ازمة لبنانالاحدثالصورة الكبيرة

مراجعة دستورية لملف الطائف، تاجر الامل وبياع الخواتم | بقلم د. محي الدين الشحيمي

يعرض الملف الاستراتيجي للمحور الخامس من سلسلة الطائف : تاجر الأمل وبياع الخواتم، حيث يعقب الخبير في القانون الدستوري الدكتور محي الدين محمود الشحيمي ( دكتوراه في القانون جامعة باريس اساس في فرنسا. عضو لجنة التحكيم في مدرسة البوليتكنيك في باريس)، بعد أن علقت الشخصيات المشاركة على الملف بآرائها القيمة التي تقاطعت حينا حيال بعض المسائل والنقاط ، وإختلفت على الأخرى كل من منظاره وخبرته ورؤيته التحليلية لقد شكّل اتفاق الطائف الإطار السياسي والقانوني الذي تعهّدته اللجنة الثلاثية العربية (المغرب والجزائر والسعودية) ووافقت عليه الدول العربية الأخرى كافة في مناسبات عديدة منفردة أو مجتمعة، وأقرّ مضمونه مجلس الأمن الدولي في بيانيه المؤرّخين في 7/11/1989 و 22/11/1989، واللذين أكّد فيهما دعمه لبنود هذا الاتفاق كافة الذي نجح في "تسوية للأزمة اللبنانية بكلّ جوانبها مع ضمان سيادة لبنان الكاملة واستقلاله وسلامة أراضيه والوحدة الوطنية فيه". وحرص مجلس الأمن كذلك على التأكيد أن اتفاق الطائف "هو الدعم الأساسي والضمان لحرية واستقلال ووحدة لبنان". ورغم أن الدستور اللبناني ينص على أن لبنان بلد جمهوري ديمقراطي برلماني لكن البنية الطائفية للنظام السياسي في لبنان جعل من شبه المستحيل اتخاذ أي قرارات كبرى دون توافق جميع الفرقاء السياسيين الموزعين على اساس طائفي. ومن خلال التركيز على اتفاق الطائف يمكن تناول مسألة كيف/أو ما إذا كان النظام الطائفي لايزال قادراً على التعاطي والتكيّف مع العديد من التحديات البنيوية التي يواجهها من جديد في العام 2016. حيث قضت الممارسة السياسية على روحية المواد الدستورية حتى ان ما نشهده اليوم في الممارسة لجهة توزيع الوظائف غير دستوري حيث انه وبعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري زادت حدة الخطاب الطائفي وراحت بعض الاحزاب ترفع من حدة هذا الخطاب سعياً وراء كسب قاعدتها الشعبية ما ساهم في ترسيخ الطائفية السياسية، كما جرت المطالبة باعتماد المناصفة في كل الوظائف بعيدا عن مبدأ الكفاءة والاختصاص، فيما طالب البعض بإعادة تفسير المادة 95 من الدستور. (د.مازن مجوّز)

لمن فاته متابعة المحاور السابقة:

د. محي الدين الشحيمي

بعد عقد ونصف من التقاتل والفوضى ، طاف ” الطائف ” وظهر بسحر ، وحان وقته تماشيا مع المصالح الدولية حيث آن اوان التسوية التي فرضتها التقاطعات الاقليمية، وأجمعت حينها على ضرورة اخماد الساحة اللبنانية ايذانا بفترة جديدة هي مرحلة الجمهورية الثالثة أو جمهورية الطائف .

توافدت المكونات اللبنانية وإلتأمت في المملكة العربية السعودية، وقرروا الاجماع على تسوية وصيغة للعيش فكانت وثيقة الوفاق الوطني “اتفاق الطائف ” بعد 15 عاما من التقاتل العشوائي ، مع كم من الويلات مزقت النسيج اللبناني وعبثت بديمغرافيته، نتج عنها المئات من الشهداء والجرحى والمهاجرين والمهجرين والنازحين، مثقلين بخيبات وحسرات عمقت جراحهم على وطن كان انموذجا ورسالة وامسى صندوقا للرسائل ومسرحا للتراقص والتقاذف.

لقد عاش لبنان نظام الهيمنة والسطوة الطائفية في الجمهورية الاولى، ثم أتى الطائف الهادف للوصول إلى الدولة المدنية ودولة المواطنة العصرية .

لا يمكننا أبدا فصل الطائف عما سبقه من الصيغ فهو قد ورثها جميعا بدءا من نظام القائمقاميتين 1843 وبروتوكول المتصرفية 1861 مرورا باعلان دولة لبنان الكبير1920 واقرار الدستور 1926 ومرحلة الميثاق الوطني 1943 وصولا لاتفاق الطائف 1989 .

لقد شكلت وثيقة الوفاق الوطني والجمهورية الثانية ممرا حازما لانهاء الحرب الاهلية اللبنانية، ولكنه كان هو ذاته مرحلة مؤقتة ومفصلية للانتقال والابحار بيم الجمهورية المدنية المنشودة ودولة المواطنة، والتي لا يمكن ان تعبد طريقها الا بتطبيق معايير إتفاق الطائف بشكل صحيح، وعلى الاقل بفاتحة تشكيل الهيئة الوطنية لالغاء الطائفية السياسية.

أخفقت الدولة اللبنانية في جمهوريتها الاولى حيث انها لم تؤسس من خلال الميثاق الوطني ، فلم ينتج من التمازج داخل الطوائف او في ما بينها سوى المصالح المشتركة، والتي لم يكن بمقدروها خرق جدار العزلة الاجتماعية لكل مكون واقتصرت على وظيفية الاطار وبروتوكوليته فقط وهي القاصرة عن التوصل لفكرة الاندماج الوطني الصافي والهوية الموحدة، ولم يتم التقيد كذلك بقواعد الطائف الذي ظل حزينا للعجز في بلوغ مقاصد الدولة الحديثة المدنية.

فلا يمكننا الحديث البتة عن الغاء الطائفية السياسية رغم انها مطلبا بهدف الوصول الى المواطنة الصرفة بالتغاضي عن الطائفية المجتمعية الاقدم منها واقعيا، فعلة النرجسيات والعنصريات السياسية في لبنان انما ظهرت من بداية تواتر عصر الصيغ المنظمة للكيان اللبناني اداريا، فيما المذهبية المجتمعية موجودة ومكرسة بشكل سابق من البيت والاسرة بين الاولاد وفي التربية وبين الطلاب في المدرسة وفي القطاعات العمل.

لقد حل اتفاق الطائف عوضا عن الميثاق الوطني 1943 وكرسه في الوقت ذاته، من خلال تحويل بعض الأعراف والتي كانت متبعة في الجمهورية الأولى الى مواد قانونية ودستورية أساسية ركيزة لصيغة الجمهورية الثانية، فجل ما فعله الطائف هو تعديل النظام القديم، الا انه قد اصطدم هو نفسه بالجينات اللبنانية وعوائدها المكتسبة والتي تمعن بالالتفاف على اي نص وشريعة، حيث غرقت الديمقراطية بكل مسمياتها في مستنقع التجاذبات ضاربة بعرض الحائط مطلق اي تسوية .

وحتى الآن لا زلنا نعيش في ظل حكم الميليشيات المقنعة، وكل مكون وفصيل يشتمل على بنية مكتسبة تتمتع بخصوصيتها وغير اندماجية، طمست المفهوم التناغمي لادارة الدولة الداخلية وهو ما ساقنا الى عجز مطبق في انتاج وتطوير اي سلطة سياسية او حتى بالحد الادنى للتطبيق التقليدي لبنود الطائف والذي لا سبيل سوى فيه، رغم الاصوات والتي تنادي بقصوره وعجزه وهو ضحيتهم لانه لم يطبق.

فجمود الميثاق الوطني وخرقه والغدر في مفهومه وخصوصا بعد فشل كل سيناريوهات التلاقي والذوبان بين مختلف المكونات اللبنانية هو ما عزز الطائفية السياسية والمجتمعية والفكرية، حيث تلاعبت دغدغة الهوية وشغف الانتماء وشهوة الديمغرافيا الشريرة وانانية المصالح الشخصانية ونزوة الاستقواء في الخارج في كل الطوائف اللبنانية.

قابله بالنسبة لوثيقة الوفاق الوطني دأب متوارث وامتهان متأصل لتفتيت الصيغة والسعي الحثيث لافشالها، حيث عانى الطائف ولا يزال من الهرطقات الاحتيالية غير الحميدة في النوايا رغم لباسها الجميل وزخرفتها بمصطلحات متعددة لجهة الديمقراطية التوافقية وصولا للمثالثات والثلث الضامن، والمرابعات الكونتونية والتي قتلت جوهر الطائف في الصميم، فلاحت كل القباحة في التمذهب والتلطي في الزوايا الطائفية الشوكة العتيقة في خاصرة جمهورية الطائف.

كل هذا زاد في شرخ البلد، وبالرغم من التأكيد على المناصفة في الطائف مع صراحة للاصوات المطالبة بالمثالثة، جاء لنا تدليس اتفاق الدوحة والذي اعتمد ” الثلث الضامن ” لتشكيل الحكومات وذلك ما هو الا تفريغ اضافي لاصل الصيغة الوطنية، وخرق مشهود لجوهر الدستور والقوانين، بالرغم من العلم بأن الثلث الضامن طريق ميسر للمثالثة ، ومخالفة صريحة بالتمام لصيغة العيش المشترك والتي تجترح من حضور مختلف المكونات اللبنانية بشكل خطير والمنافية لكل انواع الديمقراطية .

أما الاشكالية التي توصف اهمية الميثاق الوطني- والذي سمح بنشوء الدولة اللبنانية الفعلية وليس فقط فرصة اعلان دولة لبنان الكبير 1920 – فلا يمكننا حيالها إغفال المراحل السابقة والتي دمغت كيانية الدولة اللبنانية وتأطيرها الاداري من نظام القائمقاميتين الى بروتوكول المتصرفية وصولا الى اعلان الدستور اللبناني المدني في العام 1926 ، لاحظنا كيف غرقوا وإلى جانبهم وثيقة الطائف بسبب الانتهاج الموحد للشريحة المجتمعية اللبنانية والذي لم يتغير ابدا والذي يمعن بالباطنية والقوقعات المذهبية.

لقد إستهلكت المتغيرات الظرفية بشدة أحكام وبنود الميثاق الوطني وخصوصا تلك المتعلقة بالحياد وسياسة الاحلاف وانقسام الموقف الداخلي اللبناني حول قضايا المنطقة، والتي وفرغته من مضمونه حيث بين عجزه في تحقيق حبره وورقه الى واقع، والأمر نفسه ينسحب على الطائف حيث استفرسته بشراسة كل الوقائع بظروفها المختلفة وامرها الواقع، فها هي ذات الخلافات تستعيد نفسها لجهة الهوية اللبنانية وفكرة الحياد ومبدئية العلاقة مع اشقائه واصدقائه والتصحيف والذي نتج بفعل فاعل والذي نتج عنه التبدل الموصوف لوجه لبنان الحقيقي، عوامل ساهمت جميعها بتجويف المقصد الهادف للصيغة والداعي لتحصين الدولة واستمرارية تطورها .

وهكذا تحول لبنان تدريجيا من مجتمع متعدد الطوائف الى دولة متعددة الطوائف باعطاء الاهتمام للواقع الاجتماعي والتوزيع الديمغرافي، فتعتبر الطائفية السياسية كاستجابة غير مباشرة لمنازلات تكرست وولدت

بحكم الظرف التكتيكي لمراحل متلاحقة ولد بها الكيان اللبناني، الا انها تحولت الى شخصنة بفعل سوء تطبيق الميثاق الوطني (1943) ، والذي نجح في الاصل بفعل التفاهم بين بشارة الخوري ورياض الصلح ، بتقاسم جديد للسلطة بمعيار تناسبي يوافق المرحلة بواقع 6 للمسيحيين و5 للمسلمين وهي نسبة مشابهة للتشارك ابان مرحلة القائمقاميتين، حيث كانت النسبة في القائمقامية المارونية بواقع 4 للمسيحيين و2 للمسلمين ، وكانت في القائمقامية الدرزية بنسبة 3 للمسيحيين و3 للمسلمين , وفي زمن المتصرفية كان مجلس الادارة المساعد للمتصرف يتألف من 7 أعضاء للمسيحيين و5 للمسلمين، الى ان جاء الطائف وكرس المناصفة بين المسيحيين والمسلمين .

والملاحظ أن الاعتداد لنسبية الاعداد المذهبية في تشكيل أي حكومة هو أمر عرفي بحت، فالمناصفة هي الاصل وليست المذهبة بالتعادل الرقمي لعدد الوزراء داخل الحكومة، فالحكومة هي جسم واحد متضامن حول سياسة واحدة مقياسها البيان الوزاري والذي يعبر عن سياستها وليس عن اي رغبات وسياسة اي مذهب او طائفة من المكون اللبناني، لذا كان في المفترض ان يستكمل الطائف بمسيرته التحررية ويتم التيسير لمساعيه لالغاء الطائفية السياسية السبب الاول الكامن من وراء اطلاق وثيقة الوفاق الوطني والتي تعتبر هي نفسها مرحلة انتقالية للوصول لدولة المواطنية على الاقل من بعد تحرير عمل الهيئة الوطنية لالغاء الطائفية السياسية بعد تشكيلها.

وصحيح في ان الميثاق هو بين المسلمين والمسيحيين وانما من دون مفاضلة وتمايز وتصنيف، فلا وثيقة الوفاق الوطني ولا حتى الميثاق الوطني لهما علاقة بهذه المزايدات الفئوية والغلو والمذهبية والحزبية والسياسية وهي محصورة فقط بعقد الانا والشخصانية والنرجسية وليس لها ادنى ارتباط بالفكر والحضارة والتمكين والتأسيس للدولة، فالطائف كان عقد شراكة وشرعة مسؤولة، وليس لنموذج توكيلات ومحاصصات لتوزيع مغانم وتقسيم مناطق نفوذ محلية .

ان انتهاج السلوك السلبي في تطبيق الدستور والقانون هو ما سبب الفشل والشلل في التوصل للعيش المشترك الحقيقي وعملية صنع القرار رغم ان هذه الصيغة هي نفسها والتي اقرت تمثيل اغلب فئات المجتمع اللبناني .

رسب الطائفيون ولم يسقط الطائف مثلما اخفقوا في ادارة البلاد بالصيغ المختلفة السابقة، فالغش الدستوري هو الذي يحرك السياسة اللبنانية، بصيغ جديدة واعراف طارئة لتقاسم السلطة ولنماذج قانونية لم يعرف لها تفسير ، فلا الترويكا دامت ولا التوافقيات هو المنطق المثالي لادارة التعددية ولا صحة لمعادلة الثلث الضامن او المعطل ، فقد سقطت الديمقراطية التوافقية في مستنقع الوحل اللبناني والذي تحكم بها من خلال خصوصيته مفقدة لها المقصد الصحيح والمتوخى منها، فلا امكانية للاتفاق ابدا على نموذج الائتلاف الواسع لادارة الحكم، مع وجود الحكم الذاتي الطوائفي المقنع واضمحلال نسبية حق الفيتو للاقليات بوجود القوانين الانتخابية العرجاء والتي تنتج لنا تمثيلا مريضا .

وهنا تلوح لنا بعض الاشكاليات حول ما الذي يجعل من الطائفية السياسية عامل مفتت قاضم للاستقرار السياسي للدولة ؟ والى متى يمكننا الاعتبار ان النظام السياسي الطائفي في لبنان بنموذجه التوافقي يمثل مثالا ناجحا للديمقراطية ؟ وحول كيفية ادارة النزاعات حول التشابكات الداخلية والتدخلات الخارجية ؟

فبات لبنان ملزما ومجبرا لبذل جهود واطلاق مسارات للمدى القصير قبل المتوسط والطويل بهدف بناء مرتكزات المؤسسات والادارات الرشيدة لتجاوز الرعونة والهشاشة السياسية لبنيته التأسيسية الضاربة بعرض الحائط الاستقرار والثبات الانفعالي الاجتماعي معرضة النسيج الاجتماعي لتفكك مشهود يفترض تدراكه على الاقل من خلال توحيد قراءة وثيقة الوفاق الوطني بين مختلف الاجتهادات المتباينةوالشروع بعملية شرح ملزمة وتشريعية لوضع الحد ولمنع للتفسيرات المتناقضة والزبائنية والقيام بجدولة زمنية لمختلف هذه الآليات وتطبيقها بالكامل والاجتهاد في العمل التشريعي والتنفيذي ووضع التعديلات اللازمة بالاستناد للحاجة والتجربة وضوروات المرحلة , فلا بديل عن الطائف ابدا ولأي أمر اتفاقي جديد سواء في اولوية تطبيقه الصحيح والكامل او في الانتقال من خلاله لتعديلات مكملة ومتطورة .

حيث ان الامل ليس في نصوص فقط بل في واضع النصوص والمؤتمن عليها وعلى تطبيقها , ذلك ان النصوص والقوانين تولد وتشرع ميتة ولا تدب فيها الحياة الا من خلال احترامها وتطبيقها والالتزام بها , الا ان المؤتمن على النصوص في لبنان لم يصنع منه أملا لأنهم رفضوا جميعهم خوض غمار الانتقال الى دولة المواطنة المدنية وتكبلوا أكثر في وحل الطائفية حيث تبين من انهم نقلوا تقاتلهم واحترابهم من ارض الوطن وساحاته الى داخل مواده الدستورية القانونية , فتقاتلوا على طوائفهم بالطائف حتى بات لبنان مرتعا عشوائيا ودولة فاشلة للطوائف من دون الطائف ولكن طيف الامل موجود دائما.

ندوات الملف الاستراتيجي

يحرص الملف الاستراتيجي على توثيق واسع لاراء الخبراء والباحثين حول المسائل الاكثر تاثيرا" بالمسار العام للاحداث وانعكاساتها على المنطقة العربية. يشمل ذلك ندوات مكتوبة او اجتماعات افتراضية. يعيد الموقع نشر المحاور في كتب الكترونية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى