عشر ملاحظات أولية بشأن ما بعد الانتخابات النيابية | بقلم معن بشور
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
أي حديث عن نتائج الانتخابات النيابية التي حدثت في لبنان يوم الخامس عشر من أيار عام 2022، يجب أن يتحرّر من الأفكار أو الأحكام المسبقة أو القراءة بعين واحدة، لاسيّما وأن هذه النتائج متعددة الوقائع، وأحيانًا تجمع بين الشيىء ونقيضه.
لذلك سأحرص في هذه العجالة أن أسجّل جملة ملاحظات لا تشكّل وحدها قراءة متكاملة لهذا الاستحقاق الهام، بقدر ما تشكّل مساهمة في فهم ما جرى وفي توقع ما سيحدث من تداعيات، مع التأكيد أن تداخل وقائع هذا المشهد وتعقيداته لا تسمح منذ الآن بتوقعات دقيقة.
أول الملاحظات: إن هذه الانتخابات، وبغضّ النظر عن نسبة المشاركة فيها، وكانت متدنية إلى حد ما، قد حملت بذور تغيير في المشهد السياسي اللبناني، رغم أن الحكم على النواب “التغيريين” ما زال مبكرًا بانتظار ادائهم في البرلمان وقدرتهم على التحرر من أجندات خارجية تريد دفعهم إلى سياسات ومواقف لا تؤدي إلى مواجهة المحنة التي يعيشها اللبنانيون بقدر ما تؤدي إلى تعزيز الانقسام والخطاب المتشنّج وما يمكن أن يقود إليه من فتن وأزمات عميقة ذات طابع طائفي أو مذهبي.
ثاني هذه الملاحظات: إن هذه الانتخابات شهدت تدخلًا خارجيًا علنيًا لم تشهده أي انتخابات سابقة، وعلى نحو بدا وكأن لبنان بلد مستباح من قبل “سفارات” تمتلك القدرة على التأثير المالي والسياسي، مما أضعف من أولوية المعالجة للقضايا الاقتصادية والاجتماعية الملحّة، وساهم في إعادة البلاد إلى أجواء الاحتراب الإقليمي والدولي الذي دفع اللبنانبون ثمنًا باهظًا له.
ثالث الملاحظات: إن قراءة دقيقة للأرقام التي تحكّمت بالنتائج في هذه الانتخابات تظهر مفارقات بالغة الأهمية، حيث أن كمّ الأصوات التي نالتها كتل حزبية وسياسية لا تتناسب مع كمّ المقاعد التي حصلت عليها، لا بل وجدنا نوابًا يفوزون بمئات الأصوات التفضيلية، بينما يفوز آخرون بما يقارب الخمسين ألف صوت، مما يثير الشك في مدى تمثيلية بعض النواب ومدى مساواتها بتمثيلية غيرهم.
وهذه المفارقة ناجمة بالأساس عن وجود قانون ملتبس يجمع بين أمرين كلاهما مصدر انتقاد عند الكثير من اللبنانيين، أولهما لوائح “المداحل”التي طالما شكا منها اللبنانيون في الانتخابات السابقة للقانون الانتخابي الحالي، وثانيهما سلبيات الاقتراح المقدّم من اللقاء الأرثوذكسي والذي يعطي لكل طائفة الحقّ بانتخاب ممثليها بمعزل عن أي اعتبار وطني يعتبر لبنان دولة موحّدة لكل أبنائها.
لقد أدى هذا التزاوج بين سلبيتين هما “المداحل” والتي أصبحت “لائحة مقفلة”، وبين حصر اختيار المواطن شخصًا من طائفته، أدى إلى مشكلات عديدة، بين اللوائح، وداخل كل لائحة، وكأن لبنان يحتاج إلىالمزيد من عوامل انقسام وتفتيت.
رابع هذه الملاحظات: إن الضخّ الإعلامي الكثيف، والمموّل بالطبع من جهات معروفة، والذي استمر بعد إعلان النتائج ومحاولة إعطاء انطباعات معيّنة عنها، ساهم في خلق أجواء من التشنّج على الصعيد الشعبي له مخاطره، كما أدى إلى توتير سياسي أدى إلى تعزيز العصبيات الطائفية والمذهبية والحزبية على أنواعها، في وقت يحتاج لبنان اليوم، كما كل يوم، إلى خطاب يجمع ولا يفرّق، يصون وحدة الوطن ولا يبدّدها.
خامس هذه الملاحظات: رغم أن إجراءات هذه الانتخابات، بل الدعوة إلى إجرائها مبكرًا، كان أحد أبرز مطالب الحراك التغييري الواسع الذي انطلق في 17/10/2019، وكانت الشعارات التي اجتمع اللبنانيون حولها، تتناول أوضاعهم المعيشية البائسة وسبل منع تفاقمها، لكن كل هذه الهموم والاهتمامات غابت تقريبًا عن معظم الحملات الانتخابية التي ركّزت في خطبها ودعاياتها على بند واحد مطلوب خارجيًا، وتمّ تناسي الكثير من اللوائح والمرشحين للقضايا الحياتية الملحّة، مما يظهر أن الأجندات الخارجية قد تغلّبت على الهموم الداخلية في هذا الاستحقاق.
سادس هذه الملاحظات: إن هذه الانتخابات قد جاءت بمجلس نيابي متعدّد الكتل، لا أكثرية فيه ولا أقلية، بل مجموعة كتل مضّطرة إلى إيجاد تفاهمات بينهما على “القطعة” كما يقولون، وإذا تعذّر هذا التفاهم (كما هو مرجّح) فأن أوضاع البلاد معرّضة للمزيد من التأزم وربما الانهيار إلاّ إذا جرى تفاهم إقليمي أو دولي يخرج لبنان من محنته، كما جرى يوم اتفاق الطائف، وكما يبدو أن الأمور تتجه إليه.
إن تفاهمًا يجري في الخارج سينعكس إيجابيًا على الوضع في لبنان دون شك، لكن هذا التفاهم إذا لم يجر تحصين تداعياته قد يكون له أثمان باهظة على أمور متصلة بالسيادة الوطنية والقرار المستقل.
سابع هذه الملاحظات: إن الشعار الذي جرى استدراج الناخب اللبناني إلى التصويت في أجوائه هو شعار إسقاط سلاح المقاومة، والذي طغى على كل شعار آخر، حيث حاولت جهات خارجية وداخلية تعبئة الرأي العام حوله، لم يستطع أن يحقق نجاحًا، بل ربما عزّز من التفاف بيئة المقاومة حول سلاحها في غياب أي استراتيجية دفاعية للبنان، وزاد من مقاعد عدد نواب كتلة الوفاء للمقاومة.
صحيح أن حلفاء المقاومة قد واجهوا خسائر موجعة في عدم فوز شخصيات بارزة حليفة في أكثر من منطقة، لكن خسائر موجعة أيضًا قد وقعت في صفوف خصوم المقاومة نفسها وفي مواقع حساّسة جدًا لها.
لقد أكّدت نتائج هذه الانتخابات أن أحدًا لا يستطيع أن يقود البلاد بمفرده سواء كان فردًا أو حزبًا أو تيارًا أو تكتلًا وأن لا مناص عن اعتماد أسلوب الشراكة في إدارة البلاد إذا وضع الجميع مصالح الوطن فوق المصالح الفئوية الضيقة.
ثامن هذه الملاحظات: إن على اللبنانيين أن يدركوا أن تركيبة مجلسهم النيابي نفسها لا تحدّد وحدها مصيرهم، بل أن موازين القوى على الأرض، محليًا وعربيًا وإقليميًا ودوليًا، هو عنصر أساسي في قرارات هذا المجلس.
والكل يذكر كيف أن مجلسًا نيابيًا كانت أكثريته موالية للرئيس بشارة الخوري قد انتخب سياسيًا معارضًا له عام 1952 هو الرئيس كميل شمعون، رغم أنه كان عضوًا في كتلة نيابية لا تزيد عن سبعة نواب من أصل 55 نائبًا، والكل يذكر كيف انقلب مجلس نيابي “شهابي” عام 1970، على مرشح النهج آنذاك الرئيس الياس سركيس لصالح الرئيس الراحل سليمان فرنجية، والكل يذكر كيف أن المجلس النيابي الذي صادق على اتفاق 17 أيار عام 1983، هو نفسه الذي صوّت على إلغائه عام 1984، والكل يذكر كيف أن المجلس نفسه الذي صادق على المعاهدة مع سورية عام 1991 هو نفسه وقف بأكثريته ضد الوجود السوري في لبنان عام 2005.
تاسع هذه الملاحظات: لقد أثبت رئيس الحكومة السابق سعد الحريري من خلال تعليق مشاركته بالانتخابات النيابية، ومن خلال تجاوب شريحة واسعة من ناخبيه ونواّبه معه، أنه رقم صعب في المعادلة اللبنانية لا تستطيع أي قوة تجاهلها في المستقبل، وأنه سيكون بالضرورة شريكًا في المشاورات الجارية حول أكثر من استحقاق انتخابي، تمامًا كما نجح التيار الوطني الحر، رغم الحملات الضارية التي واجهها من الخارج والداخل، في إثبات أنه رقم في المعادلة اللبنانية يصعب تجاهله.
عاشر هذه الملاحظات: هو أن مستقبل لبنان القريب والبعيد تحدّده إلى حد كبير التطورات الجارية في المنطقة وعلى مستوى العالم، حيث يبدو واضحًا أن الكيان الصهيوني لم يعد يمتلك تلك القوة التي تجعله مؤثرًا بشكل حاسم في الأوضاع الإقليمية، بما فيها معركة لبنان في الحفاظ على موارده البحرية من النفط والغاز، وإن العالم يتجه إلى نظام دولي متعدّد الأقطاب وأن الولايات المتحدة الأمريكية ستصبح قطبًا مشاركًا في تحديد سياسات العالم، وليست قطبًا وحيدًا، وأن أزمات ستتصاعد بين واشنطن وحلفائها في المنطقة، بما يحتاج من “أولي الأمر” في المجلس النيابي وسائر المؤسسات الفاعلة في البلد أن تتكيّف مع هذه التحولات المتنامية، ولكي يعتمد لبنان سياسات أكثر توازنًا وأكثر جرأة في اتخاذ القرارات المناسبة لصالح خروجه من النفق المظلم الذي وضعته فيه المنظومة الحاكمة والمشبعة فسادًا واستهتارًا بمصالح الشعب اللبناني.
خاتمة وخلاصة
في ضوء هذه الملاحظات العشر والتي يمكن أن تستكمل بعشرات الملاحظات الأخرى، ينبغي على كافة القوى السياسية في لبنان، الكبير منها والصغير، أن تجري مراجعات صادقة وجريئة وموضوعية لنتائج هذه الانتخابات، ولما سبقها ولما سيتلوها، لتحديد السلبيات التي ينبغي التخلص منها، والإيجابيات التي ينبغي تعزيزها وتطويرها والسعي إلى الاجتماع حول خطاب وطني جامع يحدًد مشكلات البلاد بمنظار داخلي لا خارجي، ويعيد بناء وحدة وطنية وشعبية هي وحدها ضامنة السيادة والحرية والمشاركة، بل هي التي تسمح للبنان باستعادة دوره النهضوي في محيطه العربي والإقليمي والدولي، وفي مواجهة كيان صهيوني غاصب أعلن قادته منذ تأسيسه استهدافهم للبنان كنموذج نقيض لنموذجهم العنصري الإرهابي الإجرامي.