تصادف هذه الأيام الذكرى الثامنة عشرة لرحيل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، ولستُ في هذه السطور بصدد دخول عوالمه وكواليسه المُخيفة، وإنما هي محاولة متواضعة للإضاءة على بعض جوانبها وبواعثها الداخلية.
فبعد نكسة يونيو 1967 شكلت الثورة الفلسطينية النقطة المضيئة، وأخذت مهمة تثوير الوضع العربي، حينها بدأ يتبلور ويترسخ مفهوم العمل الفلسطيني ضمن الإطار القومي، وكانت المقاومة الفلسطينية تبحث عن منافذ لترجمة هذا الخيار من الناحيتين السياسية والعملية وكان النظام العربي بحاجة إلى طرف فلسطيني يرفع عنه عبء القضية من جانب ولا يطالبه بما هو فوق طاقته من جانب آخر. وكان أمامه خياران لا ثالث لهما فتح ذات الجذر الإسلامي والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ذات الجذر القومي المتطور بالاتجاه الماركسي، وبعد استقالة الشقيري أصبح واضحًا أن من يسيطر على المنظمة سيسطر على القرار الفلسطيني.
وتعد السنوات من 1967 إلى 1969 فترة الصراع على الشرعية الفلسطينية، هنا تجلت عبقرية عرفات وتفتق مواهبه السياسية، ويكشف مستشاره السياسي والقيادي السابق في الجبهة الشعبية بسام أبو شريف بعض جوانب تلك المرحلة ومسعى عرفات للسيطرة على منظمة التحرير ويربط الانشقاقات في الجبهة الشعبية وملابساتها بدور عرفات والنظام السوري حينها، وذلك قبيل بدء الاستعداد لانعقاد المجلس الوطني القادم الذي سيحدد أحجام القوى السياسية بحيث تتمكن فتح من السيطرة على المنظمة وهو ما كان.. كان أبو عمار، إضافة إلى تكوينه الفكري والسياسي، يدرك قيمة الحاضنة العربية ودورها في إبراز هذا الطرف أو ذاك وأن من يحظى بالشرعية والدعم المالي يستطيع توظيفهما في حشد الأنصار والقواعد الجماهيرية وتحضير القاعدة الشعبية.
وفي سنة 1969 انتخب أبو عمار رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية وتحت قيادته دخلت الثورة والمنظمة والقضية مرحلة نضالية جديدة. وتميز بديناميكية وحيوية نادرة حيث جاب العالم بكوفيته وبدلته العسكرية ومسدسه وشكل رمزية فلسطين وقضيتها العادلة، وظل متمسكا بالثوابت الأساسية وفق الشرعية الدولية وفي كل مرحلة تتبلور وسيلته النضالية، حيث يذهب في اختياراته إلى النهاية ويضع الثورة وفصائلها أمام خيارات صعبة بين الانقسام المدمر وهو مطلب أعدائها وبين الوحدة على القواسم المشتركة التي تهبط في كل منعطف، وهو معروف بقدرته على المناورة والانحناء للعاصفة ويعتبر اختصاصيا في الوضع العربي ويعلم يقينا أقصى ما يمكن أن يذهب إليه في ظل تركيبته القائمة.
كانت المحطة اللبنانية فرصة لتقييم الوضع العربي والدولي بلا عواطف حيث اختبرت جميع المواقف والأفكار وحدودها واختمرت فكرة الحلول السلمية التي سبق وأن جرعها للجماهير الفلسطينية والعربية بعد الخروج من الأردن تحت شعار المرحلية التي حرقها دفعة واحدة، والتي أنضجها الاجتياح الإسرائيلي للعاصمة العربية الثانية دون أن تتحرك الأمة العربية وجيوشها وقد استحضر بشكل مختزل ومكثف التجربة الماضية وقرار التقسيم وأفق الكفاح المسلح. وكانت تجربة الحركة الصهيونية حاضرة في ذهنه وأحيانا يحاكيها دون التمعن في شروطها؛ حيث أعتقد أن قبوله بدولة على جزء من الأرض الفلسطينية سيقوده إلى تحريرها على غرار الحركة الصهيونية والتي يفهمها على طريقته الخاصة ولم يولِ ظروف نشأتها وطبيعة تحالفاتها ودورها الوظيفي في خدمة الإمبريالية الأهمية التي تستحق.
كانت مدريد وهاجس الشطب من الخريطة السياسية ماثلة أمام عينيه ولتلافيها بادر عبر القنوات السرية العربية والدولية بتقديم التنازلات وهو تكتيكه المفضل، وسرعان ما وضع خيوط اللعبة كلها بين يديه، لم يكن ترتيب البيت الفلسطيني الداخلي حينها من أولوياته وإنما وضع منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد على قدم المساواة في المعادلات الإقليمية والدولية بصرف النظر عن النتائج، وكان تكتيكه ينهك باستمرار استراتيجيته الثورة ويقزمها. لقد استغلت أمريكا وإسرائيل هواجسه في إعطاء المزيد من التنازلات كان لأبي عمار حسابات تثبيت وجوده وانتظار مجمل التطورات والبناء عليها في تعزيز مواقعه.
وفي ظل ظروف دولية معقدة وواقع عربي شديد الحساسية تجاه المبدئية الثورية ويستسهل التفريط بالثواب الوطنية تعتبر مغامرة غير محسوبة، كانت المعطيات صعبة والخيارات ضيقة وقد خاض تجربة المفاوضات اعتمادا على تحالفاته الإقليمية المشكوك في إخلاصها وعلى دهائه الشخصي؛ حيث وضع مسدسه الذي رافقه رحلة الخمسة عقود على الرف ورفع غصن الزيتون الذي لوح به أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في جنيف سنة 1974 ومن على منبرها خاطب قادة العالم قائلا “لقد جئتكم بغصن الزيتون في يدي وببندقية الثائر في يدي لا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي”.
وأثناء حصار المقاطعة الشهير جلجل العالم بصوته القادم من أرض الرسالات السماوية ومن على بعد بضعة أميال من القدس الشريف قائلا: “يريدوني قتيلا، وإما طريدا، وإما أسيرا، لا بقول لهم، شهيدا، شهيدا، شهيدا”، وقيل في حقه الكثير بين التمجيد والإساءة.
ويبقى أبو عمار رمز الثورة الفلسطينية القادر على لملمة صفوفها في أصعب المحطات الكفاحية وفصل مهم من فصول تاريخ الشعب والقضية والوطن، ولن تذكر فلسطين وقضية شعبها ونضاله المجيد دون التوقف طويلاً عند دوره ومكانته؛ سواءً اختلفنا معه أم اتفقنا، أو كما كان يردد دائمًا شاء من شاء وأبى من أبى.. نم قرير العين يا أبا عمار، فلسطين على درب الانتصار.