ازمة لبنانالاحدث

جبيل وكسروان تعودان إلى ما قبل الحرب: عائلات وأحزاب وتعايش | بقلم ناجي علي أمهز

في ظل التحولات السياسية المتسارعة على مستوى العمل البلدي والاختياري، برزت انتخابات جبيل وكسروان الأخيرة كمحطة مفصلية أعادت رسم موازين القوى بين الأحزاب والعائلات التقليدية. في هذا المقال التحليلي، يقدّم الكاتب ناجي علي أمهز قراءة معمقة لنتائج هذا الاستحقاق المحلي، مسلطًا الضوء على مكامن القوة، وتبدّل التحالفات، وعودة الديناميات الاجتماعية إلى الواجهة، بما يعكس صورة مصغّرة عن الواقع السياسي اللبناني.

كشفت الانتخابات البلدية والاختيارية الأخيرة في قضائي جبيل وكسروان عن نتائج ذات دلالات عميقة، لم تخرج عن التوقعات التي سبقتها، والتي ارتكزت إلى رصد دقيق للمشهدين السياسي والاجتماعي في المنطقة. ويمكن تلخيص هذه النتائج بثلاثة مسارات رئيسية: فوز واضح لحزب القوات اللبنانية، نجاح محسوب للثنائي الوطني (حزب الله وحركة أمل)، وعودة مؤثرة للعائلات التقليدية إلى ساحة التأثير المحلي.

التوقعات الأولية كانت تشير إلى توازن نسبي في توزيع المقاعد بين القوى الحزبية والعائلية، بنسبة تقارب 60% للأحزاب مقابل 40% للعائلات. وضمن هذه النسبة، برزت القوات اللبنانية كلاعب أساسي، مع تقديرات بحصولها على نحو 80% من المقاعد الحزبية، وهو ما تحقق فعلياً إلى حد بعيد. ويُعزى جزء من دقة هذه التقديرات إلى العمل الممنهج الذي اضطلع به حزب الكتائب اللبنانية، لا سيما بجهود النائب سليم الصايغ، الذي أظهر حنكة في التحضير والتحالف، وخبرة واضحة في قراءة المزاج الانتخابي العام.

اللافت كان في الزخم التعبوي الذي رافق القواعد الشعبية للقوات اللبنانية، بما يعكس تنامي التأييد لرئيس الحزب الدكتور سمير جعجع، داخل الشريحة المسيحية وربما خارجها، كنتيجة لمواقفه السياسية الصلبة. ويبدو أن جعجع اعتمد هذه المرة مقاربة سياسية جديدة تنطلق من ثلاثة محاور أساسية، ترتكز على موقعه المركزي المتنامي ضمن البيئة المسيحية، ما يفرض عليه نمطاً سياسياً أكثر تماسكاً حتى في مواجهة خصوم الداخل.

المحور الأول في هذا النهج الجديد يتمثل في الخطاب الذي يؤكد على غياب العداء المبدئي مع أي طرف داخلي، رغم التوترات الظاهرة مع حزب الله. لكن القوات اللبنانية تشدد على أن موقفها من سلاح الحزب هو موقف دستوري يرتكز إلى القرارات الدولية، وبالأخص القرار 1701، وترى أن هذا الموقف سيبقى ثابتاً بغض النظر عن الجهة التي تمتلك السلاح. أما السجالات السياسية اليومية، فتُدرج ضمن المنافسة الحزبية التقليدية، ولا تتجاوز الحدود الوطنية المقبولة.

أما المحور الثاني، فيعكس إدراك القوات لأهمية العائلات التقليدية ضمن النسيج المسيحي. فبعد تقييم تجربتها الخاصة وتجربة التيار الوطني الحر في هذا المجال، اختارت القوات هذه المرة نمطاً منفتحاً يقوم على الشراكة. وفي بلدات مثل جونية، شكّلت تحالفات مع عائلات وازنة كآل إفرام والبون والخازن، ما أظهر رغبتها في تكريس التعددية داخل لوائحها حتى في مناطق نفوذها التقليدي.

المحور الثالث يتعلق بإعادة تموضع القوات في ظل التوزع الجغرافي الواسع للموارنة في لبنان، والذي يفرض خطاباً مرناً يراعي خصوصية كل منطقة. فبينما يمكن رفع سقف المطالب في بيئات مسيحية صرفة، فإن الأمر يختلف في المناطق المختلطة. ومع تفاقم الخلاف مع التيار الوطني الحر، الذي تتهمه القوات بالتفرد والأنانية السياسية، بدا واضحاً أن القوات تتجه إلى تعويض هذا الخلاف بتوسيع شبكة تحالفاتها، خصوصاً مع شخصيات مسيحية تقليدية لم تُخفِ استياءها من أداء التيار، منذ انتخابات 2009 وما تلاها. وتعتبر القوات أن التيار أخلف التزاماته في اتفاق معراب، وأن تجربته مع حليفه حزب الله تؤكد صعوبة الشراكة معه، لا سيما بعد الانقسامات التي شهدها والتي أطاحت بعدد من رموزه. من هنا، كان هدف القوات في هذه الانتخابات إضعاف التيار ومنعه من استخدام الأرقام لإثبات حضور مسيحي وازن في المنطقة.

