المتتبع لتاريخ التقدم البشري يجد أن الدول المتقدمة قفزت قفزة أشبه بالطفرة في مجال منظومة البحث العلمي فأحدثت أثرًا تكنولوجيًا في المجالات الانسانية والاجتماعية والعلمية ليس لمجتمعاتهم فقط، بل أيضًا حسّنت مستوى معيشة البشرية بأكملها، حيث قدمت وسائل للسعادة والرفاهية وعالجت جوانب المعاناة من خلال ما قدمته من تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات والزراعة والغذاء والدواء وغيرها.
حيث أخذت الولايات المتحدة الأميركية على عاتقها ومنذ نشأتها مسؤولية تطوير العلوم والتكنولوجيا من حيث انتهى اليهما العالم الذي سبقها في الوجود، ولا سيما ما قدمته أوروبا والحضارة الاسلامية وغيرها. فعلى مستوى السياسات العامة نص الدستور الأميركي بشكل صريح على تطوير العلوم والتكنولوجيا، وقد أنشأت لهذا الغرض مكتبًا خاصًا يرتبط مباشرة برئيس الولايات المتحدة، وهيأت السياسات والاستراتيجيات والمناهج والبرامج العلمية، إضافة إلى الأساليب البحثية، واستقطبت العقول والكفاءات المهاجرة من كل أنحاء العالم، كما انشئت مؤسسات ووكالات متخصصة ومخولة للارتقاء بالعلوم الاساسية والتطبيقية وتطوير التعليم والبحث، إضافة إلى عمليات التمويل.
هذا وقد حذت دول أخرى حذو الولايات المتحدة الأميركية، كاليابان وبريطانيا وفرنسا، واعتمدت السياسات والاستراتيجيات والاساليب ذاتها مع مراعاة بعض الخصوصية، فكانت لها التطلعات والطموحات وانجزت تقدمًا علميًا وتكنولوجيًا ماثلًا للعيان، فمثلًا أنشأ في بريطانيا مكتب يعنى بالعلوم والتكنولوجيا وحددت له أهداف ومهماته ومكتب اخر مماثل له في اليابان بغية احراز التقدم العلمي وفق متطلبات العصر. وهناك في دول العالم الثالث تجارب ناجحة ايضا مثل دول جنوب شرق اسيا (تايوان، كوريا الجنوبية، سنغافورة، اندونيسيا، ماليزيا، الصين، هونج كونج) اذ استطاعت هذه الدول اللاقطة للإبداعات الاستفادة من التقدم العلمي الذي احرزته الولايات المتحدة. فحققت ماليزيا طفرة تكنولوجية واضحة في تحولها الى دولة منتجة للتكنولوجيا خلال عقدين من الزمن فقط ، تمثل في انتاج وتصدير نموذجين للسيارات (بيرنون وبيردوا)، ودخول ماليزيا الفضاء الخارجي في اطار مشروع برنامج “القمر الصناعي الصغير” الذي اطلق بالفعل Measa 1) ) و Measat 11) ) عام 1955 بالتعاون مع الهند.
كما تطلب التطور الماليزي أيضا اتباع سياسة الاعتماد على العلم والتكنولوجيا والبحث العلمي من أجل التطوير، حيث تم تخصيص جزءا متزايدا من الناتج القومي لتلك السياسة، والاهتمام بالتعليم من أجل توفير العمالة الماهرة القادرة على استيعاب وتطوير التكنولوجيا.
وقد أدرك مهاتير أن الاهتمام بالبعد الثقافي يؤثر في التعامل مع التكنولوجيا، وفي افتتاحه لمؤتمر الاسلام والتكنولوجيا الذي عقد في كوالالمبور 1987 قال مهاتير: ” انني مقتنع أنه لكي يكون المسلمون شريكًا فعالًا في المجتمع الدولي المعاصر ولكي يقدموا خدمة الى الجنس البشري فانه ينبغي أن يصمموا على الحصول على المعرفة والتكنولوجيا الحديثة” . ولو تأملنا تاريخ مصر السياسي والاجتماعي، لوجدنا أن المشروع النهضوي الذي صاغه محمد علي مؤسس مصر الحديثة كان يرتكز بمعايير زمانه على النهوض بالتعليم والبحث العلمي والتكنولوجيا، فالمشروع النهضوي الذي صاغته ثورة تموز 1952 كان من بين مكوناته الأساسية تطوير البحث العلمي وتدعيمه ودفعه في مختلف المجالات الأساسية والتطبيقية وذلك في ضوء سياسة علمية بصيرة.
في المقابل نرى أن واقع الربط بين البحث العلمي والسياسات العامة في العالم العربي يعاني من التفاوت الكبير بين الخطاب النظري و واقع العمل على أرض الواقع ، مما يؤثر سلبا على العطاء العلمي العربي وعلى إمكانيات توظيف العلم في التنمية. و كما أشار العديد من المختصين نؤكد هنا أيضا على أن تمركز وربط المشروع النهضوي العربي بالبعد الاقتصادي،المتمثل بتحسين مستوى الدخول، وقلما وندر أن تم ربط المشروع ال من التتبع التاريخي السابق ، يمكن استنتاج القواعد العملية الاتية في التأسيس للربط بين التنمية والبحث العلمي: لذا وبناء على ما سبق فاننا نخرج من الدروس المستفادة من السياسات العلمية بجملة من التوصيات العلمية والتخطيط الاستراتيجي المتبع في دول العالم المتقدم لغايات توجيهة للارتقاء بالبحث العلمي في دول العالم النامي وأخص بالذكر الدول العربية، وعلى النحو الآتي: :
1 – أن يكون لأصحاب القرار تصور عام والتزام محدد بسياسات علمية ينعكسان على شكل خطة قومية يرتبط فيها الدور القيادي للدولة في البناء العلمي.
2-اعتماد مركزية العلم والتكنولوجيا لتحقيق التنمية.
3-صياغة سياسة علمية واضحة ومحددة بأولويات البحث العلمي.
3- التحول التدريجي من مرحلة نقل التكنولوجيا واستيرادها إلى ابتكار وإنتاج التكنولوجيا في إطار مؤسسي،
4- تخطيط أوسع يقوم على المشاركة بين الجامعات ومراكز البحوث ومختلف قطاعات الدولة.
5- رسم سياسة علمية تعليمية فعّالة تقوم على الارتقاء بمستوى التعليم والبحث العلمي .
6- الاهتمام بتوجيه منظومة القيم الثقافية وتوجيهها نحو البحث والتطوير.
7- توفير البينة التحتية اللازمة للبحث العلمي و خاصة في مجال تكنولوجيا العصر.