية، للدولة، حيث يرى عدد من الفلاسفة وفي مقدمهم سقراط وأفلاطون انه لكي تعرف الخير لا بد ان تفعله؛ لذلك كان الاهتمام بالجانب التطبيقي للأخلاق.
وإذا كان أرسطو قد حدد هدف علم الأخلاق بتنظيم الحياة الإنسانية، حيث غاية الانسان هي الخير الأعظم؛ الا ان عدداً من المفكرين وفي مقدمهم ميكيافيلي قد نظروا الى الدولة بمعزل عن الاخلاق حيث الغاية تبرر الوسيلة، وقد شكل كتابه الأمير رفيقاً للاستبداد كما ظهر ذلك مع هتلر.
اشتهرت مع هيغل النظرة القائمة على تبرير حق الدولة بالقضاء بالعنف والقوة على النزوات الفردية ممجداً نظرية الدولة المطلقة. اما كانط فقد عمل في كتابه “مشروع السلام الدائم” على مقولة ان ان الحياة السياسية داخل المجتمع الواحد وخارجه يجب ان تقوم على العدل والمساواة.
يستند مفهوم الدولة الاخلاقية الى المبادئ التي تطورت مع الاكسيولوجيا أو مبحث القيم المتجلية في قيم الحق والخير والجمال؛ نميز في هذا الصدد المعايير القيمية لقياس طبيعة الدولة الاخلاقية. لقد فشلت مشاريع الدولة في احقاق مبادئ العدالة والمساواة؛ وتحتل معدلات الفساد والإخلال بالقانون والانحرافات السلطوية قرينة على الانسلاخ بين الشعارات التي قامت عليها الدول وممارساتها السلطوية، فهي على مستوى الدول التي تدعي الديمقراطية أنظمة سياسية اوليغارشية في خدمة اقتصادات غير اخلاقية في معظم استغلالها للنفوذ والسيطرة؛ وهي في واقع الدول النامية مشاريع لبناء الدولة خاضعة لتوازنات داخلية فئوية ولتبعية لمراكز السيطرة الدولية على حساب مصالحها القومية.
وقد تفاقم موضوع السلطوية من خلال توسع حدود استراتيجية للسلطة؛ حيث لا تنضبط بما هو سياسي، بل تتجاوز حيز السياسي وتخومه، حسب تعبير ميشال فوكو في ميكرو السلطة؛
وقد جاءت فترة العولمة لتفاقم من مخاطر تشوه الهوية الاخلاقية للسلطة المتحكمة بالقرارات، فهي قرارات تعبر عن اختلالات داخلية تتوزع بين مواجهة الاستحقاقات الداخلية على صعيد المجتمع؛ ولا سيما في المجتمعات التعددية؛ وكذلك في مواجهة منظومة العلاقات الدولية التي أسست لعصر من الإشكاليات الهوياتية واضطراب المعايير والضياع.
٤. الهوية الاخلاقية ازاء العولمة والهوية الكونية: ينطلق الجواب من السؤال عما اذا كان بالإمكان الحديث عن قيم إنسانية مشتركة؛ أم ان الحديث هو مجرد ضرب من الخيال.
ينبغي التمييز على هذا الصعيد بين الأخلاق الفطرية التي تتصل بالخيارات العامة المتصلة بالضمير الأخلاقي واحترام الحياة؛ في مقابل الاخلاق المكتسبة التي تطورت ضمن المعتقدات والقيم والتقاليد الجديدة وعكست القيم الاعتبارية في علاقتها بالتكنولوجيا وحقوق الانسان وحق الاختلاف.
تتجلى هنا مجموعة من الفروقات على صعيد التشريعات وعلى الصعد العملية المتصلة بالدولة والمجتمع؛ يذكر هنا عدد من المسائل الخاصة بالخيارات الطبية، دور المرأة، وحريةالتعبير، وقضايا تفسر بطرق متعارضة كموضوع الزواج والمثلية والإرث وغيرها.
أليس من اللافت ان الكرة الأرضية التي تواجه متضامنة معنويا الهجوم الوبائي لا يرف لها جفن ازاء الحروب وتداعياتها، والمواجهات العنصرية وأعمال القتل والدمار والتعصب في العالم؛
والعالم بهذا المعنى أمام استحقاق مصيري وفرصة ذهبية لتحويل التحدي الى مسلك اخلاقي في منظومة تضع حداً للجوع والفقر قبل سقوط الهيكل على رأس الجميع.
مع عصر الكورونا وإغلاق الحدود تنتعش النقاشات حول اعادة هندسة الهوية الاخلاقية، لقد حركت الممارسات على المستوى القومي مشاعر الحنين الى الانتماء الما قبلي للتطور المشوه؛ وجاء الحديث عن التنمر وفتح ارشيف الهويات لايقاض رغبة في البحث عن الهوية؛ يفرض الحنين الى الدولة والجماعة تحديات جديدة من اجل التعامل بعقل منفتح وارادة مسؤولة، بما يؤسس لقيم إنسانية فيكون “خليك بالبيت” تحضيراً لتجاوز العزلة الى هوية جديدة مرتكزة الى المعرفة وروح التضامن.
للأشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا