إقتصادقراءات معمقة

اكبر عملية سرقة مصرفية في التاريخ: هكذا “طبع” لبنان الدولار الاميركي

نشر بالانكليزية على موقع النهار بعنوان مستقبل القطاع المصرفي في لبنان | للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

مستقبل القطاع المصرفي في لبنان

سيبقى في ذاكرتنا لوقت طويل عدد الساسة والمصرفيين في لبنان ممن اعتادوا على المفاخرة بعظمة حجم الودائع البنكية الخاصة بالقطاع المصرفي والتي بلغت قيمتها نحو 170 مليار دولار، بل كانوا كثيرا ما يرددون القول بأن “الليرة بالف خير”. لعل ذلك المثال يشبه كثيرا حال شخص ما يقترض مبلغ 3 ملايين دولار من شخص آخر ثم يمشي متباهيا وسط الناس بما لديه من أموال زاعما أنه “مليونير”. يبدو إذن، أن الكثيرين قد تناسوا أن الودائع ما هي إلا مجموعة من الالتزامات والديون المستحقة على البنك للمودعين، وذلك رغم كون تلك الحقيقة بسيطة وغاية في الوضوح.

لقد قام القطاع المصرفي في لبنان بفعل ما لم يفعله أحد من قبل، إنه حدث فريد من نوعه حقا، لقد قاموا “بطباعة” الدولار بصورة قانونية تامة أو شبه تامة، ولو كان الوضع غير ذلك، لفوجئ الجميع بقيام جهاز المخابرات الأمريكية بإرسال بعض عملائه إلى بيروت من أجل التحقيق في الأمر. وهنا يجب الاعتراف بأن ذلك القرار الخطير كان المصدر الأكبر لإهدار الثروة في البلاد على مر التاريخ.

ولعل التاريخ يزخر بالكثير من الأحداث في السياق ذاته، فلقد استطاع لبنان دخول موسوعة غينيس للأرقام القياسية عام 1976 لتمكنه من تسجيل أكبر سرقة بنكية في التاريخ، وهو حادث السطو على البنك البريطاني لمنطقة الشرق الأوسط ، والمعروف حاليا بـ (HSBC) حيث تمكن اللصوص المسلحون – والذين يعتقد بأنهم ينتمون لمنظمة التحرير الفلسطينية- من سرقة 125 مليون دولار، ولم نتمكن منذ ذلك الحين من الاستدلال على المزيد من التفاصيل بشأن تلك الواقعة.

وعلى ما يبدو، فإن التاريخ يحاول تكرار نفسه من جديد، فها هو لبنان على وشك الحصول على هذا الشرف المؤسف مرة أخرى، والمتمثل في أكبر حادث سرقة بنك في التاريخ، ولكن هذه المرة لن تكون السرقة من خلال السطو المسلح واستخدام البنادق الآلية، فالسارقون الآن يرتدون أفخم ماركات الملابس مثل Ermenigildo وZegna ، ورابطات العنق من ماركة Hermès ، وساعات Rolex.

ولعل هذا المخطط سوف يُعرف في التاريخ بكونه أكبر مخطط احتيالي حكومي على طريقة “بونزي”، والذي ربما يتفوق على الخطط الاحتيالية للمحتال الأمريكي الشهير “مادوف”. ويُعرف مخطط بونزي بأنه مخطط استثمار احتيالي يدفع عوائد مرتفعة على نحو غير متوقع للمستثمرين القدامى لدى البنك بتمويل من مستثمرين جدد. وهذا ما يحدث بالضبط في لبنان، فيما عدا ما يتعلق بالشق الاحتيالي. لقد وعد مادوف بعائدات خيالية من خلال اتباع استراتيجيته الخاصة والمعروفة بـ “split-strike option strategy” والتي كانت عبارة عن سلسلة من الخطط شديدة التعقيد والتي لم تحوي سوى الكذب والخداع بحق المودعين.

وبالنسبة لحالة لبنان، فإن المخطط هنا يعرف بـ “الهندسة المالية” وهو مسار شديد التعقيد أيضا، بحيث قد يعجز البعض عن الاستفسار حوله. لقد قامت البنوك بعرض عوائد مرتفعة بقيمة 15% على العملاء، والذين يجهلون أو ربما لا يكترثون بالمصدر الأساسي لتلك العوائد.

ولكن تكمن المفارقة الكبرى في أن مادوف استطاع التأثير على بضع المئات من المستثمرين الأثرياء، ولكن مخطط بونزي في لبنان، سوف يؤثر على كل من القطاع الحكومي والمصرفي، بل وسيؤثر أيضا على حياة 5 ملايين مواطن لبناني وبعض المغتربين من الجنسيات الأخرى كالعراقيين والسوريين. بل ربما يمتد ذلك التأثير أيضا إلى عدد من البنوك الأردنية التي تم إغرائها بالعوائد المرتفعة من قبل بعض العباقرة في القطاع المصرفي اللبناني، وبطريقة لا مثيل لها في العالم. وهذه المرة سيبدو الأمر مختلفا، حيث سيتم تذكير أولئك العباقرة بحجم ما ارتكبوه من مغالطات وابتذال أبدي لدرجة قد يصعب تصديقها.

