سنتكلّم تفصيلياً عن تعريف هذه الظاهرة الخطيرة، طُرق التعرّف عليها، كيفية حدوثها، اسبابها، طُرق علاجها والوقاية منها. وسوف نحاول ان نُخصّص حيّزاً مهماً من هذا البحث للحديث عن الموت المفاجئ عند الرياضيين، وما هي اسبابه، العوامل التي تُؤدّي الى زيادة نسبة هذه الأحداث الخطيرة وعرض بعض التوصيات لمنع حصول هكذا حالات مُميتة في اغلب الأحيان.
1-مقدمة:
في البداية لا بُدّ من الإشارة الى اننا لا نملك إحصاءات او ارقام دقيقة حول عدد هذه الحالات في لبنان وخاصةً عند الرياضيين، لكننا نُشاهد ونسمع ونقرأ عن حصول حالات موت مفاجئة دون اي سابق إنذار عند العديد من الشباب في سنٍ مُبكر جداً، ودون اي سابق إنذار. وقد تحصل هذه الأحداث في حالة الراحة التامّة، اي خلال الليل واثناء النوم، او خلال القيام بأي نشاط رياضي على سبيل التسلية او خلال المُشاركة في مُنافسة مُعيّنة عند المُحترفين. ولأخذ فكرة عن هذه الظاهرة الخطيرة في الدول المُتقدّمة، يُقدّر عدد حالات الوفاة القلبية المُفاجئة بحوالي 40.000 إلى 50.000 حالة في فرنسا سنوياً. وتُعرّف مؤسسة القلب والأبحاث الفرنسية هذه الحالة بأنها حالة “موت طبيعي مع فقدان مُفاجئ للوعي في غضون ساعة من ظهور الأعراض، في حالة إصابة أو بدون مرض قلبي معروف”. ولأن هذه الآفة تُمثّل مُشكلة صحية عامة، فمن الضروري تحسين المعرفة الجيدة بتعريف هذه الحالة، أسبابها، بالإضافة إلى سُبل الوقاية. ففرص البقاء على قيد الحياة بعد حصوله مُنخفضة للغاية حالياً ومُعدّل البقاء على قيد الحياة بدون عواقب او إختلاطات دماغية او عصبية كبيرة هي أقلّ من 3 ٪ في فرنسا.
2-تعريف هذا العارض:
يُشير الموت المفاجئ لأسباب قلبية إلى أي وفاة لم يكن من المُمكن توقّعها في اليوم السابق. ويتميّز الموت القلبي المُفاجئ بالموت الطبيعي مع فقدان مُفاجئ للوعي في غضون ساعة من ظهور الأعراض. فهي إذاً وفاة غير مُتوقّعة وتحدث عند شخص يبدو أنه يتمتّع بصحة جيدة. وما يزال حتى اليوم ما يقرب من نصف الوفيات المُفاجئة غير مُبرّر او معروف السبب.
وبشكلٍ علمي اكثر دقّة، هو إذاً موت مُفاجئ ناتج عن توقّف في عمل القلب وتوقف وظائفه، بغضّ النظر ما إذا أفلحت وسائل الأنعاش ام لا عند الضحية، أو إذا عاد القلب للعمل بشكلٍ تلقائي ام لا. اما الأشخاص الذين يعيشون بعد توقّف قلبهم عن العمل فيُطلق عليهم أنهم تعرضوا لحالة “موت مفاجئ قلبي فاشل” أو “مُجهض”. والبعض يُعرّف هذه الحالة أيضاً بأنها حالة موت مُفاجئ قلبي أو موت يحصل بعد مرور ساعة من بداية ظهور الأعراض الناتجة عن المرض المُسبّب لهذه الوفاة. وقد يسبق هذه الوفاة أعراض مثل ألم في الصدر أو ضيق نفس أو تعب أو إضطراب في ضربات القلب أو حالة إغماء. وهي أعراض قد تكون قد بدأت في الظهور لأشهر طويلة قبل الحادث، وفجأة قد تظهر عند المريض إضطرابات خطيرة في ضربات القلب أو هبوط حادّ في الضغط الشرياني أو ضيق تنفُّس شديد أو شعور بثقل كبير في الرأس. وخلال ساعة يتطوّر المشهد إلى حالة توقّف كامل في وظائف المضخّة القلبية وغياب كامل عن الوعي، ويدخل المريض في غيبوبة قد تكون نهائية، بحيث تُؤدّي هذه الحالة إلى وفاة المريض إذا لم تُفلح وسائل الإنعاش في إعادته إلى حالة مُستقرّة. وفي بعض الأحيان قد تُفلح هذه الوسائل ويتمّ إنقاذ المريض الذي ينقل إلى المستشفى الأقرب من أجل العلاج وإجراء الفحوصات اللازمة.
3- كيفية حدوث هذه الحالة:
في أغلب الأحيان يكون سبب الوفاة القلبية إضطراب خطير في ضربات القلب التي قد تكون نابعة من البطين الأيسر أو الأيمن على شكل تسرُّع خطير في ضربات القلب (Ventricular tachycardia)، أو على شكل رجفان بطيني (Ventricular fibrillation). والرجفان البطيني هو “تسارع خطير،مفاجئ، شديد وفوضوي في نبضات القلب “. وبشكلٍ ملموس، يحصل مثلاً عن الضحية إنسداد مفاجئ في احد الأوعية الدموية التي تنقل الدم المؤكسج إلى عضلة القلب، فيحصل قصور قلبي حادّ، وبالتالي لا يستطيع القلب ضخّ الدمّ وإمداد الدماغ والرئتين و الأعضاء الأخرى بإحتياجاتها من الدم والأغذية، ومن المُمكن بعدها أن يُصبح نبض القلب غير فعّال كلياً، ويتوقف في اغلب الأحيان في هذه الحالة، مما يُؤدّي للوفاة. وهكذا يتوقّف الشخص عن التنفّس ويفقد وعيه ويقع بقوة في الأرض، في منزله، او في مكان العمل، او الشارع،او مركز التسوّق او الملعب الذي كان يتنافس فيه مع زملائه او في اي مكان كان مُتواجد فيه.
4-الموت المفاجئ عند الرياضيين:
يبدو أن كبار الرياضيين هم أكثر عُرضة للإصابة بالموت المفاجئ. ففي الواقع تُشير التقديرات إلى أن ربع الوفيات المُفاجئة تحدث أثناء أو بعد بذل جهد مُكثّف او مُطوّل. وفي كل عام يموت 2 من كل 10000 رياضياً مُحترفاً بسبب الموت المُفاجئ بسبب السكتة القلبية المُفاجئة (وفقًا لآخر النتائج والبيانات الصادرة عن اللجنة الأولمبية الدولية في عام 2004). ووفقاً لهذه الدراسة نفسها، فإن الرياضات الأربعة التي تُسبّب معظم حالات الموت المفاجئ هي الجري (الركض) وكرة القدم وكرة السلّة وركوب الدراجات الهوائية.
ومُؤخراً فتحت حادثة الإصابة، التي تعرّض لها نجم المُنتخب الدانماركي “كريستيان إيركسن”، المجال للحديث مُجدداً وبقوّة عن الإصابات الخطيرة، التي يتعرّض لها اللاعبون في ملاعب كرة القدم. وسقط إيركسن بشكلٍ مفاجئ فوق أرض الملعب قبل نهاية الشوط الأول، ليهرع إليه اللاعبون والمُسعفون، واستمرّ إسعافه لبضع دقائق، قبل أن يتمّ نقله بسرعة إلى المستشفى، حيث بقي لتلقي العلاج. وقد احيت تلك الحادثة الأليمة ذكرى أليمة اخرى لدى عُشّاق كرة القادم، تتعلّق بوفاة لاعب المُنتخب الكاميروني “مارك فيفيان فويه”، الذي توفّي فوق أرض الميدان عام 2003، في مباراة الدور نصف النهائي لكأس العالم للقارات، ضدّ منتخب كولومبيا، بعدما توقّف قلبه وفشل المُسعفون في إنعاشه.
وفي شهر آذار/مارس 2018 توفي ثلاثة لاعبين فرنسيين شُبّان بسبب سكتة قلبية في الملعب، على الرغم من عدم وجود مخاطر كبيرة مُدوّنة في سجلّاتهم الطبية.
وعند الرياضيين الذين تزيد أعمارهم عن 35 عاماً، يكون هناك دائماً عيباً في القلب كما سنرى لاحقاً: إما على شكل اعتلال عضلة القلب الضخامي والذي ينتج عنه وجود قلب سميك جداً، أو عن مرض “عدم انتظام ضربات البطين الأيمن الناتج عن خلل التنسّج في هذا البطين (Arrhythmogenic Right
(Ventricular Dysplasia ، وهو مرض في عضلة القلب يصيب القلب الأيمن خاصةً وينتج عنه ترسّب مواد دهنية والياف في البطين الأيمن خاصةً، ويُؤدّي الى حصول إضطرابات خطيرة في ضربات القلب، الموت المُفاجئ وقصور القلب. اما عند الرياضيين الأصغر سناً ، فيكون هناك في 80٪ من الحالات تشوّهاً خلقياً في أحد الشرايين التاجية الثلاثة للقلب. وفي هاتين الحالتين ، يمكن لفحص التصوير الصوتي للقلب مع الدوبلر Cardiac (echo doppler أو مخطط كهربية القلب البسيط (EKG) ، الذي يجب ان يتمّ إجراؤهما عند الرياضيين المُحترفين بشكلٍ دوري، اكتشاف هذه الحالات الشاذة وبالتالي تقليل عدد الوفيات بشكلٍ كبير.
5- أسباب هذه الحالات:
في 9 حالات من أصل 10، يكون سبب الوفاة المفاجئة هو أمراض القلب والأوعية الدموية. وعند الأشخاص الذين تقلّ أعمارهم عن 45 عاماً، من المُمكن أن يرتبط الموت المفاجئ بأمراض القلب الوراثية غير المُكتشفة كما سنرى.
من المُمكن أن نُقسّم أسباب هذه الحالات إلى عدّة مجموعات مختلفة. ومن المعروف أن أكثر من 80% من حالات الموت المفاجئ القلبي تحدث عند مرضى يُعانون من مرض التصلّب في الشرايين التاجية للقلب، والذي يُؤدّي كما ذكرنا في مقالات سابقة الى “ذبحات قلبية حادّة” او الى حالة “خناق صدري مستقرّ او غير مُستقرّ”، وبالتالي احياناً كثيرة في هذه الحالات الخاصة إلى الإصابة بإضطرابات خطيرة في ضربات القلب. ولكن في بعض الحالات الأخرى قد يكون المرض في عضلة أو صمّامات القلب أو في الشبكة الكهربائية القلبية ذاتها كما سنذكر لاحقاً.
A- أمراض نقص تروية عضلة القلب: (Ischemic heart disease) وهي من أهم الأسباب وأكثرها إنتشاراً. ويأتي في مُقدّمتها مرض تصلّب الشرايين التاجية للقلب وما ينتج عنه من أزمات قلبية مثل “الذبحة القلبية” او “إحتشاء عضلة القلب” ( Myocardial infarction)، أو “الخناق الصدري المُستقرّ” أو “غير مُستقرّ”. وهذه الأزمات قد تُصيب أحياناً المُدخّنين الشباب الذين قد يكون عندهم أيضاً تشوّهات خلقية في في عضلة او في شرايين القلب، أو قد يُعانون أحياناً من أمراض تتسبّب عندهم بألتهابات قد تُصيب جدار الشرايين التاجية للقلب عندهم مثل مرض (Kawazaki disease)، أو قد تتعرّض أحياناً للإنسلاخ أو التمزّق ( Coronary artery dissection) خلال القيام بجهد مُعيّن.
وأخيراً قد يكون سبب الأزمة حصول تشنّجات خطيرة في هذه الشرايين التاجية للقلب (Coronary spasm)، سببها الأوّل والأساسي هو التدخين او تناول بعض انواع المخدّرات مثل “الكوكاين” ومُشتقّاتها خاصة.
B- أمراض القلب غير المُتعلقة بنقص التروية : (Non ischemic heart disease)، ومن أهمّها مرض تضخّم العضلة الإنسدادي (Obstructive hypertrophic cardiomyopathy)، أو مرض توسّع العضلة (Dilated cardiomyopathy)، أو مشاكل الصمّامات وخاصة إنسداد الصمام الأبهر للقلب، أو الأمراض والتشوّهات الخلقية التي قد تُصيب القلب (Congenital heart disease)، أو إلتهابات عضلة القلب الحادّة الشديدة (Myocarditis)، أو مرض البطين الأيمن المُسبّب لإضطرابات في كهرباء القلب (Arrythmogenic right ventricular dysplasia) الناتج عن عدم تنسّج البطين الأيمن ورشح مواد دهنية وليفية في داخله(كما ذكرنا) مع إمكانية حصول إضطرابات خطيرة في ضربات القلب وحالات موت مُفاجئ. وأخيراً إلتهابات وإحتقان غشاء القلب أو تمزّق الشريان الأبهر (Acute Aortic dissection).
C- أمراض القلب “غير البنيوية” (Non structural heart disease):
وهي أمراض مُتعدّدة نذكر منها مرض “الرجفان البطيني التلقائي” أو “الغير معروف السبب” (Idiopathic ventricular fibrillation)، “متلازمة بريغادا (Brugada syndrome)، “متلازمة Long QT syndrome”، “مرض Wolf Parkinson White”، أمراض توقّف كهرباء القلب في الشبكة الداخلية للقلب (Complete heart block)، وأخيراً الصدمات العنيفة للجدار الصدري التي قد تُؤدّي إلى إضطرابات خطيرة في ضربات القلب (Commotis cordis).
D- أسباب “غير قلبية”: وهي أيضاً مُتعددة ونذكر منها مرض الربو والأمراض الرئوية المُتقدّمة الأخرى، الجلطة الرئوية، النزيف الدماغي الحادّ، التعرّض ل”ضربة شمس”، تناول المُخدرات والمنشطات والأدوية التي تُحسّن الأداء، الإنسداد التنفسي الناتج عن سبب مركزي وغيرها من الأسباب النادرة.
وهنا لا بُدّ لنا ان نذكر أنّ المجموعة الأولى من هذه الأمراض تُسبّب حوالي 65-70% من حالات الموت المفاجئ. ونشير ايضاً إلى أن الموت المفاجئ يُشكّل حوالي 30 الى 50% من حالات الوفيات الناتجة عن أمراض الشرايين التاجية للقلب، وأنّ خطر الإصابة بإضطرابات خطيرة في ضربات القلب يوجد خلال الـ 48 ساعة الأولى بعد التعرّض لذبحة قلبية حادّة، ولذلك توجد ضرورة قصوى من أجل مُراقبة هؤلاء المرضى في غرفة العناية الفائقة القلبية خلال هذه الفترة الحرجة. وهذا السبب هو الذي استدعى في خمسينيات القرن الماضي إيجاد وتنظيم عمل غُرف العناية القلبية المركّزة (Intensive Care Units: ICU) من اجل إدخال المرضى اليها خلال الأيام الأولى الحرجة بعد تعرّضهم لأزمات قلبية حادّة.
ونشير أيضاً إلى أن مرض تضخّم عضلة القلب هو السبب الأول للوفاة المُفاجئة عند الشباب (أقلّ من 35 سنة)، وهو ناتج في هذه الحالة أيضاً عن تعرّضهم لإضطرابات خطيرة في ضربات القلب (Ventricular arrhythmias)، وأن سبب هذه الإضطرابات الخطيرة غير واضح حالياً رغم ان بعض الخبراء يعتقدون ان التكاثر العشوائي لخلايا عضلة القلب في هذه الحالة قد يُؤدّي لحصول إضطرابات خطيرة في كهرباء القلب عند هؤلاء المرضى.
لمن فاته متابعة الأجزاء السابقة :