في المقابل، ركّز حزب الكتائب اللبنانية على تأكيد حضوره السياسي وثوابته الوطنية، ونجح في تثبيت نفسه ضمن قواعده الشعبية ومواقع السلطة المحلية، ولو من دون إنجازات عددية ضخمة. ما يعتبر مؤشراً على نضج سياسي وخبرة تنظيمية عريقة، مدعومة بنخبة من القيادات التي حافظت على مكانتها ضمن النخبة المسيحية.

أما التيار الوطني الحر، فقد خاض معركة اتسمت بالتوتر والضغط الشعبي، انعكاساً لتراجعه الواضح في قضاءين يشكلان رمزاً للتمثيل الماروني. ومع اقتصار تمثيله النيابي في جبيل وكسروان على النائبة ندى البستاني، بعد غياب سيمون أبي رميا، بدا جلياً أن التيار يواجه مرحلة انحسار. فالتيار، الذي امتلك سابقاً ثمانية نواب في المنطقة، بات اليوم ممثلاً بنائب واحد، وخسر بلديتي جونية وجبيل.

في هذا السياق، برز دور “مشروع وطن الإنسان” بقيادة النائب نعمة إفرام، الذي دخل الساحة البلدية من بوابة التحالف، مدفوعاً بالتحديات الانتخابية وتطورات الساحة. إفرام، الذي يتمتع برصيد شعبي كبير وامتداد تاريخي من خلال والده الوزير الراحل جورج إفرام، كان متردداً في خوض المواجهة المباشرة، مفضلاً المبادرة الشعبية. لكنه، بعد لقاء جمعه برئيس القوات اللبنانية وتقدم التحالف مع منصور البون، قرر خوض الانتخابات ضمن إطار مرن، فتح الباب أمام شخصيات عدة بينها النائب فريد الخازن، دون إقصاء أي طرف.

من جهة أخرى، وجدت شخصيات سياسية وعائلية نفسها أمام ضغوط وتوجهات دفعتها إلى خيارات ربما لم تكن مفضلة، لكنها تحولت مع الوقت إلى مخرج سياسي وفرصة لإعادة التموضع استعداداً للاستحقاقات المقبلة، وعلى رأسها الانتخابات النيابية.

أما في ما يتعلق بالثنائي الوطني، فقد شهدت المنطقة تحولات منذ عام 2020 مع تعيين الشيخ محمد عمرو مسؤولاً عن منطقة جبل لبنان والشمال في حزب الله. وهو ابن بلدة المعيصرة الكسروانية، المعروفة بعمقها المسيحي وتاريخها المشترك، وقد نجح خلال فترة قصيرة في ترميم آثار الانتخابات النيابية السابقة وفتح قنوات انفتاح مع مكونات المنطقة، بما فيها الكنيسة. انتخاب النائب رائد برّو لم يثر ضجة، بل اعتُبر تعبيراً طبيعياً عن إرادة ناخبي الطائفة الشيعية.

وقد ازدادت وتيرة الانفتاح خلال الحرب الأخيرة، إذ شكّلت جبيل وكسروان ملاذاً آمناً للنازحين الشيعة، وعكس الموقف المسيحي من هذه الأزمة مدى التفاهم والاحترام المتبادل، خاصة لما يعرف عن الشيخ عمرو من خلفية دينية وثقافية معتدلة. هذا الجو الإيجابي تُرجم إلى تقارب بين الرعايا والمراجع الدينية، وامتدت أصداؤه إلى الفاتيكان.

وفي هذا المناخ الهادئ، جرت الانتخابات البلدية الأخيرة، كأنها تعود بلبنان إلى ما قبل 1975. إذ غابت الاصطفافات الطائفية الحادة، حتى في المناطق المختلطة، وحضر الخطاب العائلي والمناطقي. ويمكن اعتبار هذا النموذج الانتخابي من بين الأرقى، من حيث الشكل والمضمون، في تاريخ الاستحقاقات المحلية.

جبيل وكسروان، بكامل مكوناتها، قدّمتا نموذجاً رصيناً في العمل الديمقراطي، وجددتا التأكيد على أن لبنان، مهما عصفت به الأزمات، لا يزال قادراً على تصدير رسالة إنسانية ووطنية. هذه المنطقة التي تحتضن بكركي ومار شربل، أثبتت مرة أخرى أنها قادرة على قيادة مسار التلاقي الوطني، وأن ما تحقق فيها يمكن أن يكون بداية لمسار تعافٍ شامل على مستوى الوطن.

ناجي أمهز، كاتب وباحث سياسي لبناني

كاتب وباحث سياسي لبناني، له عشرات المقالات التي حققت شهرة عالمية تنشر أعماله بأكثر من ٥٠ موقع ومنها عرب تايمز التي تصدر بأمريكا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى