ما يزال لبنان ملفًا حارًَا على الخريطة السياسية الدولية بسبب موقعه الجيوبولتيكي. أهميته ارتفعت مع الشروع بوضع اللمسات الأخيرة على اتفاق ترسيم الحدودي البحرية مع إسرائيل. وقد تدخّل الرئيس الأميركي جو بايدن شخصيًا للفوزن بهذا الإنجاز الدبلوماسي. هذا الاتفاق وإن كان يضمن أمن إسرائيل في البحر، إلا أنّه يحفظ استقرارًا اقتصاديًا لسلع استراتيجية كالطاقة والنفط ويحتاجها العالم كلها لتدبير اقتصاداته، وذلك في أيام السلم، فكيف بمثل هذه الأيام حيث الحرب الروسية على أوكرانيا والتي صارت تهدد مصادر أوروبا من الطاقة؟
السؤال إجابته في السياسة أكثر من كونها في الاقتصاد. كلاهما ضامن للآخر. في السياسة الأمر معقد بعض الشيء بسبب من تراكم إشكاليات صارت معضلات مثل الشغور في الرئاستين الأولى والثانية. الأسوأ كان في ما انبعث عن عقد “طاولة حوار” هدفها البحث باتفاق الطائف، عشية الذكرى الثالثة والثلاثين لتوقيعه في المملكة العربية السعودية.
“عناية” الفاتيكان وفرنسا
وِضِع اتفاق الطائف على طاولة البحث في لحظة انعدام التوازن الداخلي وبروز غلبة حزب الله على سائر الإجتماع اللبناني. ما زاد من منسوب القلق والهواجس عند المكونات اللبنانية. وهذا انسحب إلى الفاتيكان وفرنسا بما يمثلان روحيًا وثقافيًا وسياسيًا عند اللبنانيين.
بحسب مصادر سياسية وإعلامية موثوقة، وتحت عنوان “السلام الدولي”، سيجتمع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع قداسة البابا فرنسيس للمرّة الثالثة في جلسة خاصة مرتقبة في مطلع الأسبوع المقبل بروما، ضمن فعّاليات وافتتاحية المؤتمر الدولي للسلام، الذي دعا إليه مجمّع “سانت إيديجيو”، إلى جانب زعماء سياسيين ودينيين، وهو جمعية كاثوليكية مكرّسة للخدمة الاجتماعية في العالم بعنوان “صرخة سلام”.
تُلقّب هذه الجمعية بـ”الأمم المتحدة الصغيرة” والنسخة المصغّرة للجمعية العامّة. وهذا دلالة واضحة على أهمّيّتها، إذ اكتسب هذا المحفل منذ العام 1968 الحيّز المهمّ والخبرة الكبيرة في التسويات ومعالجة الأزمات والنزاعات، والمفاوضات والوساطات الدولية لأهمّ المشكلات العالمية، إلى جانب “قمّة الأديان والسلام” السنوية التي تنظّمها جماعة سانت إيديجيو الكاثوليكية في إيطاليا، وأهمّ مواضيعها المطروحة هذه السنة هي الحرب في أوكرانيا، ومشكلة الطاقة في أوروبا، والملف اللبناني” وقضية اللاجئين في العالم.
أن تكون الجلسة خاصّة فهذا ليس أبدًا عاديًّا وعابرًا. وهذا يعني أنّ مواضيعها غير تقليدية وملحّة ومتقدّمة كثيرًا على غيرها. على الرغم من عدم تأكيد الإليزيه حصولها حتّى الآن، بهدف عدم التداول بها إعلاميًا وتجنيبها النقاش لإبقائها في خانة دبلوماسية الكواليس.
هناك ارتياب مشروع وانزعاج كبير عند الحبر الأعظم اتجاه لبنان واتجاه الرئيس الفرنسي نفسه، بحسب مصادر خاصة لـ “أساس”. ما يقلق الفاتيكان وحبرها الأعظم أوّلًا وقبل الاستحقاق الرئاسي، هو مستقبل الدولة اللبنانية وشكل نظامها وطبيعة الشراكة الفعلية القائمة على العيش المشترك، وأن تصبح المناصفة في خطر أو من الماضي لمصلحة صيغ مختلفة غير مستحبّة، لكنّها مقبولة بحكم الأمر الواقع، أبرزها المثالثة الذائعة الصيت. فرئيس الجمهورية له عهده فقط، ويأتي ويذهب، في حين أنّ للجمهورية كلّ العهود، وهي التي يجب أن تتعافى وتبقى.
تناقش هذه الجلسة المشكلات الدولية وسبل تكريس السلام والعدالة الإنسانية، وستتطرّق بعمق أكبر إلى الوضع الكاثوليكي والمسيحي العالمي في كلّ دول العالم، وانطلاقًا منه سوف يتم تناول أزمة لبنان الذي يُعتبر احد الهواجس الكبرى عند البابا فرنسيس.
مخاوف البابا وحاجات الفاتيكان
يدرك البابا أنّ لبنان بلد الرسالة ومكان تعايش الأديان والثقافات والقوميّات المختلفة يواجه خطرًا محدقًا ومصيريًا، ويتخوّف من أي طارىء يمسّ وحدة الشعب والتراب وسيادة الدولة. ولطالما حظي لبنان بخاصيّة فريدة لدى كلّ من الفاتيكان وفرنسا. البلدان يرتبطان به بعلاقات مميّزة محورها المصلحة والسياسة والتاريخ والعقيدة والدين وحتّى الانتماء، وقد استُثمرت دائمًا لمصلحة لبنان الدولة. فلن يرضى كلّ من الفاتيكان وفرنسا بأن يفقد لبنان بريقه في هذا الشرق، ولن يرضيا لمسيحيّيه، بالتحديد، بغير أو أقلّ من المناصفة، ولا بديل عن الشراكة الفعليّة التي كرّسها الطائف.
لذلك يحتاج الفاتيكان وحبرها الأعظم إلى توضيح من فرنسا ورئيسها ماكرون حول الحقيقة والجدوى من طرح المثالثة والصيغ السياسية المختلفة، حين طرح فكرة الاتفاق على “عقد جديد للبنان” إبّان زيارته بيروت عشيّة تفجيرالمرفأ. فهل كان القصد من “العقد الجديد” تطوير الدستور فقط بسقف وثيقة الوفاق الوطني؟
كلّها أمور بحاجة إلى التثبيت والتوضيح، بمعزل عن أنّ القرار الرسمي الفرنسي في لبنان هو “مع الطائف”، وأنّ الاتفاق أخيرًا على البيان الثلاثي في نيويورك، بتوقيع فرنسا وأميركا والسعودية، يعكس الإجماع العربي الدولي على حماية دستور الطائف.
المطلوب من الرئيس ماكرون هو إسكات النشاز السياسي غير الرسمي، وعدم اللعب على الحبال وإحراج نفسه وتضييع الثقة أكثر، والاستفادة من تلاحمه مع إيران وحزبها في لبنان بهدف تكريس الإجماع الدولي حول لبنان. فالأولوية هي في المحافظة على المعادلات التي يتميّز بها بلد الأرز كواحة للديمقراطية في الشرق بنظامه وشراكته الفريدة، والتنوّع الجميل الذي يكرّسه.
الجلسة المرتقبة هي لتوحيد المقاصد، وللتأكيد أنّ لبنان هو دولة ورسالة وليس صندوق رسائل، وأنّ أرضه يجب ألا تكون ساحة للصراعات الإقليمية والدولية، ولا بدّ من تكثيف الجهود لدعمه للحفاظ على صورته ومضمونه الديموقراطي وتعدده الروحي والثقافي.
لبنان تحت الرعاية
أنار المجتمع الدولي أضواءه الخضراء المتعلّقة بالملف اللبناني، وأطلق العنان لتوربيناته لتوحيد الجهود باستخدام المنطق السياسي، ومبدأ المصالح والعلاقات الدولية وفنّ إدارة المؤسسات، ودعا إلى استثمارها جميعًا لبلوغ غاية التسوية في لبنان، وبالتالي الاستقرار، فكان البيان الثلاثي الأميركي ـ السعودي ـ الفرنسي الذي قال بوضوح أن اتفاق الطائف هو السقف السياسي لأية تسويات داخلية، كما أنّه “الحماية” من أيّ تسويات خارجية.
البيان الثلاثي في الجمعية العامّة للأمم المتحدة جاء نتيجة الجهد السعودي الفرنسي، على الرغم من الإرباك السياسي الفرنسي، وسببه ما تعانيه فرنسا أوروبيًّا ومحليًّا من ظروف ضاغطة. إلا أنّ القرار الرسمي الفرنسي هو مع الطائف فقط، بغضّ النظر عن بعض المناورات النظرية والاستشارية “الما تحت حكومية”، التي أحرجت الإليزيه إزاء طرح الصيغ والمعادلات الشاذّة كالمثالثة، غير المرحّب بها دوليًا وعربيًا وفاتيكانيًا وأوروبيًا وأميركيًا.
الفاتيكان: قلَق على لبنان وليس “الرئاسة”
لم يعد المجتمع الدولي بقادرعلى تحمّل أيّ انفلات إضافي للأزمة اللبنانية ولأيّ انحلال لفوضى السلطات، وبات مقتنعًا بأنّ الأزمة في لبنان هي أزمة ناتجة عن عدم تطبيق اتفاق الطائف. وبالتالي فالمطلوب تطبيقه وليس تعديله.