يوم قال الوباء : “جنت على نفسها براقش” | با بو زيد محمد سعيد
للأشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
قبل ظهور وتفشي وباء كورونا في العالم، كان العالم غارقا حد أخمس القدمين في وحل الإستغلال بكل تجلياته، بحكم أن بنية العلاقة في النظام العالمي هي أساسا “علاقة إستغلال”، ويتشكل هذا الإستغلال من سلسلة تمتد من أعظم الدول والأنظمة والشركات العالمية الكبرى إلى أصغرها وصولا إلى الأفراد، في حلقة منتظمة تغدي كلها النظام العالمي الجشع و المبني على “قاعدة الربح والخسارة “، ربما هذا ما يسمى بالإمبريالية العالمية.
لقد سيطرت أميركا على العالم لعقود وسنوات _منذ الحربين العالميتن وإنهيار جدار برلين وصولا إلى إنهيار وتفكك الإتحاد السوفياتي …_
فبنت نظام إقتصادي وعولمت الإقتصاد العالمي و حررت السوق ليخدم شروط إحتكارها، وجعلت البنية الإقتصادية العالمية خاضعة لها ، فوفرت لذلك كل أدوات السيطرة من أجل الهيمنة على إقتصاد العالم .
مع وصول الحرب العالمية الأولى إلى سنتها الثالثة أين أثقلت الحرب كل الدول الأوروبية المتناحرة ، كانت أميركا “جغرافيا” بعيدة عن الحرب ، فبدأ ميزان القوى يميل بوضوح لصالحها، لم تستطع بموجبه الدول المشاركة في الحرب تحمل تكاليفها أكثر من ذلك، ولجأت ألمانيا بعد عزلها عن التجارة العالمية إلى الحصار الدفاعي مركزة هجماتها على الأعداء الضعفاء مثل رومانيا، أما الحلفاء خاصة بريطانيا فقد جهزوا قواتهم بطلبات حربية أكثر و أكثر من الولايات المتحدة.
ففي سنة 1916 إشترت بريطانيا أكثر من ربع محركات أسطولها الجوي الجديد ، وأكثر من نصف ذخيرتها من الرصاص وأكثر من ثلثي إستهلاكها من الحبوب وكل إستهلاكها من البترول تقريبا من موردين أجانب على رأسهم أميركا .
جعل كساد عام 1920 العالم تحت رحمة قيمة الذهب، ومع أن أميركا كانت هي الدائن الأول للعالم وأكبر مالك للذهب، وبالتالي الوصي المؤثر على مقياس الذهب الدولي.
فحينما تعرضت أميركا لركود إقتصادي ضخم، فرضت على كل الدول التي تريد ان تعود إلى مقياس الذهب “معضلة”، إما العودة إلى مقياس الذهب بقيمة 1913، والإضطرار لمماثلة الركود الأميركي، بالإضافة إلى ركود داخلي أكبر _ بطالة و أزمات إجتماعية.._، أو إعادة ربط العملة بالذهب بسعر منخفض.
إنتهت الحربين العالميتين وإنتهى مشروع هتلر وإنتهى الإتحاد السوفياتي، وظلت أميركا تتحكم في العالم عبر مشروع اقتصادي عالمي _ العولمة ، السوق الحر ، التجارة الغير متكافئة .._مبني على قاعدة “الإستغلال دائما “.
أسقطت أميركا _ومن أجل هذا المشروع_ أنظمة عبر العالم و حاربت مشاريع سياسية وإيديولوجية كانت تشكل لها تناقضا أساسيا أو حتى ثانويا _ في بعض الأحيان _ قد يهدد أو يمس من مصالحها.
من أهم هذه التهديدات التي تمثل للغرب العدو الأول ، “وعي الناس بواقعهم وإدراكهم لعلاقة الإنتاج المبنية على الإستغلال والإضطهاد” ، والتي ظلت الأنظمة التابعة للجشع الأمريكي والتبعية للغرب _بكل إصراره على نهب خيرات ومقدرات الشعوب وسرقتها_ ، تخدم بلا هوادة هذا المشروع وتدافع بكل قوة عن مصالح _” الوعد الأميركي الواهم ” _ أميركا والغرب في المنطقة، ولم يكن هناك حرج من أن يكون ذلك على حساب شعوبها المقهورة والمضطهدة مقابل البقاء على كراسي السلطة في عملية المقايضة بخيسة وظالمة وغير أخلاقية، مفضوحة ومكشوفة.
هذا الواقع الذي ظل يكابده المواطن العربي على مدار القرن، والذي منذ أن خرج الإستعمار من بابه حتى دخلت الأنظمة المتخلفة من النافذة، لتأبد معاناته وتجعلها قدره المحتوم و ترسم عبوديته للمشروع الغربي.
كان ذلك مع فجر الإستقلالات الشكلية العربية، كان الغرب يحضر لأنظمة تابعة له في أوطاننا العربية، أنظمة لا تخدم سوى مصالحه على حساب شعوبها المسكونة بالوجع والمعاناة والقهر .
ظل الوضع كما هو عليه _ خيانة الأنظمة العربية لشعوبها ،النهب، القهر ، التنكيل …_ الى أن إستيقظت بعض الشعوب في العام (2011 ) _ الربيع العربي _، أين سقطت إتباعا أنظمة كثيرة في جغرافيا الديكتاتوريات العربية، حين صدحت حناجر الشباب العربي الثائر و المتعطش للحرية، والعيش الكريم، والعدالة الإجتماعية …
واليوم بسبب تفشي “وباء كورونا المستجد_coved_19 ” يتجدد السخط الجماهيري وينكشف غطاء عن” هشاشة المؤسسات بشكل عام، والمنظومات الصحية بشكل خاص”، و إفتقارها بسبب الإهمال الذي طالها عمدا بسبب السياسات العمومية المفلسة لأغلب البلدان العربية، والتي تنفق في المقابل ميزانيات ثقيلة على المهرجانات المبتذلة والسخيفة، التي الغرض منها تخذير وإلهاء وتغيب الشعوب عن واقعها …، وكذلك ما ينفق على مشاريع ريعية ومشبوهة، لإستنزاف و نهب وسرقة المال العام، والمفارقة أن بلداننا العربية تزخر بموارد طبيعية ومقدرات هائلة تستحوذ عليها العائلات الحاكمة والمحيطين بهم من مسؤولي السلطة وخدام النظام.
لقد قادتنا الأنظمة العربية إلى مكابد واقع مزري، بل أزمة حقيقية يعاني منها قطاع حساس كقطاع التعليم مثلا الذي أمسى يعيش حياة كلينيكية، فمنظومتنا التعليمية باتت في مستوى الحضيض بسبب خوصصة هذا القطاع، ورداءة المناهج، ومغامرة السلطة به عبر سياساتها الفاشلة، وعملية الإستهداف المباشرة و الممنهجة الذي تعرض لها قطاع التعليم ببلداننا.
ولم تكن منظومة الصحة ببعيدة عن هذا الواقع، بحيث تفتقر لأبسط مقومات الصمود والمواكبة والقدرة على التحدي في مواجهة الطوارئ وتجاوز الظروف القاهرة.
“كورونا” كذلك أماط اللثام عن هيمنة الدولة العربية اللاوطنية و المستبدة بكل أشكال التسلط على “هيئات المجتمع المدني ” الذي جمدت دوره _ الديكتاتوريات _ في تجاوز خطير لمبدأ التشاركية، قاطعة الطريق على أي محاولة ستقضي على نظامها السياسي الإستبدادي المهوس والمريض بمتلازمة التغيير.
وفي الحين الذي وقف العالم فيه على دور المجتمع المدني الذي لعب دور طلائعي و تجند من أجل مواجهة الأخطار والظروف القاهرة _التعبئة الشعبية الشاملة، تقديم المساعدات، إرشادات، دعم …_ ظل العالم العربي مرهون بإمكانيات المنظمات والجمعيات والهيئات التي تدور في فلك السلطة، والتي نخرتها الهشاشة، وطالها الحيف، وقضى عليها التمييع وإمتص قوتها تدخل السلطة التي إبتلعت كل فرص” خلق الهامش المجتمعي”…
أما دور “المثقف العضوي” الذي من المفترض أن يتحمل مسؤوليات يحتكم بموجبها إلى “إلتزام مبدئي ” يشكل أساس عقده الأخلاقي الذي يحكم العلاقة مع مجتعه وقضاياه _إنتصارا لقناعاته ومبادئه، بخلاف مثقف السلطة…_، لم يسلم هو كذلك من عصى التضييق والتهميش والقمع، وجد نفسه فجأة أمام واقع قوامه البؤس والتردي والإنحطاط، واقع الحصار المضروب من طرف السلطة المتسلطة على كل شيء، فكان بين “مطرقة” الإلتحام والإنخراط مباشرة مع الجماهير، في هذه الظرفية الصعبة والحساسة التي يمر منها العالم أو “مطرقة ” ردم الهوة التي أسست لها السلطة، بكل الوسائل الغير مشروعة قصد المباعدة بينه وبين الشعب، بكل أساليب المنع والتنفير المادية والمعنوية، وتعميق الهوة وتوسيع الفجوة من أجل محاصرة تأثيره الغير مرغوب فيه، والذي لا يخدم أجندات السلطة بقدرما يتنافى معها.
لم يكن الإعلام المستقل خارجا عن دائرة الإستهداف بل ظل يشكل هاجس السلطة، وأحد تناقضاتها الأساسية على مستوى أدوات الصراع، فكان محل إستهداف مباشر، اذ لم يسلم من الضرر المعنوي والمادي والتخوين والتشهير…..، وشغلته بجيوش من المطبليين والمصفقين لها، وأشكال متنوعة من الجرائد الصفراء تشكل بروبغندا السلطة، وهالة إعلامية مضللة ومغلطة للتغطية والتشويش على تأثير الإعلام الحر والمستقل، وتكرس في المقابل للأجندات النظام، حتى فقد المجتمع في شبه ضياع تام كل ثقته وسط الميوعة الإعلامية المتعمدة والمكرسة كواقع مفروض من طرف السلطة.
اليوم مع هذا “الوباء” تعرت كل سياسات الدولة اللاوطنية وإنكشف ضعفها، وباتت تتخبط في سياسة مرتبكة مرتجلة_ الديك المذبوح_ تستجدي الغرب الغرق في وضعه تارة، والداخل الضائع بواقعه تارة أخرى وتستعمل خطابات خشبية جوفاء، تجتر أفكار معلبة جاهزة ومستهلكة وغير واقعية بل وهلامية في بعض الأحيان، أبانت عن إفلاس سياسي واضح يحاول التستر على منظومة مؤسساتية ضعيفة لا تخدم المرحلة، متخبطة في العجز والمحكومة لا محالة بالفشل الذريع مع أول إختبار.
أمام هذا العبث يكون حديثنا عن إختراع عقاقير أو ترياق أو دواء لهذا الفيروس الذي قهر البشرية، ضرب من ضروب الخيال، تكرس فعليا بعد عهد إبن سينا ( 980_ 1030م)، وأبو الحسين الطبري ( 810_855م)، وإبن النفيس ( 1213_1288م)، وأبو بكر الرازي ( 850_923م)، أين كانت السلطة تولي إهتمام كبير للعلوم و تدعمها وتوفر أسباب تقدمها.
وها نحن بكامل الركون والإستسلام نحصد نتائج سياسات الأنظمة العربية الفاشلة التي عملت على بولسة الدولة، وركزت كل السلط في يد الحاكم المستبد متنكرا للعقد الاجتماعي الذي يربطه بالشعب “عفوا بالرعية “، بل أفرغ الدولة من محتواها وجعلها ملك له وحديقة خاصة.
هكذا تم عبر التراكم تم إنتاج هذا الواقع الكارثي المتأزم، والذي ستجعلنا لا محال مرتهنين لأي قوة عالمية مهما كان شكلها ومهما كانت شروطها، لقد أصبحنا حكما كالغريق في عرض البحر نستجدي منقذا أيا كان.
هكذا جاءت كورونا لتقول : ” لقد جنت براقش على نفسها “.
للأشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا