يحمل حراك لبنان الكثير من المعاني والرسائل والدروس. وهو إن دلًّ، فإنه يشير إلى أن ما تبقى من نخوة في نفس الشعب اللبناني، آثر أن يحملها هذا الشعب إلى شوارع البلد التي شهدت على عصور ذهبية وأخرى انحطاطية وما بينهما. هذه الشوارع التي مشى فيها الناس إلى أشغالهم، وإلى جامعاتهم، وإلى تسليتهم، وإلى مظاهراتهم، وحتى إلى حتفهم. هذا الشعب الدؤب الذي لا يهدأ ولا يمل على مر الزمن.
حراك الشعب اللبناني ليس بجديد، وهو الذي تحرك لاحتضان الأرمن المضطهدين، وتحرك عندما اغتصبت فلسطين، وتحرك عندما توجعت الشعوب العربية، وتحرك لما طُعنت أوروبا، وحتى لما اهتزت هاييتي. لا جديد في حراكنا إلا أمر واحد وهو أننا للمرة الأولى في تاريخ لبنان الحديث نتحرك من أجلنا وليس من أجل الآخرين، للمرة الاولى نتحرك كشعب وليس كطوائف أو أحزاب.
لكن ما يقلق دائماً في لبنان هو هشاشة العقل الشعبي واستعداده، بكافة مستوياته العلمية وطبقاته الاجتماعية، أن يَتَجَيَر ويحيد عن الهدف الكبير، لخدمة أهداف ضيقة وفي كثير من الاحيان رخيصة. فيكفي أن يتكلم أحد زعماء الطوائف أو أمراء الحرب بلسان الضحية، وينوح على الطائفة أو على الميليشيا أو على التيار، حتى تهُب في جزء لابأس به من بيئته روح العزة للدفاع عنه أو لأخذ الأمور إلى حيث يريد. فيقول مثلاً أن هذا الفعل أو ذاك التصريح موجه نحو الطائفة أو الحزب، والمقصود به كرامتنا، وما إن يصل كلامه إلى مسامع العقول الهشة، حتى تثور المشاعر على طريقة “لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى”، وتتحرك الشوارع، وتفيض صفحات التواصل الاجتماعي بجواهر الكلام الهجائي للطرف الآخر و الذي تخجل حتى أن تقرأه.
والمقلق الأول اليوم هو أن الحراك بدأ يُختطف من أيدي المواطن الصادق الذي نزل إلى الطرقات للتعبير عن غضبه من عصابة الحكم وأعمالهم الفارغة إلا من الكلام المعسول، وتصرفاتهم التناكفية التي لا ترتقي لتصرفات أطفال في صف الروضة الأولى على الأكثر. بدأ هذا الحراك يختطف كالنعس دون أن يشعر المواطن الصادق بأن الذئاب بدأت تنتشر بين القطيع. وطبعاً هكذا دائماً كان أسلوب الذئاب، تسرح بشكل الخراف بهدوء ودون أن تثير الريبة لتفترس جميع الخراف. فالمليشيات بدأت تسيطر على عملية قطع الطرقات وعلى التجييش والتحريض على وسائل التواصل الاجتماعي، وفبركة الأخبار الكاذبة. نقول هذا بكل تأكيد لأن المواطن “الآدمي” لا يحرق الدولايب، ولا يتهجم على الجيش، ولا يحرض بكلام رخيص، ولا يسب ولا ينعت… فقط العقل المليشيوي يفعل هذا، ونحن قد عاصرنا هذا الزمن ونعرف عن ماذا نتكلم.
أما المقلق الثاني، وهو نتيجة للأول، هو غياب الحس الطارئ من تصرفات جميع من يسمون أنفسهم بالمسؤولين. فالمنطق يقول أنه خلال الأزمات يرتفع الحس الطارئ لدى الإنسان وترتفع مستويات التركيز وكمية الوقت المخصصة لمعالجة الأزمة وذلك لإيقاف النزيف، ودرء المزيد من المخاطر، والخروج من المشكلة بأسرع وقت ممكن. ولكن إذا نظرنا إلى مستوى الشعور بالخطر والحس الطارئ الذي يظهره المسؤولين في لبنان من خلال تصرفاتهم، نجد أنهم في المقلب الآخر يبحثون عن الحل باستخدام الخريطة الخطأ. فبدل أن تشكل خلية أزمة من العقول النظيفة والاختصاصيين يعملون ليلاً نهاراُ (بكل ما في الكلمة من معنى) لإخراج لبنان من ليله الأسود، نجد المسؤولين يتباحثون ويطيلون التشاور والتجاذب على أمور، وإن حصلت، فإنها لن تغير شيء في واقع أن السفينة تغرق. أمر يدعو إلى الجنون بحق، لأنه من الواضح أن ما يسطير على عقول المسؤلين الشاذة هو مقولة ‘عنزة ولو طارت’، فليذهب البلد إلى الجحيم، المهم أن أثبت أنني على حق، أو أسواء من ذلك، هو كيف يمكنني أن أستفيد من الوضع القائم لأقوي أوراقي. هذا أمر يدعو إلى الثورة بحد ذاته.
لقد وصلت اللامبالاة الفكرية في أذهان المسؤولين إلى حد التعامل مع الوضع وكأن الأمور على ما يرام ولا شيء طارئ. وهم بذلك يؤكدون أمر من إثنين. إما أنهم لم يعودوا يعرفون ماذا يفعلون وكيف يتصرفون مع الوضع القائم، أو أنهم من الجهل والغي بمكان أنهم يفضلون أن يغرق لبنان لينقذوا أنفسهم، وهذا أمر يقع في خانة الخيانة العظمى للوطن والشعب.
حمى الله لبنان من المليشيات، والسياسيين الأغبياء، ومن هشاشة العقول، ومن طمع الشرهين، وأنعم عليه بما يكسر هذه الدائرة المفرغة التي ربما تحتاج إلى أعجوبة من السماء… والله على كل شيء قدير.
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا