كثيرون في العالم، لا سيما في عالمنا العربي، يعوّلون أهمّية كبيرة في كلّ مرة يأتي على سدة الرئاسة للولايات المتحدة رئيس جديد، وعلى ما يمكن ان يفعله ليجد لهم الحلول للمشاكل والقضايا المستعصية في بلدانهم.
منذ حرب حزيران 1967، التي أسفرت عن احتلال «إسرائيل» لأراض عربية، وصدور القرارات الأممية ذات الصلة عن مجلس الأمن، وعدم اكتراث العدو «الإسرائيلي» بها، كان العرب ينتظرون في كلّ مرة رئيساً أميركياً جديداً، يعلقون عليه الآمال الكبار، لمساعدتهم في إنهاء الاحتلال، والتوصل الى حلّ عادل للقضية الفلسطينية. هذه الآمال رافقت عشرة رؤساء أميركيين بعد هزيمة 1967، ابتداء من ليندون جونسون، مروراً بنيكسون وفورد وكارتر وريغن، وبوش الأب وكلينتون، وبوش الإبن وأوباما وصولاً إلى ترامب. إلا أنّ هذه الآمال تبدّدت فخاب ظنّ العرب والفلسطينيون بالذات، لأنّ سياسات الولايات المتحدة واستراتيجيتها لا تخضع لأهواء رئيس، تأتي معه، وتتغيّر برحيله، كما هو الحال في عالمنا العربي، وفي العديد من بلدان العالم.
ما ينطبق على الولايات المتحدة لجهة سياساتها الدولية الثابتة استراتيجياً، والمتحركة تكتيكاً، ينطبق أيضاً على إيران، التي لا تزال في نزاع مع واشنطن منذ أربعة عقود وحتى اللحظة.
قد يتصوّر بعض المتابعين للشأن الأميركي ـ الإيراني خطأ، أنّ مجيء الرئيس بايدن قد يحلّ المعضلة والصراع القائم بين واشنطن وطهران، الذي عمره من عمر ثورتها، ويعيد العلاقات الثنائية الى وضعها الطبيعي، دون أن يلحظ أسباب الخلاف العميق القائم بين البلدين، الذي يرتبط مباشرة بعقيدة وتوجهات ومبادئ وسياسات واستراتيجية وسلوك وأهداف كلّ دولة من الدولتين اللدودتين.
إنّ إيران الثورة، كما الولايات المتحدة، لا تتعاطى بمزاجية مع دول العالم، ودول المنطقة بالتحديد، ولا تغيّر سياستها الخارجية بتغيّر قادتها، أو رؤسائها. وأياً كان في السلطة من محافظين أو إصلاحيين، تبقى ثوابت الثورة وايديولوجيتها، البوصلة التي لا يستطيع أحد داخل إيران أن يحيد عنها. لذلك لم تتغيّر ولم تتبدّل السياسة الإيرانية حيال عناوين كبيرة رئيسة، حملها ونادى بها، وأرسى أسسها ودعائمها مفجّر ثورتها الإمام الخميني، ليحدّد الدستور الإيراني في ما بعد، مبادئ ونهج وثوابت إيران، في الداخل والخارج.
على الصعيد الداخلي، عملت إيران على بناء الدولة ذات القرار المستقلّ، وعمدت على تنمية البلاد، والانطلاق بنهضة اقتصادية وصناعية وعلمية وتكنولوجية شاملة في المجالات كافة، وبناء القدرات العسكرية الرادعة التي تدافع عن سيادتها، وتحمي ثورتها.
وعلى الصعيد الخارجي، كان لإيران موقفها الواضح، وهو التصدي لقوى الهيمنة والتسلط، ورفض الوجود الغربي والصهيوني، ومقاومة الاحتلال، والوقوف بجانب القضية الفلسطينية، ودعم الشعب الفلسطيني لتحرير أرضه ومقدساته، ومؤازرة الأنظمة الوطنية المستقلة في المنطقة والعالم، المتحرّرة من النفوذ والأحلاف العسكرية.
من الطبيعي إذن، أن يتعارض السلوك والنهج الإيراني كلياً ومعه حلفاؤه، مع السلوك والنهج الأميركي وداعميه في المنطقة ويتصادم معه. فكلاهما نقيض للآخر، إذ انّ واشنطن تريد الاحتفاظ بمراكز تواجدها وهيمنتها ونفوذها في الشرق الأوسط، وبقواعدها العسكرية، والعمل على إبقاء دوله في فلكها، والاستمرار بدعمها اللامحدود لدولة الاحتلال الإسرائيلية، بالإضافة الى عدم تقبّلها لأيّ دولة مشرقية تمتلك قرارها السياسي والإقتصادي والعسكري المستقلّ، وتغرّد بعيداً عن فلكها وخارج دائرة نفوذها، وإلا عليها أن تواجه ما تواجهه من انقلابات او ثورات أو عقوبات أو اضطرابات تجهز على أرضها، أو فوضى مبيّتة لها أو حصار شرس يطوّقها.
المعادلة الأميركية _ الإيرانية بين الدولتين، وحيال المنطقة لن تتغيّر بشكل جذري مع الرئيس الجديد بايدن، وان خفث لهجته عن لهجة سلفه ترامب. فاستراتيجية واشنطن حيال طهران محدّدة الأهداف تريد تحقيقها، طالما أنها ترتبط مباشرة،
بمجموعة من المصالح والأهداف للولايات المتحدة و»إسرائيل» وحلفائها في المنطقة والتي لا يمكن أن تتخلى عنها أو تتجاهلها وهي:
1 ـ لن تقبل واشنطن أن يكون لإيران تأثير أو نفوذ أو تواجد فعّال داخل دول المنطقة يؤثر على حضورها، ويهدّد مصالحها السياسية، والإقتصادية، والأمنية وكذلك مصالح حلفائها، ويشكل خطراً على نفوذها، قد يشلّ ويحبط مشاريعها المستقبلية وخططها البعيدة المدى. لذلك ستعمد في الفترة المقبلة، ومع أدارة بايدن، إلى تعزيز التحالفات السياسية والتنسيق العسكري والاستخباراتي بكامل أوجهه، ليشمل «إسرائيل» ودول الخليج العربية، لا سيما تلك التي اعترفت بالكيان الصهيوني، وذلك لفرض المزيد من العقوبات وتضييق الحصار على إيران، وتطويقها وشلّ قدراتها على التحرك.
2 ـ تريد واشنطن أن تكفّ طهران يدها عن دعمها للأنظمة الوطنية، والذات لقوى المقاومة في المنطقة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، وتنكفئ عنها، وتنهي حالة العداء مع دولة الاحتلال، والاعتراف بوجودها، ومن ثم العمل على تطبيع العلاقات معها، إذ انّ الولايات المتحدة ومعها الاتحاد الأوروبي الذي يدور في فلكها، ولا يخرج عن إرادتها في هذا المجال، تربط في العمق، أيّ انفراج في العلاقات الأميركية ـ الإيرانية، بمدى تجاوب طهران لجهة تغيير مواقفها وسياساتها حيال الكيان الصهيوني والإقرار والاعتراف بوجوده، وأيضاً التوقف عن دعمها للمقاومة في فلسطين ولبنان، وللأنظمة التي تعارض سياسات واشنطن، ولا تنضمّ الى محورها.
3 ـ تريد واشنطن أن تتوقف إيران عن التدخل في شؤون دول المنطقة، و»التحريض» ضدّ الأنظمة التي تسير في الفلك الأميركي، والترويج لفكرها الثوري، والحدّ من توسيع المروحة الإيرانية الى خارج المنطقة لتصل الى دول في القارة الأميركية، تناصب العداء للولايات المتحدة وسياساتها. دول ما كانت يوماً بنظر واشنطن إلا الحديقة الخلفية لها، ما يجعلها تتصدّى لأيّ جهة دولية تمدّ الجسور مع أيّ دولة فيها، لا ترضى واشنطن عن سياساتها وسلوكها المعارض والرافض لتوجهاتها ونهجها وأهدافها.
4 ـ عدم سماح الولايات المتحدة لإيران، بأن يكون لها برنامج نووي متطوّر حتى وإنْ كان سلمياً، لأنّ امتلاكها للتكنولوجيا النووية، في المفهوم الأميركي والإسرائيلي، واستخدامها في المجالات العلمية، والصناعية، والزراعية، والطبية وغيرها، سيجعل منها مستقبلاً قوة اقتصادية وتكنولوجية كبرى، وهذا ما يقلق واشنطن وحلفاءها، حيث يعزز البرنامج النووي من قدرات طهران في مختلف الصعد، وهذا ما ترفضه واشنطن ومعها الكيان الصهيوني، وحلفاؤه «الرسميون» الجدد في منطقة الخليج.
5 ـ الهاجس الأميركي ـ «الإسرائيلي» من طهران، يستند إلى حقيقة لا يمكن تجاهها أو التغاضي عنها أو تحجيمها، وهي أنه رغم الحصار الاقتصادي والمالي والتجاري الأميركي الشرس الأحادي الجانب، والعقوبات القاسية المفروضة على إيران من جهات دولية عديدة، رضخت للإرادة الأميركية في هذا الشأن، وحظر المعدات العسكرية منها وإليها، لم تمنع إيران من ان تنطلق بقدراتها الذاتية، حيث استطاعت أن تحقق قفزات هائلة في مجال التكنولوجيا العسكرية، والصناعات المختلفة المتطورة والصواريخ الباليستية، التي فرضت توازن القوة العسكرية في غربي آسيا، لا سيما مع العدو «الإسرائيلي»، الذي أصبح في دائرة مرماها. وهذا أمر في غاية الخطورة والأهمية بالنسبة لواشنطن وتل أبيب وحلفائها في المنطقة، حيث تجهد أميركا بكلّ الوسائل من أجل وقف برنامج الصواريخ الإيرانية، ووضعه على جدول مفاوضات الأمر الواقع المستقبلية، ومن ثم تعطيله، بعد إخضاعه للرقابة الدولية المسبقة. وهذا بكلّ تأكيد أمر مرفوض بالشكل والأساس من جانب طهران.
6 ـ من غير المتوقع أن تفرج إدارة بايدن في أقرب فرصة، عن أموال إيران المجمّدة منذ عقود، أو ترفع عقوباتها عنها، ولن تسمح لحلفائها في العالم أن يتجاوزوا العقوبات بحقها، او
يعملوا على فكّ بعض القيود عنها. فالرئيس بايدن سيرى نفسه أمام إجراءات، سبق أن فرضتها الإدارة الأميركية في عهد ترامب على طهران، وبالتالي، لن تحمل إدارته الحالية أعباء جديدة. لذلك ليس من السهل عليه التراجع عنها، قبل أن يحصل في المقابل، ومسبقاً، على تنازلات إيرانية جوهرية ملموسة، يراها بايدن ضرورية كي تحقق واشنطن ما تبتغيه من إنجازات في هذا المجال، خاصة أنّ بايدن، كما الرؤساء الأميركيين السابقين، لا يستطيع تجاهل رغبات، ونفوذ، وضغوط اللوبيات اليهودية في الداخل الأميركي ودول في العالم، وتاثيرها الكبير في صنع القرار الأميركي ذات الصلة بالكيان «الإسرائيلي» ووجوده واستمراريته وأمنه، خاصة أنّ الإدارة الحالية لبايدن تضمّ عدداً من المسؤولين اليهود يتقلّدون مناصب رفيعة مؤثرة، كوزارة الخارجية، ووزارة الأمن الداخلي، قيادة الأركان، مديرية المخابرات الوطنية، وزارة الخزانة، رئاسة المستشارين الاقتصاديين، المخابرات CIA، المدّعي العام الفدرالي، نائب وزير الخارجية، رئيس فريق الموظفين في البيت الابيض وغيرهم.
7 ـ إنّ إيران التي تحمّلت العقوبات الأميركية والأممية على مدى عقود، ورفضت المساومة على حقوقها، التي تنال من قرارها وإرادتها وبرامجها الوطنية، لم تجعلها تخضع لسياسة الأمر الواقع الأميركي، بل زادت إصراراً على مواقفها وثوابتها بمعزل عن الإجراءات المالية الإقتصادية والتجارية الشرسة بحقها، فانطلقت بالتنمية الشاملة في مختلف الميادين، لتفرض نفسها كقوة إقليمية كبرى في الشرق الأوسط والعالم، ما يحتم على الولايات المتحدة ان تتخلى عن تصلبها، وتراجع حساباتها، لتتعاطى مع طهران بموضوعية قبل القيام بأيّ خطوات وإجراءات متهوّرة، سبق لترامب ان اتخذها وعمد على تنفيذها في أكثر من مكان وزمان، والتي لم تؤدّ إلى لوي الذراع الإيرانية، وذراع حلفائها، أو ان تحمل القيادة في طهران على التراجع عن سياستها ونهجها لتترك الساحة المشرقية مرتعاً خصباً، تهيمن عليها الولايات المتحدة و»إسرائيل».
8 ـ لا يعلق أحد الآمال، أو ينتظر أن يتمّ الاتفاق بين طهران وواشنطن في عهد بايدن بين ليلة وضحاها، فمسألة العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران، شائكة، ومعقدة، وصعبة جداً، لأنها ترتبط بالصميم بقضايا استراتيجية حيوية، واقتصادية وطاقوية، وأمنية حساسة للغاية، تتعلق مباشرة بالجهات المتصارعة المتباينة في منطقة الشرق الأوسط، لا يستطيع بايدن وإدارته التخلي أو التراجع عنها بسهولة، لا سيما أنّ كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وإنْ اختلفا في الداخل الأميركي، إلا انهما يتناغمان ويتوافقان استراتيجياً الى حدّ بعيد مع الكيان الصهيوني، في السلوك والنهج والتطبيق، حيال الجمهورية الإسلامية، ونظامها وسياساتها، وبرامجها العسكرية، التي تثير قلق واشنطن الشديد وأصدقائها وحلفائها في المنطقة.
9 ـ تعلم واشنطن أنها أمام عدو إيراني لا يهابها، ولا يخاف منها، يختلف كلياً عن كلّ الذين واجهتهم والذين وضعتهم أمام خيار من اثنين: الإطاحة بهم أو الركوع لها. إلا أنّ الولايات المتحدة وإنْ قست على إيران بعقوباتها، وألّبت دولاً عديدة ضدّها، تعي جيداً، أنّ الجمهورية الاسلامية بقيت بعد 42 عاماً من عمر ثورتها، صلبة قوية، ثابتة على مواقفها، متمسكة بحقوقها، ترفعها في وجه واشنطن وحلفائها في كلّ وقت، وفي كلّ مرة يريدون النيل منها، ولجم اندفاعها. إيران أعلنت مراراً وجهارة على لسان مرشد ثورتها الإمام الخامنئي، أنها ليست على استعداد مطلقاً، للتنازل عن حقوقها الوطنية وعن سيادتها، وبرامجها العسكرية الدفاعية، وخططها التنموية العلمية في مجال الطاقة والذرة السلمية، لاستخدامها في مجالات التنمية الاقتصادية والبشرية.
لذلك، من الصعب، ومن غير المحتمل أن يخطو الرئيس بايدن خطوة متقدّمة حيال طهران، تختلف جذرياً عن خطوات سابقيه، اذ أنه سيجد نفسه أسير الدولة العميقة، والمصالح الأميركية، وسياساتها، وحساباتها الاستراتيجية، وأيضاً أسير رغبات ـ إنْ لم نقل إملاءات ـ اللوبيات اليهودية كي يبقى الوضع على حاله على الأقلّ، والإستمرار في سياسة العقوبات المفروضة عليها،
واللجوء الى مزيد من الضغوط والإجراءات ضدّ إيران، هذا إنْ لم يكن هناك من أحمق قد يدفع في ما بعد، الرئيس بايدن إلى اتخاذ قرارات متهوّرة تفجر المنطقة من أساسها.
10 ـ لقد أخذت الولايات المتحدة علماً، أنّ العودة الى المفاوضات النووية من جديد، والتي دعت اليها، لا يمكن ان تجري قبل رفع العقوبات الأميركية عن إيران، وتحرير ودائعها في الولايات المتحدة ودول في العالم، وعودة واشنطن الى الإتفاق النووي الذي انقضّ عليه ترامب، وانسحب منه. فهذا أمر محسوم بالنسبة لطهران التي تعرف ما تريده وما تصرّ عليه وتتمسك به، ولن تتزحزح عنه مهما كان الثمن. لكن على واشنطن أن تدرك أخيراً انّ كلّ الأساليب والوسائل التي استخدمت بحق طهران، منذ كارتر مروراً بريغن وبوش الأب وكلينتون وبوش الإبن وصولاً الى أوباما وترامب، لم تمنع مطلقاً إيران من السير في طريقها الى هدفها المنشود، وإنْ فرضت واشنطن المزيد من العقوبات ووضعت العراقيل أمامها.
إنّ المواجهة مستمرة، بين محورين: محور واشنطن ومحور طهران، وهي مواجهة مهيأة للتصعيد، لأنّ الولايات المتحدة على يقين، أنّ محور إيران، رغم توسع مروحة الاعتراف العربي بـ «إسرائيل»، استطاع في السنوات الأخيرة أن يفرض قوته، ويعزز حضوره على الأرض، ليشكل تحدياً كبيراً لها ولـ «إسرائيل»، حيث بدأ يخلخل أمنها ووجودها من خلال تنامي قدرات المقاومة التي تحيط به من الداخل والمحيط. لذلك ستعمد واشنطن لحشد كلّ حلفائها، وبالذات الفصائل الإرهابية التي ضربت دول المنطقة، لإعادة تجميعها وتوزيع أدوارها من جديد، وتنفيذ ما يطلب منها.
إنّ السياسة العدائية لواشنطن حيال طهران لم تتغيّر حتى اللحظة، كما أنّ إيران بدورها لن تتراجع عن نهجها المتصدي للمحور الأميركي وأتباعه، ودعمها لقوى المقاومة، رغم الحصار والعقوبات المفروضة عليها، وأياً كان الرئيس الذي يحكم الولايات المتحدة. لذلك المواجهة مستمرة حتى إشعار آخر يأتي من واشنطن قبل طهران.