من الاتحاد السوفياتي الى روسيا الاتحادية: ماذا عن الشرق الاوسط؟ سلسلة “الدب الناعم” (1)
يعرض الملف الاستراتيجي للمحور الاول من سلسلة " الدب الناعم" : روسيا والشرق الاوسط. حيث يناقش الباحثون الخمسة السؤال التالي: ثمة وقائع تدفعنا للوقوف عند التغيرات التي طرأت على الدور الروسي حيال الكثير من ملفات المنطقة. بماذا تختلف روسيا الاتحادية عن الاتحاد السوفياتي في النظرة الى هذه الملفات؟ (أدار المحور د. مازن مجوز)
ألكسندر زاسبكين، السفير الروسي السابق في لبنان
أرى تشابهاً لنظرة روسيا الاتحادية برئاسة فلاديمير بوتين والاتحاد السوفياتي (قبل برسترويكا ) الى العالم والشرق الاوسط . فروسيا تطلب شراكة مع الغرب على قدم المساواة، وهذا قريب من مبدأ التعايش السلمي الذي كان يتمسك به الاتحاد السوفياتي، وثانياً تقدم روسيا اليوم إقتراحات بناءة لتأمين الأمن والاستقرار الدولي، أما ثالثاً فتدرك روسيا كما كان يدرك الإتحاد السوفياتي، أن الغرب يسعى الى التوسع والسيطرة والهيمنة .
ومن هنا، فالمطلوب مواجهة مخططات غربية، وفي هذه النقطة هناك فارق بين روسيا والاتحاد السوفياتي، فهو كان يمثل قطباً في وجه القطب الامريكي، وكان يتصرف في إطار المعسكر الاشتراكي وبتحالف مع الحركة الوطنية التحررية، أما روسيا فتسعى الى إقامة النظام المتعدد الاقطاب المتوازن، وتتحالف مع الاطراف المعنية للحفاظ على وحدة الدول وحماية سيادتها ومحاربة الارهاب.
واليوم، أصبح واضحاً أن الغرب يعتبر روسيا عدواً تاريخياً له، لأن الشعب الروسي أممي، ويقف الى جانب الشرعية والعدالة دائماً، وهذا الواقع تبين خلال المرحلة الاخيرة بما في ذلك في الشرق الاوسط، عندما وقفت روسيا تأييداً للإصلاحات والحوار الوطني في الدول العربية من دون تدخل خارجي. فيما دعم الغرب العدوان على ليبيا وأيضاً الهجوم الارهابي على سوريا وزرع الفتن في الكثير من المناطق حول العالم.
كما لا ننسى كيف دعم الغرب الحرب الباردة، حيث عمل كل ما بوسعه لشيطنة الاتحاد السوفييتي كدولة شيوعية، فيما نلاحظ أن هجوم الاعلام الغربي على روسيا قد يتجاوز الهجوم على الاتحاد السوفياتي، وتجري الحرب الاعلامية بشكل أكثر تنوعاً، ومن دون أي حدود أو قواعد وتعتمد على “روسوفوبيا ” وتزوير الوقائع بالكامل وصنع صورة مغايرة عن روسيا أمام العالم.
من الواضح أن الشرق الاوسط تحول إلى مسرح للصراعات والنزاعات، وليس إلى منطقة التعاون، هذه الحالة تكونت بعد الحرب العالمية الثانية ولم تتغير، وكان الاتحاد السوفياتي يقف الى جانب تنفيذ قرارات الامم المتحدة الخاصة بالنزاع العربي الاسرائيلي، وتواصل روسيا هذا النهج تاكيداً على ضرورة إيجاد الحل العادل للقضية الفلسطينية، وتدرك خطورة توريط الدول العربية في دوامة النزاعات الطائفية، إذ تدعو الى تنقية الاجواء في المنطقة وخصوصاً في الخليج، كما وطرحت روسيا “نظرية الأمن في الخليج” التي ترتكز أساساً على التخلص من حالة عدم الثقة والخلافات القائمة .
بالطبع، كان الاتحاد السوفياتي يدرك وقاحة الغرب، وكان يوحد حوله الشعوب المناضلة، ونسج تعاوناً خصوصاً مع الحركة الوطنية التحررية العربية بكل أحزابها وفصائلها وتياراتها، وأصبح إنهيار الاتحاد السوفياتي وتفككه كارثة ليس لشعوبه وحسب، بل للحركة الوطنية التحررية العربية، وخلال السنوات الاخيرة للاتحاد السوفياتي والسنوات الاولى لروسيا الاتحادية تغير دور روسيا في المنطقة بشكل جوهري، لكن أوضاع المنطقة تغيرت بشكل سلبي جداً، وتقدمت أميركا وحلفائها بالمشاريع التدميرية ضد دول ذات سيادة، وحصل الإنقسام في العالم العربي الذي سهل وقوع ما يسمى “الربيع العربي” الذي ادى الى دمار وتعميق الخلافات وإنتشار الارهاب والتطرف في المنطقة .
ومن الضروري أن نشير إلى أن روسيا إستعادت قدراتها برئاسة بوتين خصوصاً في المجال العسكري وتعززت مواقفها تدريجياً في المنطقة، وأصبحت عاملاً فعالاً في الحد من التحرك الارهابي ومن توسع المشروع الاميركي الغربي لترتيب الاوضاع في الشرق الاوسط عبر إسقاط الانظمة الشرعية وتكوين الكونتونات الطائفية.
أما عند المقارنة ما بين الاتحاد السوفياتي والاتحاد الروسي، فيجب إدراك الحقيقة التالية :
– إن روسيا اليوم تعتمد على تراث حضاري تكون خلال قرون، وهي تتمتع بإحتياط هائل منه، وأصبحت قادرة على ممارسة علاقات مع عدد كبير من الدول التابعة لمعسكرات مختلفة. في المقابل هي لا تسعى الى الزعامة إلا أنه من الواضح أنها قادرة على لعب ” دور مفتاحي ” في القضايا الدولية والاقليمية منها ما ظهر في سوريا وأخيراً في ناغورني كاراباخ.
وباختصار، فإن روسيا الاتحادية تتصرف وفقاً لتقاليد الامبراطورية الروسية والاتحاد السوفياتي تعويضاً لخسارة تفكك الاتحاد السوفياتي ولإستعادة نفوذها في الشرق الاوسط ، وذلك طبقا لامكاناتها، وتسعى الى التعاون الواسع وتدرك ضرورة حماية مصالحها وتلاحم حلفائها في مواجهة تحديات نابعة من الاطماع الغربية.
اندريه أنتيكوف، المحلل السياسي الروسي
الفارق الرئيسي بين روسيا والاتحاد السوفياتي هو أن موسكو لا تتمسك بالأيديولوجيا الشيوعية في سياستها الخارجية وهي ترى أن هذا أمر داخلي . فروسيا اليوم تطور علاقاتها مع دول الشرق الأوسط على أساس المساواة. وهي لا تريد أن تضحي بمصالحها، لا بل جاهزة لاحترام مصالح شركائها، حتى مصالح غير حلفائها مثل الولايات المتحدة.
وبرأيي، فإن السياسة الخارجية السوفياتية كانت ضد الاستعمار، بينما روسيا تعتقد أن حصول على الإستقلال لا يكفي الآن. بل هناك ضرورة الابتعاد والتخلي عن نظام القطب الواحد وعلى رأسه واشنطن، وأن هناك ضرورة إلى الإنتقال الى العالم ذي الأقطاب المتعددة. ومن هنا تصر موسكو دائماً على أهمية تعزيز دور المنظمات الإقليمية مثل جامعة الدول العربية والاتحاد الافريقي.
من واجب هذه المنظمات أن تلعب دوراً رئيسياً في إيجاد حلول للأزمات والصراعات في المنطقة، وإستناداً إلى ذلك دعت روسيا في شهر يوليو عام 2019 إلى تشكيل منظمة الأمن والتعاون في الخليج. ومن المفترض أن تنضم اليها دول المنطقة فقط، أما الدول الأخرى بما في ذلك روسيا فلها دور الدور المراقب لا أكثر. ما يعني أن الهدف الرئيسي هو أنه يجب على دول الخليج أن تجد حلول مناسبة لنزاعاتها بنفسها ومن دون التدخلات الخارجية.
وهنا اقصد قبل كل شيء الدور الأمريكي والسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط وخارجها، الذي يقوم على أساس “فرق تسد” . فالولايات المتحدة تستفيد من تشجيع وتعميق الأزمات والصراعات. وفي نفس الوقت في حال لم تتمكن دول المنطقة من إيجاد الحل المناسب عندها ستصبح الأوضاع أخطر فأخطر، فدور اللاعبين الأجانب مسموح في إطار قرارات مجلس الأمن فقط. بمعنى أنه يجب أن يكون هناك قرارات تحدد خطوات معينة لتجاوز الخلافات الموجودة. وهذا هو الموقف الروسي المبدئي.
فموسكو ترفض رفضاً قاطعاً أن تحدد الولايات المتحدة وترسم المستقبل لدولة أخرى وتتخذ القرار عن بقاء الأنظمة الحالية أو إسقاطها سواء كان ذلك بالقوة أو عن طريق التظاهرات المدعومة أو الممولة من الخارج.
إذ لا يمكن للولايات المتحدة أن تتخذ قراراً ببدء الحرب أم بقاء السلام، ومن غير المقبول فرض العقوبات الاحادية خارج إطار مجلس الامن. ولكن هذا لا يعني أن موسكو تسعى لتكون قطبا ثانياً كما كان الأمر في أيام الاتحاد السوفياتي أو لإطلاق مواجهة جديدة مع واشنطن. هذه سياسة براغماتية وهدفها ليس إبادة البعض بل تشكيل ظروف ملائمة لكل الدول كي تتطور وتتنافس في ما بينها. ونلاحظ أن في بعض أنحاء العالم يتم تقوية تحالفات ومنظمات مثل “منظمة شانغهاي للتعاون” و”تكتل البريكس” ونرى أن دورهما يتزايد. ونرجو أن يتعزز أيضاً دور المنظمات الاقليمية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والقارة الافريقية كلها. من الواضح أن هذا يتطلب كثير من الوقت خصوصاً في ضوء عدم وجود الرغبة لدى الولايات المتحدة بخسارة لدورها ك” شرطي ” للعالم . ولكن هذا وارد وروسيا من جهتها ستساهم في تحقيق هذه الخسارة.
يوسف مرتضى، إعلامي وكاتب، ناشط في المجال السياسي والاجتماعي. منسّق الإعلام في جمعية الصداقة اللبنانية الروسية
روسيا هي من كان يدير الإتحاد السوفياتي، الهدف نفسه من العهد القيصري إلى العهد السوفياتي إلى العهد الحالي وهو الوصول إلى المياه الدافئة، حققت ذلك في العهد السوفياتي في دعمها للعرب في الصراع العربي الإسرائيلي، فسلّحت مصر وسوريا وقاتلت إسرائيل إلى جانبهما بصيغة خبراء في حربي ال٦٧ وال٧٣ واحتلت موقعاً على البحر المتوسط بحكم تحالفها أو تعاونها وتسليحها سوريا وليبيا والجزائر واليمن الديمقراطي وبالتأكيد مصر . كان ذلك في زمن الحرب الباردة . وبعد تفكك الإتحاد السوفياتي وما شهدته الأنظمة العربية من تغّير في سياساتها لم يعد لروسيا ذلك الحضور في المنطقة . ولكن منذ العام ٢٠١٥ عادت روسيا إلى المنطقة من البوابة السورية في مواجهة الإسلام السياسي الذي صنّف بالإرهابي وحماية للنظام السوري، ولكن من موقع الصديق المتناغم أمنياً مع إسرائيل ، وبغض نظر وتواطؤ أميركي .
د. خليل حسين. أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
عمليا تُعتبر المصالح هي الحاكم لعلاقات الدول بين بعضها البعض.. وعلى الرغم من أن ذلك ينطبق على الاتحاد السوفياتي، إلا أن سياساته الشرق أوسطية والعربية تحديداً شهدت في بعض مفاصلها مواقف لمصلحة العرب رغم علاقاته مع اسرائيل.. اذ حاولت موسكو إيجاد علاقة متوازنة بين العرب واسرائيل وتمكنت من ذلك في العديد من المناسبات … أما حالياً فتنتهج روسيا السياسات نفسها تقريباً مع تميز علاقاتها باسرائيل.. الأمر الذي أعطاها إندفاعة ملحوظة في المنطقة وخصوصاً بعد تدخلها المباشر في الأزمة السورية.
د. بيار الخوري – ناشر الموقع
كان للسقوط المدوي للاتحاد السوفياتي وقع الصاعقة على المنطقة العربية، ليس فقط على حلفائه في السابق من كتلة الصمود والتصدي والأنظمة الراديكالية، بل ايضاَ والأنظمة المعتدلة، لأن قدرة هؤلاء على مفاوضة الولايات المتحدة بعد ذلك السقوط قد انعدمت كلياَ.
غاب الأثر السوفياتي ثم الروسي بشكل خاص في حربي العراق الثانية والثالثة، وكان لذلك أثر حاسم في تقرير مستقبل المنطقة الجيو استراتيجي.
وإستنادا إلى ذلك لا يمكن إلا أن نشير إلى أن إستعادة روسيا لدورها في المنطقة قد بني على العلاقات التاريخية التي بناها السوفيات في المنطقة وخاصة مع دمشق، ولكن الإطار الروسي أوسع بما يقاس من الإطار السوفياتي في المنطقة رغم فارق القوة بين السوفيات والروس الحاليين.
فبعد الحرب الباردة تختار روسيا دور الشريك المشاغب للولايات المتحدة بديلاَ من دور المحارب البارد على الجبهات كافة، بحسب الاستراتيجية السوفياتية.
روسيا صديقة الجميع في المنطقة، مع تفاوت ذات مغزى في العلاقات بين الأطراف. “الدب الشيطاني” السوفياتي لدى آيات الله اصبح الحليف الروسي. ومواجهة الشيوعية الدولية في إسرائيل أصبحت الصداقة الروسية – الإسرائيلية وتركيا التي كانت الدولة الحاجبة بوجه التمدد السوفياتي باتت تشتري أسلحة استراتيجية من الروس وتزعج بذلك الولايات المتحدة وتتحمل العقوبات نتيجة لذلك. دول الخليج العربي التي كانت على عداوة مع الاتحاد السوفياتي تقيم علاقات تعاون في كافة المجالات مع روسيا.
تلعب روسيا دوراً في الشرق الأوسط لا يمكن لأي قوة دولية أن تلعبه بسبب علاقة الثقة التي بنتها مع كافة الأطراف. الفارق الرئيسي مع الاتحاد السوفياتي هو سقوط الشيوعية وتحول روسيا إلى أمة رأسمالية كبرى تلعب بدهاء استراتيجي مبني على مزيج من التجربة التاريخية والقوة المتراكمة للقياصرة والسوفيات.
التاريخ هو تاريخ الامم دائماَ، ولا إنجاز ينطلق من عدم. الأمة الروسية هي التي تختار دائماَ كيف تبقى نفسها مسيطرة على مصائرها من بطرس الأكبر إلى لينين وستالين إلى بوتين.