أشرف مروان اللُغز المحير.. أسئلة حاضرة واجابات مفقودة؟! (2) | كتب مجدي منصور
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
الكاتب السياسي مجدي منصور يفتح من جديد ملف اللغز أشرف مروان
لقد كنت أريدُ أن أبتعد عن نشر تلك السلسلة في شهر أكتوبر لأن ذلك الشهر أصبح يُشبه طريقاً مليئاً بالضجيج والصخب العالي مما يُحدثه هدير محركات السيارات السائرة مختلطة بالأغاني المنطلقة من تلك السيارات مع صرخات المارة على الأرصفة !
وقد كنت أريد أن أمشى وأسير بموضوعي في طريق هادئ بعيداً عن الصخب و الضجيج وأصوات محركات السيارات وصرخات المارة الذى يحدثه الإعلام في ذلك الشهر.
ولأننا في عالمنا العربي حديثي عهد بالدخول في «الصراعات» ، فنجد أنفسنا لا نعرف كيفية التعامل مع «الصراع» و «الحروب» أحد أوجهه ، وما ينتج عنها من أثار كالهزائم والانتصارات. ولعل ذلك يعود لأن الأمة بأسرها قد سلمت الدفاع عن نفسها للمماليك ، ومن ورائهم العثمانيين ، وكانت أول تجربة بالدم والنار في صراع حقيقي لها في حرب عام 1948.
وضمن جولات الصراع بدأت الأمة تحاول الفهم والدرس ، وترصد المتغيرات حولها ، تخطوا إلى الأمام خُطوة وتتراجع للخلف خُطوتين ، حتى جاءت حرب أكتوبر وما تلاها من أحداث سياسية أضاعت النصر العسكري الذى كان بين يديها (أو هكذا أظن).
فأصبح التراجع بعدها خطوات وخطوات.
ودارت العجلة من يومها إلى اليوم دورةً كاملةً ، فرأينا غالبية العرب اليوم يهرولون ليطبعون ، ويُقبلون فرحين سُعداء والابتسامة على وجههم والضحكات ملأ أشداقهم ، فاتحين ذراعيهم ليعانقوا عدو الأمس و صديق اليوم وحبيب الغد وحليف بعد الغد (إسرائيل)!
أما «الحروب» لدى العرب هي قصائد حماسية وأغاني وطنية
و«الهزائم» لدينا نحنُ العرب هي قصائد رثاء ولعن الظروف وتحميل المسئولية للمؤامرة الخارجية.
و«الانتصارات» معنا تعنى قصائد فخرٍ لا تنتهى و لا تخلوا من الحماسة وأغاني انتشاء لا تخلوا من المبالغة.
والانتصار في حالتنا مثلاً هو تعظيم الحاكم وتأليهه.
فنصر أكتوبر هو الرئيس المؤمن “محمد أنور السادات” ، وتغير ليصبح سلاح الطيران وقائده يومها الرئيس فيما بعد “محمد حسنى مبارك” (عِلماً بأن سلاح الطيران كان أقل الأسلحة دوراً في الحرب).
كما أن الاحتفال يصبح مناسبة «للتشويه» و«تصفية الحسابات» .
فمثلاً منذ عام 1974 تم محو أي ذكر لاسم الفريق سعد الدين الشاذلي (رئيس أركان حرب الجيش المصري في حرب أكتوبر) رغم أن خُطة الحرب النهائية عليها توقيعه هو والمشير أحمد اسماعيل (وزير الدفاع وقتها) ، ولم يعُد الحديث عن الرجل ودوره وعمله وفضله إلا بعد ثورة يناير2011 .
وأما المعاني المترتبة على الصراع من «نصر» و«هزيمة» لدى الطرف الآخر (الإسرائيلي) تعنى درس التجربة دراسةً موضوعيةً وافيةً ، والوقوف على الايجابيات والسلبيات وتحديد والأخطاء والمسئوليات لتلافيها في الجولة القادمة من الصراع.
وهكذا من لجنة «أجرنات» (لدراسة وتحديد الأخطاء في حرب أكتوبر 73) وحتى لجنة «فينوجراد» (لدراسة وتحديد الأخطاء في حرب لبنان مع حزب الله 2006.(
وأما في الاحتفال بالانتصارات لدى الشعوب التي تفهم وتعي معنى «الصراع» ، لا يكون الاحتفاء بشخص حاكم مهماً علت قيمته وتعاظم دوره ولا تشويه إنسان مهماً قل شأنه ، بل يكون تعظيماً وتبجيلاً لجوهر أي دولة وهو «المواطن» ، إن المواطن العادي البسيط هو(عند الدول التي تفهم معنى الصراع) نجم أي انتصار.
«المواطن» هو «البطل» ، وليس القائد أو الزعيم أو الرئيس أو حتى الجنرال.
ففي فرنسا مثلاً، يتم الاحتفاء بكل من شاركوا في تحرير فرنسا من سيطرة النازي ، بل ويتم تكريم كل من شارك في ذلك العمل من «اللصوص» وحتى «فتيات الليل» (البغايا) قبل ذكر أسماء من وزن وعينة الجنرال “شارل ديجول” والمثقف الحالم “أندرية ما لرو”.
أي أن الكتابة عن هذا الموضوع ليست كتابة عن الماضي التاريخي كما يتصور البعض ، بل هي كتابة في جوهر الحاضر السياسي الآني ، كما أزعُم و أتصور.
يتبقى أن أقول أننى أحاول بذلك العمل تنشيط الذاكرة علنا نعرف من نحن ، وكيف كنا و في أي طريق مشينا و إلى أين أصبحنا؟
(1)
شهادة «هيكل» الصحافة والسياسة في اللغز أشرف مروان
في عام 2012 نشر الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل فصول من كتابه (مبارك وزمانه من المنصة إلى الميدان) عن عصر الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك ، وضمنها فصل بعنوان: مسألة أشرف مروان!.
إن أهمية شهادة هيكل من وجهة نظري تنبع من الأسباب التالية:
الأول– أن هيكل لم يكن في حالة عداء شخصي لأشرف مروان ، لا في حياة الزعيم جمال عبدالناصر(كما السيد سامى شرف) ، ولا في عهد الرئيس السادات (كما عثمان أحمد عثمان).
الثاني – إن هيكل وقف في نفس المعسكر (معسكر السادات) الذى وقف فيه مروان حينما احتدت الآراء واشتد الاختلاف ، وتصادمت التوجهات ، وأصبح الصدام هو الملجأ الأخير، ولعل هيكل كان الأسرع وقوفاً والأكثر حظوة والأرفع مكانة في ذلك المعسكر ، وكان هيكل أحد أكبر مؤيدي السادات في صراعه مع ما سُمى وقتها بمراكز القوىَ.
بل إن هناك قطاعاً كبيراً من الناصريين يتهمون هيكل بأنه كان مهندس الانقلاب الذى قاده السادات ضد رجال عبدالناصر في (15 مايو 1971) ويحملونه مسئولية ذلك ، أي أن شهادة هيكل ليست صادرة عن عداء شخصي لمروان أو لتصفية حسابات أيدولوجية لم تنقضي بعد بين معسكر عبدالناصر ومعسكر السادات.
الثالث – أن هيكل فيما دونه من شهادة وكعادته اعتمد على معلومات ووثائق ذكر مصدرها وأفصح عن هويتها.
(1)
مبارك ومروان .. علاقة تحوطها أسئلة؟
يتحدث هيكل أنه في أواخر السبعينيات ، زادت العلاقة بين مبارك وأشرف مروان توطداً، خاصة عندما أصبح مروان ضمن المسئولين عن مشتريات السلاح، فيروى هيكل قائلاً:
وفى تلك السنوات على طول السبعينيات توثقت العلاقة بين الرجلين «حسنى مبارك» و«أشرف مروان» وزادت قرباً عندما أصبح «أشرف مروان» ضمن المسئولين عن مشتريات السلاح بعد اعتماد سياسة تنويع مصادره ، ويلاحظ حتى من قبل ذلك أن الرجلين معا كانا قريبين بحكم الاختصاص من صفقة «الميراج» الليبية مع فرنسا (1970 -1974(.
فقد كان «مبارك» باعتباره قائداً للطيران هو الرجل المسئول عما يجئ لمصر من تلك الصفقة ، ثم إن عقد الصفقة قام به أساساً ضباط من سلاحه، قصدوا إلى باريس بجوازات سفر ليبية، (لكن الفرنسيين كانوا يعرفون الحقيقة)، وفى نفس الوقت فإن «أشرف مروان» وبمسئوليته في ذلك الوقت عن العلاقات مع ليبيا لم يكن بعيداً عن التفاصيل.
وبعد اختيار «مبارك» لمنصب نائب الرئيس سنة 1975، كانت أول مهمة كُلِّف بها أن يقوم بزيارة رسمية «لباريس» في يونيه من تلك السنة 1975، (أي بعد شهر واحد من توليه منصبه) ، والهدف منها الاتفاق على شراء وتصنيع صواريخ فرنسية في مصر.
وكان «أشرف مروان» مصاحباً لـ«مبارك» في تلك الزيارة (ولم يكن قد تولَّى بعد مسئولية هيئة التصنيع الحربى، ولكن دوره في قضايا التسليح كان يزداد ظهوراً (والتفاصيل حول هذه الصفقة منشورة في المجلة المعتمدة لشئون الطيران في العالم AVIATION WEEKLY) عدد 14 يوليو1975).
ويُكمل الأستاذ فيقول:
وكرَّت السنين إلى أوائل الألفية الجديدة!!
ومع حلول سنة 2000 و«أشرف مروان» مقيم في لندن ، بدأت الأخبار تتسرب من إسرائيل تُلمح إلى أنه كان «عميل إسرائيل» الذى أخطر «الموساد» بتوقيت نشوب الحرب في أكتوبر سنة 1973، وبين المعلومات أن الهجوم سوف يكون على الجبهتين المصرية والسورية في نفس الوقت وظلت التسريبات من إسرائيل تظهر وتختفى، لكنها ليست غائبة عن الاهتمام العام لعدة سنوات.
لقاء «مبارك» و«مروان» في ضريح «عبدالناصر»!!
ثم حدث في ذكرى 6 أكتوبر (سنة 2005) ، وهى مناسبة يقوم فيها رئيس الدولة عادة «السادات» أو «مبارك» بعده بزيارة ضريح «جمال عبدالناصر»، وفوجئ الرئيس «مبارك» على ما يبدو بأن «أشرف مروان» يتصدر مستقبليه على باب الضريح، وعند خروجه كان «أشرف مروان» الأقرب إليه بين مودعيه.
ولاحظ بعض المحيطين بهما أن الرجلين تبادلا همسات لم تستغرق غير ثوان، وانصرف «مبارك»، لكن بعض من كانوا بالقُرب منهما في البهو من «الضريح» إلى سيارة «مبارك» التقطوا أو كذلك تصوَّروا من الهمس ما سمح لهم أن يفهموا أن «مبارك» يلوم «أشرف» أنه تعمَّد اليوم أن يظهر ملتصقا به طول وقت الزيارة، ثم إن «مبارك» ينصحه بالسفر فورا، «لأن الناس كلامها كثير»!!
وبالفعل فإن «أشرف مروان» عاد إلى «لندن» مع أول طائرة صباح اليوم التالي.
(2)
تفاصيل الخلاف بين «تسفى زامير» مدير المخابرات العامة (الموساد) و «إيلى زعيرا » مدير المخابرات الحربية (أمان)
كانت التسريبات التي خرجت من لجنة الأمن والدفاع في «الكنيست»، ومن مجالس عسكرية سرية خاصة تشكلت للتحقيق فيها شديدة الحساسية والخطورة ، وهى باختصار أثر من آثار الصدمة التي واجهتها إسرائيل في الأيام العشرة الأولى من حرب أكتوبر 1973 فقد حدث وقتها أن إسرائيل شكَّلت لجنة تحقيق خاصة رأسها القاضي «أجرنات» لكى تبحث أسباب ما وقع وتحدد المسئولية عنه.
وكانت النقطة المركزية في التحقيق هي: هل فوجئت إسرائيل أو لم تفاجأ؟! وهل عرفت أو أنها لم تعرف؟! وإذا كانت قد
عرفت من مصدر سرى، وقد عرفت فعلاً، فلماذا تأخرت في الاستعداد ساعات حاسمة؟! ولماذا؟! ومن يتحمل الوِزْر؟!!
وكانت لجنة التحقيق الخاصة (وهى مُشكَّلة بقرار من رئيسة الوزراء «جولدا مائير» ، وبطلب وضغط من الرأي العام) قد توصلت إلى نتائج أعلنت ملخصا مقتضبا جرى إعلانه مع إجراءات عقابية طالت عددا من المسئولين، وبين ما اتخذ من إجراءات ، توجيه لوم إلى وزير الدفاع «موشى ديان» ، وإزاحة رئيس أركان الجيش الإسرائيلي الجنرال «دافيد بن أليعازر» من منصبه، وإحالة الجنرال «إيلي زعيرا» (مدير المخابرات العسكرية) إلى التقاعد.
ومع أن تحقيقات القضية وتفاصيلها بقيت في حيز الأسرار المكتومة ، إلا أنه وكالعادة في إسرائيل وفى بلدان كثيرة غيرها فإن لجنة «أجرنات» لم تستطع تكميم كل الأفواه ، ولا حبس كل الأوراق ، ولا وقف كل التداعيات ، والسبب الرئيسي أن الخلاف ظل محتدماً بين اثنين من الجنرالات الإسرائيليين الكبار أثناء حرب أكتوبر 1973.
الجنرال «تسفى زامير» (رئيس الموساد أي المخابرات العامة الإسرائيلية)
والجنرال «إيلي زعيرا» (رئيس أمان أي المخابرات العسكرية الإسرائيلية).
ومؤدى الخلاف بين الاثنين:
أن رئيس الموساد «زامير» يُصر على أنه أبلغ عن خطط ومواقيت وصلت إليه من مصدر مصري موثوق عن هجوم مصري سوري.
لكن رئيس المخابرات العسكرية الجنرال « زعيرا» في المقابل يصر على التشكيك في مصدر المعلومات الذى أبلغ الموساد (لم ينف وجود المصدر المصري ولم ينف دوره في الإبلاغ مسبقا، ولكنه قدَّر أن يكون عميلاً مدسوساً على إسرائيل ، أو عميلاً مزدوجاً، وشاهده الرئيسي أن ذلك المصدر المصري أبلغ إسرائيل بالساعة الخطأ في موعد الهجوم ، أي أن إبلاغه عن موعد الهجوم في السادسة مساءً، بينما وقع الهجوم فعلا في الثانية بعد ظهر السبت 6 أكتوبر).
وكذلك تعطَّل قرار إعلان التعبئة العامة في إسرائيل، ووقع تقصير في الاستعداد، وكانت كلمة «التقصير» بالتحديد هي عنوان تقرير لجنة «أجرنات».
وتحول الخلاف بين الرجلين إلى خلاف بين الجهازين: «الموساد» و «أمان» ، وشكَّل ذلك نوعاً من الشرخ داخل أجهزة المؤسسة العسكرية الإسرائيلية لم يعد في الإمكان تجاهله ، وكذلك جاء تشكيل اللجنة الأمنية العليا بين الرجلين: «زامير» و «زعيرا» ، وتوفق بين الجهازين:
«الموساد» و«أمان» برئاسة النائب العام «مناحم مازوز»، ومعه عدداً من قيادات الجيش ومن خبراء الأمن ، واطلعت اللجنة على جميع الوثائق، بما فيها محاضر تحقيقات لجنة «أجرنات» ، واستمعت إلى كل الشهادات، وبالطبع فإن الاسم الحقيقي للعميل المصري الذى حصل «الموساد» بواسطته على سر الحرب وموعدها جرى تداوله.
ثم توصلت اللجنة إلى قرارات لم تُعلن، لكنه كالعادة مرة أخرى بدأت عمليات التسريب ، وضمن ما تسرب أوصاف لهذا العميل المصري توصل بها أحد الباحثين إلى اسمه ، وكذلك ظهر اسم الدكتور «أشرف مروان» بلا لبس أو غموض ، وأخذت القضية منحىً جديداً لأن إذاعة الاسم أحدثت رجة وضجة داخل إسرائيل أولا!!
وكانت الضجة تتركز على المسئولية عن كشف السر، لأن فيها إضرار «بصديق لإسرائيل» ، وفيها عملية «فضح» سوف تجعل آخرين يترددون، طالما أن ما يفعلونه في السر يمكن أن يظهر في العلن!!
وكان مدير الموساد الجنرال «زامير» في حالة هستيرية، يخشى أن كشف المستور سوف يلحق ضررا كبيرا بقدرة إسرائيل على تجنيد عملاء لهم قيمة!!
وفى الوقت نفسه ، فإن الجنرال «زعيرا» كان يرد باعتقاده أن العميل الذى أبلغ إسرائيل كان عميلاً مزدوجاً لمصر أيضاً، ولذلك فقد كان في حِل من الإشارة إلى اسمه!!
ووصل الصراع في حدته وعنفه إلى درجة أصبح معها مسألة حياة أو موت!! ومنذ اللحظة الأولى فإن القضية لأسباب عديدة أثارت اهتمامي!
ووقتها ومنذ بدأت التحقيقات كان الدكتور «عزمي بشارة» السياسي الفلسطيني المعروف ، وهو من أقطاب «عرب الداخل» ، لا يزال عضواً في الكنيست ، وأرسلت إليه عن طريق صديق فلسطيني مشترك أسأله إذا كان في مقدوره أن يبعث إلى بما يمكن أن يتوصل إليه من ملفات «الكنيست» فيما يخص الموضوع. وتفضَّل الرجل واستجاب.
ومع أن معظم ما كان يدور حول القضية ، كان يجرى في لجنة الأمن والدفاع في «الكنيست» (وهذه لا يشترك فيها الأعضاء العرب) إلا أن وجود الدكتور «عزمي» عضوا في المجلس ، كان يعطيه بلا شك إمكانية وصول تتعدى إمكانيات غيره من «عرب الداخل».
والحقيقة أن الدكتور «عزمي بشارة» وصديقين غيره من عرب الداخل (لا يجوز البوح باسمهما ، لأنهما ما زالا في الداخل) استجابا إلى ما طلبت وأكثر، وأضاف الجميع لما أرسلوا من الأوراق الأصلية ، وهى باللغة العبرية ، ترجمات لها بالعربية أو بالإنجليزية.
ولم أكن بأمانة مستعداً لتصديق ما قرأت ، لكنى وبأمانة أيضا لم أكن قادرا على تجاهله!!
فالقضية لم تعد تلميحات أو تسريبات تظهر في صحف ، أو تُنشر في كتب، وإنما القضية أكبر، وإلحاح الوقائع والتفاصيل فيها لا يمكن مقابلته بالصمت في مصر، وما دار حولها في إسرائيل ليس تكهنات صحف ولا شائعات تتناقلها الروايات ، وإنما في القضية اثنان من أشهر جنرالات إسرائيل وهناك قضاة من المحكمة العليا، وهناك نائب عام إسرائيلي، وهناك جلسات سرية للجنة الأمن والدفاع في «الكنيست» ، وهناك ملفات ووثائق ، وبعض ما وصل إلىَ من ذلك كله أثار لدىَّ كثيراً جداً من القلق!!
فلقد لمحت من بين الوثائق والملفات مثلا صور لمحاضر اجتماعات بين «أنور السادات» ونظيره السوفييتي «ليونيد بريچنيف» أثناء زيارته السرية لموسكو في مارس سنة 1971، ومع أنى لم أحضر تلك المحادثات، فإن الرئيس «السادات» بعث إلى كالعادة وقتها بالمحاضر الرسمية لها كما كتبها السفير «مراد غالب».
والآن أمامي ضمن الملفات السرية من داخل «الكنيست» صورة هذا المحضر نسخة من الأصل ثم إن هناك صورا!! لعشرات الوثائق ، وكلها صور من الأصل وليس مجرد معلومات تستند إليه (كأن رئاسة المخابرات الإسرائيلية تقرأ «على راحتها» أوراق الرئاسة المصرية)!!
ولم أكن في بعض اللحظات قادراً على تصديق ما أراه أمامي.
تعليق:
لعل من المضحك المبكى وما يؤكد كلام الأستاذ هيكل ما جاء في شهادة الجنرال زعيرا(مدير المخابرات العسكرية الإسرائيلية أمان) أمام لجنة أجرنات والتي اطلعت عليها ، حيث قال بجلسة التحقيق بتاريخ 9/12/1973:
« إنني أريد أن أعطيكم (يقصد للجنة التحقيق) مثالاً عن حجم المادة التي تردنا (يقصد المخابرات العسكرية (أمان) وحدها) ، ونقوم بتحليلها ، لدينا شعبة نسميها الشعبة السادسة وهى مسئولة عن مصر. هذه الشعبة تلقت لمدة عام أكثر من (ربع مليون معلومة) أو تقرير ، إن (مصر) مثلاً يصل عنها يوميا لنا ما متوسطه أكثر من (ألف معلومة) أي في الشهر ثلاثين الف معلومة أي في السنة 360 الف معلومة ، ونفس الشيء ويزيد عن سوريا».
ولا يصمت زعيرا عند ذلك ، بل يُضيف إلى المأساة العربية كارثة ، عندما يذكر للجنة التحقيق أنهم لا يمتلكون معلومات فقط بل و«وثائق» أيضاً!! ، فيقول:
«لقد وُزعَت في المنظومة الاستخباراتية لدينا فقط في شهر سبتمبر 1973 (24806) وثيقة ما بين سياسية وعسكرية واقتصادية».
ولا يكتفى زعيرا أثناء دفاعه عن نفسه أمام لجنة التحقيق بذلك بل يُضيف ما هو أقصى وأقصى ، حينما يشتكى الجنرال للجنة التحقيق من طوفان المعلومات الذى يصله عن الجانب العربي!! ، فيقول:
«إننا نبحث كل السبل ، الحاسبات وما شابه. لقد زرت أجهزة المخابرات الأجنبية ولم أجد حلاً. قال لي رؤساء المخابرات الفرنسية والأمريكية والانجليزية (أننا نعانى من مشكلة ثراء المعلومات) ، وأنه من (الأفضل أن تكون المشكلة مشكلة ثراء عن أن تكون مشكلة فقر) ، من الأفضل أن يكون لدى جهاز الأمن فائض في المادة عن أن يكون هناك نقص في المادة».(انتهى التعليق).
(3)
كيف يرى هيكل قضية مروان وكيف يتم التعامل معا؟
عودة لشهادة هيكل:
ثم يتحدث هيكل عن رأيه الشخصي في قضية الدكتور أشرف مروان ، خاصة عندما سأله أحد أصدقاء مبارك عن رأيه في هذه المسألة ، فيقول:
وفى تلك الفترة سألني أحد أصدقاء «مبارك» المقربين ، (وهو بالمصادفة قريب منى بالسكن) عن رأيي في هذه القصة والضجة المُثارة حولها ، وقلت له رأيي وأضفت أنه يستطيع إذا وجد رأيي مناسبا أن ينقله إلى الرئيس، وهو في حِلْ من ذكر اسمى.
وكان ملخص رأيي:
«أن كرامة البلد وسمعة «أشرف مروان» نفسه تتطلب تحقيقاً رسمياً مصرياً في الموضوع، بواسطة هيئة رفيعة المستوى، تضم عناصر قضائية وبرلمانية على أن تمثل فيها المخابرات العسكرية والمخابرات العامة في مصر، وظني أنه بدون ذلك لا تستقيم الأمور».
وقلت لصديق «مبارك» أيضا أن الموضوع شائك وهو كذلك معقد، لأن من أبلغ إسرائيل بصرف النظر عن شخصيته بموعد الهجوم على أنه الساعة السادسة مساءً لم يقصد تضليلها، لأن هذا الموعد كان هو ساعة الصفر المقررة فعلا في الخطة حتى يوم الثلاثاء 2 أكتوبر، ثم وقع خلاف بين الفريق «أحمد إسماعيل» (وزير الدفاع المصري)، وبين اللواء «يوسف شكور» (قائد الجيش السوري(.
وموضوع الخلاف أن القيادة المصرية كانت تفضل بدء العمليات في الساعة السادسة مساء مع آخر ضوء، لكى تستفيد من مجيء الليل يحمى عمليات المهندسين في بناء الجسور.
وأما القيادة السورية فقد كانت تفضل الساعة السادسة صباحاً مع أول ضوء، لكى تستعين بأشعة الشمس في مواجهة الدبابات الإسرائيلية على هضبة «الجولان».
وقد استحكم الخلاف بين القيادتين المصرية والسورية ، وسافر الفريق «أحمد إسماعيل» إلى «دمشق» سراً صباح يوم الثلاثاء 2 أكتوبر لتسوية مباشرة مع القيادة السورية، ولم يتوصل الطرفان إلى حل ، وتدخَّل الرئيس «حافظ الأسد» وتوصَّل مع القائدين «أحمد إسماعيل» و«يوسف شكور» إلى حل وسط ، وهو اختيار الساعة الثانية بعد الظهر موعدا للهجوم.
والحل الوسط على هذا النحو يعطى القيادة المصرية ست ساعات عمل قبل الظلام الذى تريده لحماية بناء الجسور، كما أنه يعطى القيادة السورية ست ساعات من ضوء الشمس تنجز فيه اندفاعها الرئيسي على الهضبة، والشمس وراءها وفى مواجهة مدرعات الجيش الإسرائيلي.
والمسألة الحساسة أن الدكتور «أشرف مروان» سافر من مصر إلى «ليبيا» عن طريق أوروبا يوم 2 أكتوبر، لكى يخطر «القذافي» بأن المعركة حلت، وساعة الصفر المقررة لها والموعد المعتمد لبدء العمليات هو السادسة مساء ، أي أن الدكتور «أشرف مروان» لم يكن في مصر عندما تغيرت ساعة الصفر من السادسة مساءً إلى الثانية بعد الظهر.
وهذه مسألة قد تثير التباسات لابد من جلائها، وإلا وقعت الإساءة إلى «أشرف مروان»، وهذا ظلم له إلا إذا ثبت شيء آخر!!
(4)
هيكل يتحدث عن صكوك الغفران الرئاسية!
وبعد أن لقى «أشرف مروان» ذلك المصير المأساوي الذى انتهت به حياته بالسقوط من شرفة شقته في الدور الرابع على الأرض في ساحة «كارلتون تيراس» وبرغم أية أحزان شخصية وإنسانية فقد كان يقيني أن المشكلة لا يمكن ولا يصح أن تنتهى إلا بتحقيق شامل.
لكن الذى حدث أن الرئيس «مبارك» في جو مزدحم بالتقارير الواردة من إسرائيل وبالأخبار والشائعات أصدر من جانبه إعلانا قرر فيه براءة «أشرف مروان»!!
وفى لقاء آخر مع «صديق مبارك»، قلت له:
«إنني شخصيا شديد الانزعاج من اتهام «أشرف مروان» ، وشديد الحزن للمأساة التي انتهت بها حياته، لكن المسألة برمتها، ولكرامة البلد، ولسمعة الرجل، ولطمأنينة أسرته، تقتضى تصرفا مختلفا، أوله تحقيق كامل في القضية».
وربما تماديت حين قلت له:
«إن الرئيس «مبارك» قلد بابوات روما على عهد البابا «أوربان الثاني» وأصدر صك براءة ، ومع تقديري لشهادة الرئيس ولشهادات كل بابوات الفاتيكان فإن رئيس مصر لا يملك هذا الحق ، وسوف تُعتبر القضية معلقة في السياسة وفى التاريخ ، ولا يضع نهاية لها إلا تحقيق شامل ودقيق»!!.
وكان حرصي شديداً على براءة «أشرف مروان»، مع تأكيدي بأن نتائج التحقيق وحدها هي صك البراءة الضروري الذى يزيحها إلى النسيان!!
وقلت أيضاً: «إن «مبارك» يتصرف بما لا يملك عندما يستعمل سلطته للفصل في القضية» ، وإذا كان في استطاعته من موقع الرئاسة أن يغلق الباب هذه اللحظة بقوة السلطة ، فإن التاريخ له أبواب كثيرة إلى قرار الحقيقة أيا كان موقعه، مع الرجل أو عليه، رغم أننى واحد من الذين يدعون الله لأكثر من سبب أن تكون الحقيقة لصالح «أشرف مروان»!!
فالرجل إنسان ودود إلى آخر الحدود، ثم هو إداري تنفيذي أثبت كفاءة مشهودة أثناء إدارته لمكتب الرئيس «السادات» للمعلومات، ثم هو رجل أؤتمن على خزانة أسرار مكتظة بما فيها، ولقد قام في حياته بأدوار حساسة متعددة: مديرا لمكتب الرئيس للمعلومات، ورئيسا للهيئة العربية للتصنيع العسكري، وهو أيضا رجل يملك شبكة علاقات إنسانية وسياسية وعسكرية ومالية شديدة الاتساع، وكل ذلك يفرض أن تكون السجلات واضحة احتراماً للمعنى العام، وإنصافاً للمعنى الإنساني الخاص.
(5)
لقاء هيكل ومروان ..«هو لا يستطيع وأنا أستطيع تدميره»!!
ويكمل هيكل قائلاً:
تظل في مسألة «أشرف مروان» واقعة أكتبها بحق التاريخ وحده، وهى واقعة جرت في لندن في شهر سبتمبر 2006.
في الصباح الباكر من أحد الأيام في ذلك الشهر، وكنت في العاصمة البريطانية ، اتصل بي الصديق والمفكر العربي الدكتور «كلوفيس مقصود» يقول لي «إن السفير اللبناني في لندن «جهاد مرتضى» دعاه اليوم على الغداء ، واللقاء مع عدد من الدبلوماسيين العرب ، وقد عرف السفير «مرتضى» منه (الدكتور «كلوفيس مقصود») أننى في لندن ، وهو يرجو أن يدعوني إلى الغداء إذا لم يكن لدى ارتباط آخر.
وأضاف «كلوفيس مقصود» أنه يتمنى لو قبلت دعوة السفير اللبناني ويومها كان لدىَّ على الغداء موعدا أستطيع أن أتصرف فيه، وهكذا نزلت على ما طلب «كلوفيس»، واتصل بي بعد دقائق السفير «جهاد مرتضى»، يوجِّه لي الدعوة رسميا.
وعندما دخلت إلى بيت السفير اللبناني في حدائق «كينسجتون»، كان السفير «جهاد مرتضى» ومعه ضيفه الدكتور «كلوفيس مقصود» في انتظاري ، ودخلنا مباشرة إلى قاعة الطعام، وهناك وجدت ستة من السفراء العرب بينهم السفير المصري في لندن وهو السفير «جهاد ماضي»، ووسط جمع السفراء العرب وجدت «أشرف مروان» واقفاً وفاتحاً يديه مرحبا، وقلت همساً: «أشرف».. لدينا كلام كثير»!!.
وكان الغداء «دبلوماسياً عربياً» في كل تفاصيله، واستغرق أكثر قليلا من ساعة ، ثم استأذنت من الجميع: «بأنني سأترك لهم الدكتور «كلوفيس مقصود» يتحدث معهم فيما يريدون ، وقام معي السفير اللبناني يودعني إلى باب سفارته ، ولمحت «أشرف مروان» يسير وراءنا ، وعلى باب السفارة اللبنانية في لندن وقفنا، وقد جاءت سيارتي ولحقتها سيارته، وسألني «أشرف» إذا كان يستطيع أن يجئ معي، وقلت له بصراحة:
«أنه لا أنا ولا هو يستطيع أن يتصرف كما لو أنه لم يحدث شيء، فقد حدث شيء، وشيء كبير لا أستطيع أن أتجاهله معك، ولا تستطيع أن تتجاهله معي».
وقال مبتسما: «أعرف».
وسألته والسفير اللبناني «جهاد مرتضى» لا يزال واقفا معنا يتابع حوارنا:
إلى أين نذهب؟! بصراحة فأنا لا أريد اليوم أن أذهب إلى بيتك، ولا إلى فندق «الكلاريدچ» وإذن..
وقاطعني يقترح أن نذهب إلى فندق «الدورشستر».
وطلبت من سائق سيارتي أن يذهب إلى فندق «الدورشستر».
ولدقيقة ساد في السيارة صمت ، قطعه بأن قال:
«لم نلتق منذ سنة ونصف، مرات عرفت أنك في لندن وترددت في الاتصال بك ، وحين غالبت ترددي مرة سألت وإذا بك سافرت، لكن هذه المرة عندما عرفت من «جهاد» نك قبلت دعوته على الغداء، طلبت منه أن يدعوني».
وقلت: «أنت لم تأت إلى القاهرة طوال هذه السنة والنصف، ولا أعرف إذا كنت ممنوعاً من المجيء لها بطلب من الرئيس «مبارك» الذى نصحك بالسفر منها أثناء لقاءك معه في ضريح الرئيس «عبدالناصر»!!
وفوجئت بردة فعل «أشرف مروان» وبانفعاله في الرد، فقد قال:
«هو لم يطلب منى أن أسافر كما يشيعون في القاهرة ، وهو لا يستطيع أن يمنعني».
وحين سألت:
ولماذا لا يستطيع؟! ألا يملك سلطة…
ولم ينتظر أن أكمل كلامي، بل قال بحدة:
«هو لا يملك أي سلطة ، وهو لا يستطيع».
وبدوري قاطعته قائلا:
«أشرف».. أليس هذا كلاما كبيرا؟!!
وكان رده هو موضع المفاجأة الحقيقية:
«هو لا يستطيع.. أقولها لك ، أننى أستطيع تدميره».
والتفت إليه أدقق في ملامح وجهه، وكرر العبارة بالإنجليزية تلك المرة قائلا:
(I CAN DESTROY HIM) ، زاد قائلا: «أستطيع تدميره وتدمير غيره معه وذكر اسم اللواء عمر سليمان».
قالها وكررها وهو يمد سبابته إلى الأمام في تأكيد إضافي!!
وقلت: إنني أفضل أن نكمل حديثنا في «الدورشستر».
وعندما دخلنا إلى الفندق، قصدنا مائدة على الطرف، ولم نكد نجلس حتى سألته مباشرة: إنه لا داعى ليضيع وقته، فهو يعرف ما أريد أن أسأل فيه، وأنتظر الإجابة عنه!!
وسألني «أشرف»:
هل تصدق أننى «جاسوس»؟!!
وقلت: «إن هذا سؤال في غير محله ، على الأقل ما نحن بصدده ليس مسألة تقييم شخصي ، وإنما مسألة وقائع مذكورة في وثائق، وكلها يحتاج إلى كلام لا يحتمل اللبس، وليس مسموحاً لأحد بتداخل المشاعر في تكييف القضايا».
وأنا أريد أن أسمعك بقلب مفتوح ، وعقل مفتوح أيضا، ومقدماً فإني أريد أن أصدق ما سوف تقوله لي.
ما الذى تريد أن تسألني فيه بالضبط؟!
وقلت: «إنني أريده أن يعرف أن ما نُشر في الصحف الإسرائيلية لا يهمني كثيراً، وإنما تركيزي كله على ما هو في الوثائق الإسرائيلية، وما جرى تداوله في التحقيقات ، سواء في لجان «الكنيست» ، أو لجان التحقيق الخاصة ، وبالذات تلك اللجنة التي رأسها «مناحم مازوز» النائب العام الإسرائيلي، فذلك محقق مدقق، قرأت الكثير عن كفاءته ، وقد كان معه جمع من أبرز رجال القانون في إسرائيل.
وباختصار فإن مجمل المعلومات التي لا أشك فيها ، ومن كل ما اطلعت عليه تؤكد أمامي عدة حقائق:
– أنه كان لإسرائيل في مصر«شخص» علي مستوى يسمح له بأن يعرف.
– أن هذا «الشخص» لم يقدم لها المعلومات فحسب، وإنما قدَّم لها صوراً من أسرار البلد في لحظة شديدة الحرج من تاريخه.
– أن هذا «الشخص» أخطرها مسبقاً ضمن ما أخطرها به بموعد قيام حرب أكتوبر، وساعة الصفر المقررة لعملياتها.
– أن هذا «الشخص» قدَّم نفسه لإسرائيل في لندن سنة 1972، وقد رتب له بعض من يعرفهم ويتصل بهم زيارة إلى عيادة الدكتور «إيمانويل هربرت» ، وهى نفس العيادة ونفس الطبيب الذى قام بدور صلة الوصل بين الملك «حسين» (ملك الأردن) الراحل، وبين الإسرائيليين، وفى عيادة هذا الرجل وبمساعدة من سلطات إنجليزية نافذة ، تمت لقاءات ووقعت تفاهمات.
وإذن فإن هذا الطبيب وهذه العيادة لهما تاريخ سرى راسخ.
– أن هذا «الشخص» عندما ذهب أول مرة إلى عيادة الدكتور «هربرت»، ورغم اتصالات مسبقة طلب موعده لطلب استشارة، وقد وصل معه ملف دخل به إلى «سكرتيرة هربرت» ، وحمله معه حين دخل إلى حجرة الكشف الخاصة ، وقدمه إلى الطبيب الذى فتحه ووجد بالفعل ورقة طبية على السطح ، لكن الورقة التالية في الملف كانت محضر اجتماع سرى بين الرئيس «السادات» وبين القادة السوفييت ، وهو اجتماع مارس 1976، والذى اختلف فيه الطرفان حول طائرة الردع التي كان «السادات يطلبها من السوفييت وهم يترددون».
وحين توقف الدكتور «هربرت» أمام هذه الورقة، وقال لزائره «هذه الورقة وُضعت خطأ في الملف ، وهى لا تتصل به».
فإن هذا «الشخص» قال للطبيب: «إن الورقة لم توضع خطأ، وإنما هي صميم الموضوع»!!
وكانت تلك هي البداية ، وبعدها جاء مدير الموساد الجنرال «زاميرا» بنفسه إلى لندن، و…
وقاطعني «أشرف مروان»: إذا كنت أقول إنه هو هذا «الشخص».
وقلت: إنني لم أقل، ولكنهم في إسرائيل قالوا، ولو كنت صدقتهم لما كان هناك داع أن ألقاك ، وأن أجئ معك إلى هنا، وأن أسألك ثم أن أنتظر لأسمع منك جوابا؟!!
ومد «أشرف مروان» يده إلى الجيب الداخلي لجاكتته ، وأخرج منها ورقة ناولها لي ، وكانت قُصاصة من جريدة «الأهرام»، نشرت نص ما قاله الرئيس «السادات» في تكريم «أشرف مروان» عندما ترك منصبه في رئاسة الجمهورية، والتحق بالهيئة العامة للصناعات العسكرية، (وهى هيئة أنشأتها مصر والسعودية والإمارات العربية لتصنيع السلاح)، ونظرت في القصاصة ثم طويتها وناولتها لأشرف، وسألني: «ألا تكفيك شهادة أنور السادات حين يقول إنني قدمت خدمات كبيرة لمصر»؟!!.
وقلت لأشرف صراحة: «أن ما قرأته منسوبا ل «أنور السادات» لا يجيب عن سؤالي» ، وأضفت: «أنه قبلي يعرف قيمة أي كلام مرسل مما يُقال في المناسبات ، وعلى أي حال فإنه إذا رأى أن يكتفى به فهذا حقه ، وأما النسبة لي فإنه ببساطة لا يكفى».
وأضفت: «إن ما نحن بصدده لا يمكن الرد عليه إلا بما هو واضح ومحدد وقابل للإقناع!. »
وبدا عليه الحرج وسألني:
هل تتصور أن صهر «جمال عبدالناصر» جاسوس؟! وأنت كنت أقرب الأصدقاء إليه وتعرفه؟!!
وقلت بصراحة: «دعني أكون واضحاً معك ، لا شهادة حُسن سير وسلوك من «أنور السادات» ، ولا صلة مصاهرة مع «جمال عبدالناصر» تعطيان عصمة لأحد.. نحن أمام مشكلة حقيقية تقتضى وضوحاً مقنعاً حقيقيا».
وفجأة وقع ما لم أكن أنتظره، فقد أقبل «خالد عبدالناصر» ومعه ثلاثة من أصدقائه اللبنانيين ، وهو يقول لأشرف ضاحكاً: «كلفناك كثيرا يا دكتور.. دعوتنا على الغداء ولم تظهر، وانتظرناك وطلبنا على حسابك كل ما أردنا»
وبدأ أشرف يشرح لي: الحقيقة أننى كنت دعوتهم على الغداء هنا، وعندما عرفت أنك سوف تكون في السفارة اللبنانية آثرت أن أطلب من السفير «جهاد مرتضى» (السفير اللبناني) أن يدعوني معك لألقاك، وحاولت الاتصال ب «خالد» أعتذر له ، ولم أستطع العثور عليه ، واتصلت بمطعم «الدورشستر» أبلغهم أن «خالد» وأصدقاءه ضيوفي ، وعليهم أن يضموا حسابهم إلى حسابي!!
وقلت، والشبان الأربعة وأولهم «خالد عبدالناصر» يجلسون معنا: «إذن فقد كنت تعرف حين اقترحت أن تجئ إلى «الدورشستر» أن هناك من ينتظرك فيه».
وقال: «إن ذلك لم يكن ترتيباً مقصوداً أو مدبراً، لكنه على أي حال يهمه استكمال حديثنا على مهل ، ويقترح أن يمر علىَّ صباح غد في الساعة العاشرة صباحا، ثم نذهب معا للمشي في حديقة «هايد بارك» ، ونتحدث بالتفاصيل فيما أريده، وفى جو مفتوح نضمن أن لا أحد يتسمَّع علينا فيه».
وصباح اليوم التالي وقبل الساعة العاشرة صباحا بخمس دقائق خرجت من باب فندق «الكلاريدچ» إلى الرصيف شارع «بروك»، أنتظر «أشرف مروان» لكى نذهب معا إلى حديقة «هايد بارك» ، وهى قريبة منى عبر شارع «سوث أودلى»، وفى العاشرة بالضبط وصلت سيارة «أشرف»، ونزل سائقها يقدم نفسه على أنه «أحمد» السائق الخاص للدكتور «أشرف مروان» ، ولديه رسالة شفوية:
«إن الدكتور أصيب صباح اليوم بنزيف اضطره للذهاب إلى المستشفى، على أنه سوف يتصل به مساء اليوم في الساعة الخامسة لكى نحدد موعدا آخر».
ولم يتصل بي «أشرف مروان» , ولم أتصل به. حتى سمعت بالنهاية المأساوية والحزينة التي انتهت بها حياته!!
وفى كل الأحوال فقد أصبح الآن مؤكداً عدة أمور:
الأول – أن إسرائيل كان لها في مصر جاسوس على مستوى عال ، وأن هذا الجاسوس أبلغها بما كان محظورا إبلاغها به، حتى ولو كان الإبلاغ عن يوم الهجوم ، (وحتى لو اختلفت الساعة(.
الثاني – وهذا الجاسوس أيا كان لم يكن عميلا مزدوجاً ، فليست هناك ورقة واحدة في رئاسة الجمهورية ولا في المخابرات العامة تحتوى إشارة عن نشاطه، وهذه نقطة حرجة.
وكان وجود مثل هذا الجاسوس ظاهراً حتى في أول رسالة بعثت بها رئيسة وزراء إسرائيل «جولدا مائير» إلى الرئيس الأمريكي «ريتشارد نيكسون» وذلك قبل أن تنشب العمليات بعشر ساعات على الأقل، ولذلك فإنه من الحيوي أن يعرف كل مصري من هو؟! ولماذا؟! وكيف؟!!
لا أعلم لماذا بعد أن انتهيت من المقال أن تذكرت المثل الإنجليزي:
»إذا كنت تمشى مثل البطة وتشرب مثل البطة وتأكل مثل البطة وتعيش مثل البطة ، فأنت بطة«!!
ومرة أخرى يعاود السؤال من جديد عن «أشرف مروان» وليس عن (البطة) : من هو أشرف مروان؟
لمن فاتته متابعة الجزء الأول: