ازمة لبنانالاحدث

الرَقمَنَةُ في لبنان: رُؤيَتان مُتَقابِلتان بين الرَئيسَين | بقلم د. بيار الخوري

عندما وَقَفَ كلٌّ من رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون ورئيس الحكومة نوّاف سلام ليتحدَّثا في مؤتمر “الحكومة الذكية”، الذي عُقِدَ في الثالث من حزيران (يونيو) الجاري في فندق “فينيسيا” في بيروت، بدت كلمتاهما وكأنّهما تتناولان القضيّة نفسها، لكن من مَوقِعَين مختلفين تمامًا. فالموضوع هو الرقمنة، أما المضمون، فكان انعكاسًا لتَصَوُّرِ كُلٍّ منهما لدَورِ الدولة، وحدود الإدارة، وطبيعة الإصلاح.

عون تحدّثَ بلغةٍ حادة، صريحة، ومباشرة. كان خطابُهُ أقربَ إلى تشخيصٍ لمرضٍ مُزمِنٍ اسمه “الفساد”، الذي يرى أنّهُ يَلتَهِمُ أيَّ محاولةٍ للانتقالِ نحوَ إدارةٍ عصرية. الرَقمَنةُ بالنسبة إليه ليست مُتَعَثِّرةً بفِعلِ قلّةِ الموارد أو ضُعفِ القدرات، بل لأنَّ ثمّةَ مَن يُعرقلها عن قصد. في رؤيته، المشكلةُ ليست في غيابِ القرار، بل في وجودِ مَن يَرفُضُ اتخاذه. قالها بصراحة: التحوُّلُ الرقمي مُتَوَقِّفٌ لأنَّ هناكَ مَن يُريدُ إبقاءَ المُواطِنِ رَهينة المزاجية والواسطة والرشوة. وبالتالي، الرقمنة ليست مسألة تقنيات بل صراعٌ على مستقبلِ النظامِ الإداري برمّته.

في المقابل، أتى خطاب سلام بعَقلِ الإدارة لا بمَنطِقِ السياسة. هو لا يَنكُر العراقيل، لكنه لا يَغوصُ في فضحها. ما يعنيه الآن هو كيف نُخرِجُ الدولة من التردُّدِ إلى الفعل. يُشدّدُ على أنَّ الرقمنة ضرورة، لكنها أيضًا فُرصة. إصلاحُ الإدارة، استعادةُ ثقةِ المُواطن، تحفيزُ الاقتصاد، كُلُّها أهدافٌ تمرُّ من هذا الباب. في كلمته، لا نَجِدُ العدوَّ في الداخل، بل المهمّة أمامنا. لا يتوقّفُ عند منظومة الفساد، بل يطرحُ مشاريع، خطوات، برامج. يُعلِنُ عن تشكيلِ ائتلافٍ من خبراء الاغتراب، ويكشُفُ عن توجُّهٍ لإطلاقِ تطبيقٍ وطني يَربُطُ الوزارات بقدرات المغتربين. هو لا ينفي حَجمَ التحدّيات، لكنّهُ يختارُ الاشتباكَ معها بالأدوات لا بالسياسة.

المُفارقةُ الأوضح بَينَ الخطابَين هي أنَّ عون يرى أنَّ الفسادَ هو مَن يُعيقُ تحقيقَ الرَقمَنة، فيما يرى سلام أنَّ الرَقمَنة هي التي تُفكّكُ الفساد. هذا الفارِقُ ليس بسيطًا، بل هو في عُمقِ فلسفةِ الإدارة والحَوكَمة الرشيدة. الأوّلُ يُريدُ إزالةَ العائق أوّلًا ليستقيمَ المسار، أما الثاني فيرى أنَّ التقدُّمَ في المسار نفسه هو الكفيلُ بإزالةِ العوائق.

كذلك يختلف الخطابان في طريقةِ مُخاطبةِ الجمهور. عون يَتَوَجّهُ إلى اللبنانيين من موقعِ الرمزِ الوطني: حديثٌ عن كرامةِ المواطن، وعن مشروعِ وطنٍ لا حكومة. يَرفَعُ السقفَ، يُحمّلُ الدولةَ مسؤولية، ويدعو إلى ما يُشبِهُ القطيعة مع الماضي. في المقابل، سلام يُخاطِبُ الإدارة، يُخاطِبُ الشركاء، يتحدّثُ عن جدوى مالية، واستدامة، وبُنيةٍ تحتيّة مُوَحَّدة، وكأنه يكتب بلغة المهندسين لا رجال السياسة.

في النهاية، نحنُ أمامَ رُؤيَتَين لا تتعارضان في الهدف بل تختلفان في الطريق. واحدةٌ تَنشُدُ التحوُّلَ بالصدمة، والأُخرى تُراهِنُ على التراكُم البطيء. الأولى تشترطُ إصلاحَ السياسة قبل الإدارة، والثانيةُ تقولُ إنَّ إصلاحَ الإدارة قد يُمَهّدُ لإصلاحِ السياسة.

وبين الرؤية والبراغماتية، لبنان يحتاجُ اليوم إلى أن يلتقي الخطابان قبل أن تهزمَ السياسةُ مشروعَ الرئيس السياسي وتَهزمَ البراغماتية براغماتية دولته.

 ينشر المقال بالتزامن مع أسواق العرب.

د. بيار بولس الخوري ناشر الموقع

الدكتور بيار بولس الخوري أكاديمي وباحث ومتحدث بارز يتمتع بامكانات واسعة في مجالات الاقتصاد والاقتصاد السياسي، مع تركيز خاص على سياسات الاقتصاد الكلي وإدارة التعليم العالي. يشغل حاليًا منصب عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا وأمين سر الجمعية الاقتصادية اللبنانية. عمل خبيرًا اقتصاديًا في عدد من البنوك المركزية العربية. تخصص في صناعة السياسات الاقتصادية والمالية في معهد صندوق النقد الدولي بواشنطن العاصمة، في برامج لصانعي السياسات في الدول الاعضاء. يشغل ايضا" مركز أستاذ زائر في تكنولوجيا البلوك تشين بجامعة داياناندا ساغار في الهند ومستشار أكاديمي في الأكاديمية البحرية الدولية. ألّف أربعة كتب نُشرت في الولايات المتحدة وألمانيا ولبنان، تناولت تحولات اقتصاد التعليم العالي وتحديات إدارته، منها كتاب "التعليم الإلكتروني في العالم العربي" و"التعليم الجامعي بموذج الشركنة". نشر أكثر من 40 بحثًا علميًا في دوريات محكمة دوليًا،. يُعد مرجعًا في قضايا مبادرة الحزام والطريق والشؤون الآسيوية، مع تركيز على تداعياتها الجيوسياسية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط. أسس موقع الملف الاستراتيجي المهتم بالتحليل الاقتصادي والسياسي وموقع بيروت يا بيروت المخصص للأدب والثقافة. أطلق بودكاست "حقيقة بكم دقيقة" على منصة "بوديو"، ليناقش قضايا اجتماعية واقتصادية بطريقة مبسطة. شارك في تأليف سلسلتين بارزتين: "الأزرق الملتهب: الصراع على حوض المتوسط"، الذي يحلل التنافسات الجيوسياسية حول موارد البحر المتوسط، و"17 تشرين: اللحظة التي أنهت الصفقة مع الشيطان"، وهي مجموعة دراسات ومقالات عميقة حول انتفاضة لبنان عام 2019، والمتوفرتان على منصة أمازون كيندل. لديه مئات المقابلات في وسائل إعلام محلية عربية وعالمية مقروءة ومتلفزة، حيث يناقش قضايا الاقتصاد اللبناني والأزمات الإقليمية والشؤون الدولية. يكتب مقالات رأي في منصات إلكترونية رائدة مثل اسواق العرب اللندنية كما في صحف النهار والجمهورية ونداء الوطن في لبنان. يُعتبر الخوري صوتًا مؤثرًا في النقاشات حول مسيرة اصلاح السياسات الكلية وسياسات محاربة الفساد والجريمة المنظمة في لبنان كما مسيرة النهوض بالتعليم والتعليم العالي وربطه باحتياجات سوق العمل. لديه خبرة واسعة في دمج تطبيقات تكنولوجيا البلوكتشين في عالم الاعمال ومن اوائل المدافعين عن الصلاحية الاخلاقية والاقتصادية لمفهوم العملات المشفرة ومستقبلها، حيث قدم سلسلة من ورش العمل والتدريبات في هذا المجال، بما في ذلك تدريب لوزارة الخارجية النيجيرية حول استخدام البلوك تشين في المساعدات الإنسانية وتدريب الشركات الرائدة في بانغالور عبر جامعة ساغار. كما يمتلك أكثر من 30 عامًا من الخبرة في التدريب وإدارة البرامج التدريبية لشركات ومؤسسات مرموقة مثل شركة نفط الكويت والمنظمة العربية لانتاج وتصدير النفط OAPEC. يجمع الخوري بين العمق الأكاديمي، فهم البنى الاجتماعية-الاقتصادية والاستشراف العملي، مما يجعله خبيرا" اقتصاديا" موثوقا" في العالم العربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى