من الطائفة إلى الدولة | بقلم محمد محفوظ
حين التعمق في مجرى الأحداث والتطورات والتحولات السياسية والاجتماعية في المنطقة , يجدها تتجه نحو مسارين و خيارين ..
المسار الأول : هو تفكيك الدول القائمة وبناء كانتونات ودويلات دينية ومذهبية في المنطقة . وهذا بطبيعة الحال سيفتح الأفق العربي صوب صراعات ونزاعات مذهبية ودينية أهلية , تدمر ما تبقى من النسيج الاجتماعي , وتؤسس لمشروعات بناء مجتمعات مغلقة وذات هوية خالصة , مما يفضي إلى التهجير والتهجير المضاد , ويدمر أسس التعايش بين الناس . ويحول الانتماء الديني والمذهبي والعرقي والقومي , من مصدر للطمأنينة الاجتماعية , إلى رافد لتغذية النزاعات المفتوحة على تدمير الدول والأوطان .
و في هذا المسار تنهار الدولة كما ينهار المجتمع , وتتحول الفضاءات الاجتماعية إلى مسرح للاحتراب وتصفية الحسابات وممارسة العنف بكل صنوفه وأشكاله .
ولا شك أن هذا الخيار أو المسار هو من المسارات الكارثية على المنطقة العربية , لأنه يدمر كل شيء ولا يصل إلى شيء .. لأن الانقسام والتشظي والمتلازم دائما مع الحروب واستخدام العنف , سيتولد وسيسري على جوانب الحياة المختلفة .
لذلك يعد ووفق المقاييس المختلفة , أن هذا المسار من المسارات الكارثية على الانسان العربي والاستقرار العربي والنسيج الاجتماعي العربي . لأنه يحول الجميع ضد الجميع دون أفق سياسي واجتماعي واضح ونبيل .
لذلك نجد أن الدول التي بدأ بالبروز فيها هذا المسار , أو هناك قوى تعمل من أجل انخراط الجميع في هذا المسار , تعيش كل صنوف العذاب والعنف والقتل .
فالجميع يمارس القتل والاختطاف والتطهير الديني أو المذهبي أو العرقي , والكل يشعر أنه بهذا العمل المشين يدافع عن مقدساته وتاريخه وثوابته , وهو في حقيقة الأمر يدمر مقدساته وتاريخه وثوابته .
وفي مقابل هذا المسار الكارثي الذي يحول العرب بكل دولهم وشعوبهم , إلى ساحة للحرب والاقتتال العبثي . ثمة مسار آخر لا زال يراهن على الدولة , ويسعى بكل إمكاناته للدفاع عن مبدأ الدولة الجامعة والحاضنة للجميع . وهذا الخيار والمسار يشجع ويدعو الجميع للخروج من أناهم القبلية والقومية والمذهبية إلى رحاب الاجتماع الوطني الذي يثرى بالجميع , وإلى الدولة التي تتسع للجميع .
و أمام هذه المسارات و متوالياتها , لا شك إننا مع المسار الثاني وندعو إلى تجنيب كل الدول العربية كوارث المسار الأول الذي يدمر الدولة والمجتمع معا ..
و في هذا السياق يجدر بنا أن نذكر الجميع بالحقائق التالية :
1ـ إن القبائل والمذاهب والأديان , ليست بديلا أو نقيضا لمفهوم الدولة وضروراتها السياسية والاجتماعية والإنسانية . وحينما ندعو إلى التشبث بخيار الدولة والعمل على حماية فكرة الدولة في الاجتماع العربي المعاصر , لا ندعو إلى تدمير القبائل أو المذاهب أو الأديان . وإنما ندعو إلى احترام هذا التنوع الذي تعيشه كل المجتمعات العربية . ولكنه الاحترام الذي يعزز خيار الاندماج والوحدة .
لأنه حينما يتشبث كل طرف بعنوانه الخاص ويتم التضحية بحاضن وجامع الجميع , فإنه يفتح الطريق لفتن وحروب لا تنتهي بين جميع هذه المكونات .
وحينما تقصر الدولة أمام هذه الحقائق , من الضروري أن تطالب برفع هذا التقصير . ولكن من المهم أن لا يقودنا تقصير الدولة أو عدم إيفائها بمتطلبات الحياة إلى التضحية بها .. لأنه ضرورة لا يمكن لأي مجتمع الاستغناء عنها . والمطلوب دائما إصلاح أوضاع الدولة وليس التضحية بها كمؤسسة جامعة وحاضنة للجميع .
و هي ليست بديلا عن حقائق المجتمع القبلية والمذهبية والدينية , كما أن هذه الحقائق أيضا ليست بديلا عن الدولة ودورها ووظيفتها . والمطلوب عربيا احترام التنوع الديني والمذهبي والقومي في المنطقة العربية , وحماية الدولة بوصفها المؤسسة التي لا غنى عنها ..
2ـ إن حماية الدولة ودورها الحاضن لجميع التعبيرات , يتطلب من جميع هذه التعبيرات الانعتاق من ربقة الأنانية والانكفاء والانطواء وتنمية المساحات المشتركة , التي تحول جميع هذه التعبيرات إلى رافد لإثراء الحياة العامة والمشتركة .
وهذا بطبيعة الحال يتطلب الإعلاء من قيمة المواطنة , بوصفها هي العنوان والحقيقة القانونية والدستورية التي تنظم منظومة الحقوق والواجبات .. فالأوطان لا تبنى بانغلاق كل مجموعة على ذاتها , وإنما بانفتاح وتواصل الجميع مع الجميع ضمن رافعة ومحدد المواطنة الجامعة .
كما أن الأوطان لا تحمى بتنمية النزاعات الطائفية أو أنظمة المحاصصة المذهبية . فالأوطان تحمى بالمساواة والعدالة ووحدة مؤسسة الدولة التي تتعامل مع المواطنين بوصفهم مواطنين وليسوا أفرادا ينتمون إلى مذاهب و قوميات و قبائل .
و إن انحدار العرب صوب التعامل مع بعضهم البعض بوصفهم طوائف و قبائل , سيدخلهم في أتون أزمات متواصلة , وسيخدم هذا الانحدار الكيان الصهيوني الذي يتطلع إلى لحظة تآكل وتشظي العرب الداخلي , بحيث يصبح هو الكيان الأقوى والقادر على فرض شروطه على الحياة العربية بأسرها .
لذلك فإن وقف هذا الانحدار ضرورة عربية رسمية وأهلية للحفاظ على فكرة ومؤسسة الدولة ووحدة العرب وللوقوف بوجه المشروع الصهيوني .
3ـ إن اللحظة السياسية والاجتماعية الحالية التي يعيشها العرب بكل بلدانهم وأقطارهم , تتطلب صياغة مشروعات وطنية للمصالحة بين مؤسسة الدولة والمجتمع بكل شرائحه وفعالياته .
لأن هذه المصالحة هي التي ستنقذ العديد من الشعوب العربية من التآكل الداخلي والتشظي الطائفي .
وإن استمرار الفجوة بين الدولة والمجتمع أو بعض فئاته أو شرائحه سيقود إلى وجود مناخ من اللاثقة التي لا تخدم أمن واستقرار الدولة العربية والشعوب العربية .
لذلك فإن تجديد وتفعيل العلاقة وبناء أواصر الثقة بين مؤسسات الدولة والمجتمع بكل فعالياته في الواقع العربي المعاصر يعد من الضرورات القصوى التي تجنب الواقع العربي الكثير من السلبيات والسيئات . وأنه آن الأوان بالنسبة إلى المجتمعات العربية المتنوعة للخروج من عناوينهم الخاصة إلى رحاب الوحدة الوطنية والمواطنة الجامعة .
فوحدة الأوطان العربية اليوم مرهونة , بوجود مبادرات فعالة وشجاعة , تستهدف معالجة بعض مشاكل الحياة العربية وتعزيز أواصر العلاقة بين الدولة والشعب , حتى يتمكن الجميع من إفشال مخططات الأعداء التي تعمل بوسائل عديدة لتقسيم العالم العربي وإدخاله في أتون معارك عبثية , تدمر كل مكاسب العرب , وتنهي أسباب الاستقرار السياسي والاجتماعي في كل الدول العربية .
وخلاصة القول : إننا ندعو جميع العرب بكل انتماءاتهم و أيدلوجياتهم , للتمسك بفكرة الدولة لديهم, لأنه بدونها سنبقى كانتونات متحاربة ومتنازعة ومكشوفة لإرادات الأعداء ومخططاتهم الشيطانية .