وقد ورد ذكر لبنان في نموذج التحذيرات المبكرة الذي قام بإعداده كل منGraciela L. Kaminsky وCarmen Reinhart حيث قالت كارمن راينهارت الخبيرة في الأزمات المالية والأستاذة بجامعة هارفارد:” لقد كان لبنان أكبر مصدر للأخطاء في نموذج التحذيرات المبكرة .. إن لبنان يعد حالة شائكة ومثيرة للاهتمام أيضا. لقد كنت أتوقع تخفيض قيمة العملة لفترة طويلة جدا! ولكن يبدو أن هناك مصادر تمويل يصعب تتبعها”.

والسؤال الآن، إذا كان أكثر من نصف إجمالي الودائع بالدولار مزيفة، فكيف سيؤثر ذلك على الحياة اليومية في لبنان؟

قد يبدو من الحري التأكيد على أنه سواء اتفق الجميع مع مبدأ الخصم القسري للدين (haircut) أم لا، فإن الأمر الحتمي هو أن قيمة الدولار خارج لبنان تساوي أكثر من قيمته في الحسابات المصرفية في البنوك اللبنانية، ولعل ذلك ما يمكن أن نسميه الدولار اللبناني المزيف وهناك بعض الأمثلة الدالة على ذلك من واقع بعض المعاملات في الأسواق. فلقد رأينا مثلا أن هناك من يمتلك وديعة مصرفية بقيمة 100 ألف دولار والتي تتحول قيمتها إلى 80 أو 90 ألف فقط في حالة السحب النقدي.

ان الارتفاع الملحوظ في أسعار العقارات على مدى زمني طويل، يعني قيام الأفراد بشراء بعض الأصول باستخدام شيكات محررة على دولارات مزيفة، ففي حال انخفضت أسعار العقارات- وهذا ما سيحدث – فإن تلك الطريقة ستكون افضل للاحتفاظ بالقيمة بالمقارنة مع قيمة استرداد الإيداعات المصرفية التقليدية.

وربما يكون المطور الاقتصادي مسرورا” بحصوله على شيك محرر بدولارات زائفة، وذلك لأن البنك التابع له لا خيار أمامه سوى قبول تلك الشيكات في مقابل ما اقرضه بدولارات حقيقية. ويعد ذلك أمرًا إيجابيًا إلى حد ما بالنسبة للقطاع المصرفي، حيث يساعد ذلك على تقليص قائمة الميزانية العمومية من جهة، والتقليل من القروض غير العاملة من جهة أخرى.

وبطبيعة الحال هنا، فإن الشخص الذي يقوم بشراء العقارات بدولارات حقيقية يتم تحويلها من حساب خارجي إلى حساب خارجي آخر، فإنه سوف يدفع نصف السعر مقابل إتمام نفس الصفقة تقريبًا. وهناك أشكال أخرى لمثل هذا النوع من الصفقات أيضا، كشراء الاصول السلعية الأخرى كالسيارات المستعملة والذهب والماس مثلاً باستخدام دولارات مزيفة والقيام ببيعها خارج البلاد على افتراض أن البائع يقبل التعامل بالدولارات المزيفة. وحقيقة، فإن البائع الوحيد الذي يقبل ذلك هو بالضرورة أحد الأشخاص المدينين، والذي لا خيار أمام المصرف التابع له سوى قبول الأمر مقابل تسوية أحد القروض.

قد يبدو مألوفا للجميع أن البنوك تتنافس عادة من أجل جذب المودعين إليها كي تتمكن من الاستفادة من ودائعهم، ولكن الملاحظ هذه الأيام ان البنوك باتت في حالة عدم اكتراث تام لتلك الودائع المنتظرة من العملاء، وذلك لأنهم يعلمون جيدا أن الدولارات التي سيقوم المودع بتسليمها للبنك، مزيفة. كما يدركون أيضا بأن المودع قد ينجذب إلى بنك دون الآخر أملاً منه في أن يسمح له مصرفه الجديد ببعض التسهيلات التي تيسر له عمليات سحب الأموال أو تحويلها إلى الخارج. ولعل ما يفعله المودع هنا حقيقة، هو زيادة حدة المشكلات المستقبلية للمصارف بوجه عام، وذلك نظرا لزيادة الطلب على الدولارات الحقيقية والتي يعمد البنك المركزي إلى تقليصها دائما.

وختاما، فإنه يمكن القول بأن المصارف اللبنانية لن تتمكن من المفاخرة بزيادة حجم ودائعها من الآن صاعداً، لأن تلك الودائع ما هي إلا ديون يلتزم البنك بسدادها. ولعل المخرج الآمن للمصارف الآن، القيام بخفض الودائع، وخفض القروض وبخاصة المتعثرة منها، والتحرر قدر الإمكان من الودائع في مصرف لبنان. ولعل الخطوة الأخيرة هي الأكثر صعوبة ولكنها الضمان الحقيقي لاستمرار وبقاء المصارف على قيد الحياة.

رابط المقال بالانكليزية اضغط هنا

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

دان قزي، باحث في جامعة هارفارد ومصرفي متقاعد

دان قزي كاتب وباحث زميل في مبادرة “القيادة المتقدمة” في جامعة هارفارد، وهو برنامج لكبار المديرين التنفيذيين للاستفادة من خبرتهم وتطبيقها على المشكلات ذات التأثير الاجتماعي. يركز قزي في أبحاثه بجامعة هارفارد على الإصلاح الاقتصادي والسياسي في بلد صغير افتراضي مليء بالفساد والإهمال، وهو رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي السابق لبنك ستاندرد تشارترد لبنان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى