كيف تم احتلال كامل القدس؟ سر تفجير المسجد الأقصى؟ و لغز الفريق عبد المنعم رياض في عمان؟
إن الكاتب المصري المعروف أ. "مجدى منصور" قد اختار فقرات فارقة من الوثائق الإسرائيلية عن حرب يونيو(حزيران 67) التي نشرها الكاتب الكبير الأستاذ "محمد حسنين هيكل"(رحمه الله) في سلسلة مقالات بمجلة (وجهات نظر) والتي تم جمعها في كتاب بعد ذلك بعنوان (عام من الأزمات) ، يذكر أن الأستاذ مجدى منصور هو أحد تلاميذ الأستاذ هيكل رحمه الله.
إن نقاش أي حدث ليس وقتاً ضائعاً نبدده بل هو أمر واجب فحصه ودراسته واستلهام دروسه وعبره … وعلى هذا قررت أن تكون الوثائق الإسرائيلية التي نشرها الأستاذ محمد حسنين هيكل(رحمه الله) في مرجعه القيم (عام من الأزمات) هي التي تجيب على الأسئلة الحائرة لدى بعض «الجاهلين» أو «الشامتين» أو «الكارهين». وابدأ من اليوم بوضع مساحة مركزة من الوثائق على نقطة كي تقوم بكشفها وتظهر معالمها. مجدى
قيادات ؟
صباح ٥ يونيو سنة ١٩٦٧ – لم يكن لدى القيادة الإسرائيلية أو هكذا يبدوا من الوثائق أي قلق لوجود الفريق «عبد المنعم رياض» في مقر القيادة العامة في عمان، لأن الكل في إسرائيل كان على علم بأن القيادة العامة الأردنية في ذلك الوقت كانت هيكل قيادة في مدينة الزرقاء تصدر عنه الأوامر إلى غرفة عمليات بعيدة عنه في عمان . ثم إن غرفة العمليات في عمان تتصرف وفق أوامر سلطة أخرى لها وحدها شرعية القرار وقوته.
وعلى أي حال فإنه في الضحى يوم ٥ يونيو حوالي الساعة العاشرة والربع صباحا فتح أحد المدافع في القدس نيرانه على موقع قريب من جبل «المكبر»، وكان تعليق رئيس وزراء إسرائيل أن هذه طلقات «يبرا بها الأردن ذمته ويعفى نفسه».
وحين سأله «مناحم بيجين»: «أشكول.. أليست هذه فرصة لتحرير كامل أرض إسرائيل؟ – رد عليه «أشكول بأنه لا يوافقه على رأيه». و ألح «بيجين» بالسؤال، ورد «أشكول»: «القضية هي ما إذا كنا نريد الأمريكان معنا أو أننا استغنينا عنهم؟».
ثم قال «أشكول بعد فترة صمت – إن حائط المبكى يلح على ، ومن الواضح أن الشعب اليهودي كله يريدنا أن نأخذه – حتى «ميريام» (زوجته) حرضتني عليه مساء الأمس»
وحين راح «بيجين» يتساءل عن السبب الذى يدعو الأمريكان إلى الغضب إذا قامت إسرائيل بتحرير كامل أرض إسرائيل – كان رد «أشكول» أنهم «سوف يغضبون لأسباب كثيرة:
أولها- أن ذلك يجعل للحرب هدفا أوسع من إسقاط «ناصر» وتصفية التهديد المصري.
والثاني- أن الهاشميين لهم دور خاص في خطط الغرب.
والثالث- أن احتلالنا للقدس كلها سوف يضع الشيوخ العرب من أصدقاء أمريكا في حالة انكشاف!
و كانت المخابرات العسكرية الإسرائيلية (آمان) تضع أمامه دقيقة بدقيقة صورة كاملة للحقيقة الأردنية في تلك الساعة، وكانت «آمان» تحصل بالتسمع التليفوني على الأوامر الصادرة من القيادة العامة التي يجلس فيها الفريق «عبد النعم رياض» ويصدر من خلالها أوامره، متصورا أنها واصلة إلى التشكيلات في الميدان ، وفى نفس الوقت كانت «آمان» تلتقط الإشارات الحقيقية الصادرة من غرفة العمليات الخاصة في عمان(التي يقودها الملك حسين) إلى التشكيلات، وكان في وسعها أن ترى الفارق الهائل بين الاثنتين.
– الأوامر الأولى (من القيادة العامة في الزرقاء وفيها الفريق رياض) تحرض على القتال..
– والإشارات الثانية (من غرفة العمليات في عمان وفيها الملك حسين) تتوقى نشوبه!
وبرغم «الحقيقة» فإن بعض ما توقعته الخطط الإسرائيلية حدث، فقد سمعت على مواقع متعددة من الجبهة عصر يوم ٩ يونيو طلقات مدفعية ودفعات مدافع رشاشة.
وقبل الظهر انتهز «أشكول» رئيس وزراء إسرائيل فرصة مقابلته للجنرال «أو دبول» القائد النرويجي للقوات الدولية المراقبة للهدنة وطلب منه نقل رسالة منه إلى الملك «حسين» يبدى فيها حرص إسرائيل على عرشه، ويطلب منه توخى الحذر أكثر لأن «بعض مدافعه تطلق نيرانها الآن».
لكنه ما كاد الجنرال «أودبول» يخرج من مكتب رئيس الوزراء حتى دخله «مناحم بيجين» ومعه الجنرال «ييجال آللون» يُلحان على رئيس الوزراء أنه «الآن وأصوات طلقات المدافع والرشاشات تسمع قرب القدس وحولها فإن الفرصة ملائمة على الأقل لتحرير القدس، ولن يغفر لنا «الشعب اليهودي أبداً إذا ضيعنا الفرصة السانحة هذه اللحظة».
وصباح يوم ٦ يونيو قام «موشى ديان» بإخطار رئيس الوزراء (مجرد إخطار) بأنه أمر «بمحاصرة القدس» لأنه «لا يريد قتالا حول المدينة المقدسة يطول أياً من معالمها ويثير ثائرة ألعالم الإسلامي والعالم المسيحي».
ويستطرد الإخطار، «لقد لفت نظري أن القوة التي بدأت تحاصر القدس اكتشفت أنه ليس أمامها مقاومة من أي نوع، وأن قوات الجيش الأردني تنسحب بانتظام من المدينة، وإن كان بعض السكان الفلسطينيين يقاومون».
(ولم يكن في أيدي هؤلاء سلاح مؤسر لأن السلطات الأردنية لم تكن تسمح للمدنيين في الضفة الغربية والقدس بحمل السلاح.)
وفى الصباح الباكر من يوم ٧ يونيو أصدر الجنرال «موشى ديان» أمره إلى القوات الإسرائيلية «أن تنتقل إلى داخل القدس». لم يكن أمره «قتالا» ، وإنما كان نص أمره: “انتقالا ” «أن تنتقل» . TO Move
وصدر الأمر إلى القوات في الساعة السابعة. وقبل الساعة العاشرة (بعد أقل من ثلاث ساعات) كانت القوات الإسرائيلية قد انتقلت وسيطرت على المدينة المقدسة بكاملها، وكان الجنرال «موشى ديان» على موعد لدخولها ومعه الجنرال «رابين» رئيس الأركان، والجنرال «أوزى ناركيس» قائد المنطقة الوسطى. ووقف «ديان» أمام حائط المبكى وفاجأ الجميع بأن «جيش الدفاع الإسرائيلي أتم هذه اللحظة تحرير القدس موطن المقدسات اليهودية وأعاد توحيدها عاصمة لإسرائيل غير قابلة للتقسيم مرة أخرى».
وقرأ رئيس الوزراء الإسرائيلي في البرقيات ما قاله وزير دفاعه، وكذلك كان علمه لأول مرة بهذا القرار السياسي الخطير!
كيف كان سيتم تفجير المسجد الأقصى؟
وفي الوثائق الإسرائيلية رواية بالغة الدلالة بلسان الجنرال «أوزى ناركيس» حكى فيها أنه «بعد نصف ساعة تقريبا من وقوف «ديان» و«رابين» وهو شخصيا (الجنرال «ناركيس» قائد الجبهة الوسطى) أمام حائط المبكى هرع إلى الموقع كبير حاخامات الجيش الإسرائيلي الجنرال «شلومو جورين»
ويسجل الجنرال «ناركيس» «إنني وقفت بجوار كبير الحاخامات وهو يتلو بعض الادعية بصوت عال وسط تزاحم ضباط وجنود من الوحدات جاءوا لمشاهدة الحائط وملامسته تبركا، وجاء إلى كبير الحاخامات يأخذني من يدى جانبا ويقول لي همساً:
– «أوزى – أليست هذه هي اللحظة الملائمة لوضع مائة كيلوجرام من المفرقعات في مسجد «عمر» و «قبة الصخرة» حتى تتوقف دعاوى المسلمين بوجود حق ديني أو تاريخي لهم في القدس؟»
– وقلت لكبير الحاخامات: «أرجوك … ذلك أمر لا داعى له وسوف يثير الدنيا علينا». وسألني: «أي دنيا سوف يثيرها؟» – وقلت: «المجتمع الدولي وعلى رأسه أمريكا. أمريكا لها صداقات تحرص عليها في المنطقة، ونحن أيضا لنا أصدقاء في العالم الإسلامي: تركيا وإيران بالذات، وإندونيسيا وباكستان، وغيرهم كثيرون»!
ـ ولكن كبير الحاخامات أصر على مواصلة دعوته قائلاً لي:
«أوزى هذه فرصتك لدخول التاريخ «وأنت تضيعها». ورددت مضطرا عليه: «بأنني سجلت اسمى في كتب التاريخ بدخول القدس وانتهى الأمر».
وأدار كبير الحاخامات ظهره لي ومشى بعيدا»!.
وحتى مساء يوم ٧ يونيو كان «موشى ديان» يقصر عملياته في الشرق على القدس وحدها لا يتجاوزها ، وكانت قواته التي أحاطت بالمدينة تجس المواقع الأردنية وتتحسس أوضاعها. وفى الساعة السابعة مساءا تلقى «ديان» إشارة بعث بها قائد أحد الألوية المدرعة يقول فيها:
«أن داورية من وحداته المتقدمة بغرض الاستكشاف وصلت إلى مواقع ترى منها «أريحا بالعين المجردة دون أن تقابل في طريقها أية مقاومة».
ورد «ديان بنفسه على قائد اللواء المدرع يطلب إليه:
«أن يستعيد دوريته ويسحبها فورا».
لكن المثير للدهشة بعد ذلك أنه نتيجة لعملية الاستكشاف التي وصلت إلى حيث ترى «أريحا» بالعين المجردة أمامها. فإن مركز العمليات في عمان (الذى يقوده الملك حسين) أصدر إشارة تأمر بانسحاب عام من الضفة الغربية كلها تجنبا لمحظور اشتباك واسع بين القوات الأردنية والقوات الإسرائيلية.
وكانت الإشارة الأردنية أمام «موشى ديان» بعد دقائق من صدورها، وكان رد فعله إزاءها على عكس ما كان عليه موقفه قبل أقل من ساعة، فقد أصدر الأمر – ودون رجوع إلى مجلس الوزراء أو إلى أي سلطة سياسية بدخول القوات الإسرائيلية وانتشارها في كل الضفة الغربية، وطول الليل كان ذلك يتم بسرعة ونظام.
وفي اجتماع حضره رئيس أركان الحرب الجنرال «إسحاق رابين» وعدد من ضباط القيادة العليا تساءل «رابين»:
«كيف يمكن لقواتنا أن تسيطر على مليون مواطن عربي يعيشون في الضفة الغربية؟».
وقاطعه أحد ضباط أركان الحرب يصحح أرقامه قائلا له:
«مليون ومائتين وخمسين ألف من العرب يا جنرال».
ولم يعلق «ديان»!
وكتب الجنرال «أوزى ناركيس» قائد الجبهة الوسطى في تقرير رسمي:
«إن ما حدث على الجبهة الأردنية ما زال يثير استغرابي، فعندما بدأت بعض المواقع الأردنية تطلق نيرانا متقطعة، خطر لي أنها فرصة نستفيد منها، وكذلك طلبت إذنا باحتلال منطقة «اللطرون» – لكن الجنرال «ديان» رفض طلبي.
وأعدت الكرة مرة ثانية بعد ساعة ، وللمرة الثانية رفض «ديان» طلبي.
وكان علي أن أفهم رفضه لطلبي المتكرر لالتزامه بسياسات إسرائيل إزاء المملكة الأردنية الهاشمية:
• فالحكومة لا تريد احتلال الضفة الغربية – بل تعارضه بوضوح..
• وقوات جيش الدفاع لم تواجه أي تحد حقيقي يستفزها للرد بقوة عليه».
ومع ذلك فإن النتيجة النهائية جاءت شيئا لم يخطط له أحد – فقد جرى على الجبهة الأردنية نفس ما جرى على الجبهة المصرية مع اختلاف الظروف ، والسبب مرة أخرى هو أن السلاح أغراه تفوقه ، كما أن الزحف العسكري أغوته مساحة الأرض المفتوحة أمامه.
كان الغرور غلاباً، والإغراء لا يقاوم ، و«الخطيئة أجمل من أن تقاوم» بصرف النظر عن الخطة ، وكذلك انحرفت استراتيجية إسرائيل – وانجرفت الاستراتيجية العليا التي وضعها المؤسسين الأول لمشروع الدولة اليهودية.
الوثائق الإسرائيلية – الأستاذ محمد حسنين هيكل رحمه الله
لمن فاتته متابعة الجزئين السابقين :