إقتصادازمة لبنانالاحدث

المؤسسات الاقتصادية مهدّدة بانهيار شامل | كتب د. بيار الخوري

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

تطرح الارتفاعات المتتالية في سعر صرف الدولار الاميركي والعملات الاجنبية الاخرى في سوق بيروت مقابل الليرة تحدّيات متزايدة امام ميزانيه العائلة والفرد. انّ هذه التحدّيات التي بدأت اواخر عام 2019 وصلت مع العام الحالي الى نقطة، ربما يصعب على معظم العائلات والافراد التعامل معها، مع ضمان توازن الميزانية الشخصية للأغلبية الساحقة من اصحاب الاجور المحرّرة بالعملة الوطنية.

حتى العقود المحرّرة بالدولار الاميركي تُدفع بناء لسعر الصرف الرسمي عند 1500 ليرة للدولار الواحد (رغم وجود استثناءات قائمة على سياسات محدّدة للشركات في الاستمرار في استقطاب مهارات نادرة).

 

بالإجمال، هناك جمود او انحدار في حجم الاجور المدفوعة في الاقتصاد بالمعنى الاسمي، اي من دون الاخذ في الاعتبار القيمة الحقيقية للأجر، بعد حسم التضخم، او بعد اعاده تعديلها وفقاً لسعر الصرف في السوق الحرة. لقد استطاع اللبنانيون التعامل حتى الآن، وان بصعوبة، مع الفارق بين زيادة معدلات التضخم وتراجع مستوى الدخل، وذلك عبر العمل لاكثر من دوام او مصلحة، او عمل بعض الفئات الصغيرة بأجر ثابت بعملة اجنبية، او عبر بيع المقتنيات كالسيارات والمحلات التجارية والبيوت.

 

البعض الآخر كان يستند لتأمين توازن الميزانية، الى ذلك المبلغ المتاح للسحب على سعر منصة 3900 ليرة/دولار، لاستكمال القدرة على تلبية الاحتياجات حتى آخر الشهر، كما استفادت معظم العائلات ايضاً من توقّف دفع القروض الشخصية والعقارية، في محاولة للتعامل مع ظروف كان يُفترض انّها مؤقتة، بانتظار حلّ الازمة السياسية والشروع في استراتيجية اقتصادية تعيد توزيع الموارد، بما يكفل حداً ادنى من توازن الميزانية العائليه والشخصية ( رغم انّ اللبنانيين لا يتفقون على المعاني الحقيقية والأكلاف الاجتماعية لهذه الحلول).

 

يمكن فهم أزمة ميزانية الأسرة والأفراد اليوم بالاستناد الى النظرية الاقتصادية الجزئية، ومن خلال استعراض مفهوم خط الميزانية الشخصية، وهو مفهوم يقوم على اختصار استهلاك الشخص بين سلعتين، في ظلّ دخل ثابت للمستهلك، حيث اذا قرّر الاستيزاد من السلعة الاولى، عليه ان يتنازل عن استهلاكه من الثانية، للحفاظ على مبلغ مجموع الانفاق. يتمثل ذلك بخط منحدر يشير الى تلك العلاقة العكسية بين استهلاك السلعتين.

 

في حالة تغيّر القيمة الحقيقية للدخل، يتجّه هذا الخط المنحدر نحو الاسفل، للتعبير عن انخفاض القدرة على استهلاك نفس الكمية من السلعتين، او يتحول نحو الاعلى للتعبير عن الارتفاع الحقيقي في قيمة الميزانية. ويمكن فهم ذلك من خلال الرسم البياني ادناه:

حسناً، ماذا عن ميزانية العائلة في لبنان؟ وفقاً للرسم البياني يظهر استهلاك الضروريات على الخط العامودي، وكل ما عدا ذلك على الخط الافقي، وبافتراض ثبات القيمة الحقيقية للأجر، فإنّ الوضع الحالي سوف يزيد من الانفاق على الضروريات، خصوصاً انّه لا يوجد حالياً بضائع مدعومة متوفرة بل مقننة، ولا ادوية مدعومة، والمحروقات بدأت مساراً حاداً لرفع الدعم، وهذه ثلاث سلع فيها اساس الضروريات. بهذا المعنى، تتنازل العائلات بشكل متزايد عن غيرالضروريات من حساب كل استهلاك آخر.

 

لقد دخلنا الآن في مسار الانخفاض الحاد في سعر الصرف والرفع المتزايد للدعم، وسوف يؤدي تزاوج هذين العاملين الى تخفيض حاد في القيمة الحقيقية لمجموع ميزانية العائلة، وبالتالي الى التحول نحو الاسفل في خط الميزانية، بحيث يقترب ذلك الخط اكثر فأكثر من نقطة الاصل عند الصفر، وينحني اكثر باتجاه الضروريات.

 

هذه الملاحظة هامة جداً لنفهم الانعكاسات الممكنة على القطاعات الاخرى في الاقتصاد. سوف اذكر في هذا المجال قطاع الضيافة ومحلات التجزئة لغير الغذاء وخدمات الصيانة، واخيراً اسواق السلع المعمّرة التي تقلّصت بشكل حاد للتو. كل هذه القطاعات اصبحت عرضة للانهيار السريع مع تراجع الميزانية.

 

بكل ألم سأذكر هنا قطاع التعليم، لأنّ المؤسسات التعليمية ايضاً تقترب من تلك النقطة التي لا تستطيع معها الاستمرار على سعر الليرة الرسمي، في الوقت الذي تصل فيه العائلات الى ذلك المستوى من الدخل، الذي لا تستطيع معه الدفع حتى على السعر الرسمي، بسبب الميل لتحويل الميزانية كما هو موضح اعلاه.

 

انّ استمرار ارتفاع سعر صرف الدولار في سوق السوداء، مضافاً اليه مسار رفع الدعم، سوف يؤديان الى انهيار اقتصادي واسع، يطال كل ما هو غير ضروري في حياة العائلات. الحل طبعاً لا يكون بزيادة الحدّ الأدنى للاجور، لانّ زيادة الاجور في ظل اقتصاد غير منتج سوف يتحول الى تضخم مضاعف وانهيار اضافي في سعر الصرف، كونه سيتأتى من مضاعفة الكمية المطبوعة من النقد حصراً. الحل هو في استعادة الحركة الى شرايين الاقتصاد، التي تؤدي الى رفع مستوى الدخل، وبالتالي القدرة على الإنفاق واعادة تحويل خط الميزانية نحو الاعلى، بما يسمح بتوزيع متوازن وواسع لكافة عناصر الدورة الاقتصادية من كافة القطاعات.

ينشر بالتزامن مع صحيفة الجمهورية:

اضغط هنا

د. بيار بولس الخوري ناشر الموقع

الدكتور بيار بولس الخوري أكاديمي وباحث ومتحدث بارز يتمتع بامكانات واسعة في مجالات الاقتصاد والاقتصاد السياسي، مع تركيز خاص على سياسات الاقتصاد الكلي وإدارة التعليم العالي. يشغل حاليًا منصب عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا وأمين سر الجمعية الاقتصادية اللبنانية. عمل خبيرًا اقتصاديًا في عدد من البنوك المركزية العربية. تخصص في صناعة السياسات الاقتصادية والمالية في معهد صندوق النقد الدولي بواشنطن العاصمة، في برامج لصانعي السياسات في الدول الاعضاء. يشغل ايضا" مركز أستاذ زائر في تكنولوجيا البلوك تشين بجامعة داياناندا ساغار في الهند ومستشار أكاديمي في الأكاديمية البحرية الدولية. ألّف أربعة كتب نُشرت في الولايات المتحدة وألمانيا ولبنان، تناولت تحولات اقتصاد التعليم العالي وتحديات إدارته، منها كتاب "التعليم الإلكتروني في العالم العربي" و"التعليم الجامعي بموذج الشركنة". نشر أكثر من 40 بحثًا علميًا في دوريات محكمة دوليًا،. يُعد مرجعًا في قضايا مبادرة الحزام والطريق والشؤون الآسيوية، مع تركيز على تداعياتها الجيوسياسية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط. أسس موقع الملف الاستراتيجي المهتم بالتحليل الاقتصادي والسياسي وموقع بيروت يا بيروت المخصص للأدب والثقافة. أطلق بودكاست "حقيقة بكم دقيقة" على منصة "بوديو"، ليناقش قضايا اجتماعية واقتصادية بطريقة مبسطة. شارك في تأليف سلسلتين بارزتين: "الأزرق الملتهب: الصراع على حوض المتوسط"، الذي يحلل التنافسات الجيوسياسية حول موارد البحر المتوسط، و"17 تشرين: اللحظة التي أنهت الصفقة مع الشيطان"، وهي مجموعة دراسات ومقالات عميقة حول انتفاضة لبنان عام 2019، والمتوفرتان على منصة أمازون كيندل. لديه مئات المقابلات في وسائل إعلام محلية عربية وعالمية مقروءة ومتلفزة، حيث يناقش قضايا الاقتصاد اللبناني والأزمات الإقليمية والشؤون الدولية. يكتب مقالات رأي في منصات إلكترونية رائدة مثل اسواق العرب اللندنية كما في صحف النهار والجمهورية ونداء الوطن في لبنان. يُعتبر الخوري صوتًا مؤثرًا في النقاشات حول مسيرة اصلاح السياسات الكلية وسياسات محاربة الفساد والجريمة المنظمة في لبنان كما مسيرة النهوض بالتعليم والتعليم العالي وربطه باحتياجات سوق العمل. لديه خبرة واسعة في دمج تطبيقات تكنولوجيا البلوكتشين في عالم الاعمال ومن اوائل المدافعين عن الصلاحية الاخلاقية والاقتصادية لمفهوم العملات المشفرة ومستقبلها، حيث قدم سلسلة من ورش العمل والتدريبات في هذا المجال، بما في ذلك تدريب لوزارة الخارجية النيجيرية حول استخدام البلوك تشين في المساعدات الإنسانية وتدريب الشركات الرائدة في بانغالور عبر جامعة ساغار. كما يمتلك أكثر من 30 عامًا من الخبرة في التدريب وإدارة البرامج التدريبية لشركات ومؤسسات مرموقة مثل شركة نفط الكويت والمنظمة العربية لانتاج وتصدير النفط OAPEC. يجمع الخوري بين العمق الأكاديمي، فهم البنى الاجتماعية-الاقتصادية والاستشراف العملي، مما يجعله خبيرا" اقتصاديا" موثوقا" في العالم العربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى