إقتصادالاحدث

“لعبة الأمم في القارة السمراء من المنظور الاقتصادي” | بقلم د. علي مغنية

لماذا تبقى إفريقيا متوترة على الدوام؟ هذا السؤال المزمن يطرح نفسه باستمرار ويتطلب شرحًا عميقًا لفهم جوهر الصراع الدولي على هذه البقعة من الأرض. لتحديد معالم الإجابة، يجب علينا تسليط الضوء على أبرز الحقائق والسرديات ذات الصلة. من خلال الرصد الاستراتيجي لواقع القارة الإفريقية، الذي بات حجر الأساس لمصالح الدول العظمى من منظورات مختلفة مثل الولايات المتحدة الأمريكية، الصين، روسيا، وفرنسا، نجد أن كل دولة تسعى لتعزيز سيطرتها السياسية والاقتصادية، وأحيانًا العسكرية، لتأمين شبكة مصالحها الحيوية والاستراتيجية هناك؛ ما قد يؤدي إلى تقاطعات أو تضارب في المصالح في بعض الحالات، وقد يصل الأمر إلى حد الحروب أحيانًا.
على الرغم من تفاوت وتباين المصالح والأهداف والاستراتيجيات لهذه الدول في الدخول إلى القارة السمراء من بوابات مختلفة، إلا أنها تمتلك رؤية قيمية وحيوية مشتركة تجاه الاهتمام الجدي والمستمر للاستثمار في إفريقيا على كافة الأوجه والصعد المتاحة لها، ومن خلال شبكة تحالفات سياسية تربطها بالأنظمة الحاكمة والقوى السياسية المسيطرة. تلعب إفريقيا دورًا بارزًا في مجال التجارة العالمية والاقتصاد السياسي الدولي، من حيث موقعها الوسطي بين الشرق والغرب، وامتداد شواطئها التي تربط المحيطات، والممرات المائية والموانئ اللوجستية، وغناها بالموارد الطبيعية والمواد الخام خاصة النفط والغاز الطبيعي والمعادن الثمينة، وللفرص المتاحة والكامنة لديها في مجالات الطاقة النووية والكهربائية والمتجددة، ومجالات البنى التحتية، وسكك الحديد، والمطارات، ومصانع الأسمنت والحديد الصلب، والتكنولوجيا وغيرها من النشاطات الإنتاجية التي يحتاجها العالم.
بأكمله.
من هنا، برزت الأهمية القصوى والقيمة الكامنة لدول هذه القارة وتزايد معدل الرغبة الدولية في التزاحم والتخطيط والسيطرة وفرض الهيمنة السياسية على مراكز القرار فيها، لضمان شبكة النفوذ وإخضاع إرادتها لتصب في مصالح القوى العظمى الطامحة والطامعة في اقتناء ثرواتها ومقدراتها بالطرق الدبلوماسية تارة وبالقوة العسكرية تارة أخرى.
لابد لنا من دراسة أهداف القوى العظمى كل على حدة ومن المنظار الخاص لكل دولة كي يتسنى لنا الفهم الوافي لها وبناء التصورات التي بموجبها يرتسم الأفق المنطقي لدى دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والخليج العربي في فهم المتغيرات العالمية ودور العولمة والسياسة الدولية في تأمين الحماية والتطوير لمفاهيم الاستدامة الشاملة، والنظم الإيكولوجية والبيئية، وغيرها من التحديات التي تحتاج إلى حلول في منطقتنا العربية ضمن واقع ومفهوم صدام الحضارات وتغير النظام العالمي ودوله لأجل ديمومة هذا الكوكب واستقراره، وتأمين حاجيات سكانه الضرورية لضمان العيش الكريم.
“أهمية إفريقيا من المنظار الأمريكي، الصيني، الروسي، والفرنسي”
يشغل بال البيت الأبيض، في المقام الأول، النفوذ الاقتصادي المتمثل بالسيطرة على الموارد الطبيعية والمواد الخام المتوفرة في مختلف أنحاء دول إفريقيا، بجانب مكافحة الإرهاب والجرائم المالية مثل غسيل الأموال وتجارة السلاح. تمثل دول مثل كينيا، إثيوبيا، تنزانيا، نيجيريا، والسنغال أهمية حيوية للولايات المتحدة الأمريكية من حيث الموجودات والحاجات لبناء اقتصاداتها وأنظمتها المالية والمدنية والتكنولوجية في مختلف القطاعات الهندسية والخدمية (الاتصالات – البنوك – السياحة) والصناعية والتعليمية والزراعية والصحية؛ كذلك يسعى الراعي الأمريكي لضمان توفير أصوات هذه الدول الحليفة له في المحافل الدولية وعبر المنظمات العالمية مثل مجلس الأمن الدولي، ومنظمة الصحة العالمية، وهيئات الأمم المتحدة المختلفة، على كافة القرارات والتشريعات التي تتبناها هذه المؤسسات في الاستحقاقات الكبرى والهامة.
أما بكين، فالأولوية لديها في إفريقيا هي ضمان النفوذ الجيوسياسي الذي يرسم خارطة الطريق لربط خطوط إمداداتها التجارية المنبثقة من مفهوم ومبادرة “طريق الحرير” أو ما يعرف بـ”الحزام والطريق” التنموية، والذي تعمل عليه منذ سنوات طويلة لتأمين التجارة الخارجية عبر الممرات المائية والمعابر البرية للدول المتجاورة من الصين مرورًا بآسيا الوسطى (أوراسيا) والشرق الأوسط وصولًا إلى شمال إفريقيا والقارتين الأوروبية والأفريقية.
للصين دوافع كبيرة بالاهتمام بدول كزامبيا، سيراليون، كينيا، وجنوب إفريقيا لما تشكل لها من دور تنافسي حيوي مع النفوذ الأمريكي هناك حيث لا مساحة جغرافية للفراغ الذي ما أن توافر حتى يأتي من يملأه فورًا وحالًا، من قوى هيمنة وسيطرة. لابد من الإشارة إلى أن الصين تستثمر هناك بقوة في المجالات الحيوية كالبنية التحتية للموانئ وسكك الحديد وشبكات الطرق والجسور والمطارات وتكنولوجيا الاتصالات، كما ذكرنا في المقدمة بشكل عام.
تسعى السياسة الاقتصادية الصينية أيضًا لفتح أسواقها في البلدان الأفريقية عبر تقنيات الروابط اللوجستية المعتمدة على شبكات الجيل الخامس والإنترنت السريع وتأمين التنوع في الموارد النفطية واستيراد المعادن والبحث عن مناجم التعدين، كل ذلك لأجل تنفيذ مخططات الرؤية الصينية لعام 2035.
الصراع الأمريكي – الصيني – الروسي – الفرنسي على هذه القارة كبير جدًا وتراه في حجم وسرعة الانقلابات العسكرية وتغيير أنظمة الحكم المتكررة في كل فترة وحين، بدعم من استخبارات وجيوش هذه الدول التي لا ترى أمام نصب أعينها سوى مصالحها الاستراتيجية وعمقها القومي وضمان تراكم ثرواتها المادية والمالية دون مراعاة للموارد البشرية والإنسان هناك.
أما مصلحة الكرملين فتكمن في دور روسيا النشط في إحكام السيطرة على قطاعات البنية التحتية أيضًا، والطاقة والتعدين واستخراج الذهب والألماس لأجل خدمة أمنها القومي وضمان استقراره وتوسيع الاقتصاد المتنوع لديها لزيادة حجم دخلها القومي والوطني. فهي تلعب دورًا كبيرًا في نيجيريا، التي لديها مقومات ومقدرات هائلة وتتنافس عليها كافة الدول الكبرى على الرغم من التناقضات التي تحكم شعبها ونظامها السياسي والتوترات العرقية ومواطن الفساد المستشري في الدولة العميقة هناك، إلا أنها جمهورية جاذبة وتتمتع بتنوع ديموغرافي ديني وموارد طبيعية كبيرة كالنفط والغاز، والحديد، والرصاص، والزنك.
كذلك لابد من عدم إغفال الدور الفرنسي الفعال في بعض الدول كساحل العاج والغابون والنيجر والكونغو وتشاد، وبناء المستعمرات لضمان السيطرة والنفوذ على مقدرات هذه الدول سيما زراعة الكاكاو في ساحل العاج وتصديره لأوروبا وبناء وتوسيع منظومتها الفرانكفونية القائمة على اللغة، والثقافة، والتعليم، والإعلام.
أخيرًا، بعد كل هذه السردية الموجزة والتي تشرح بعض أسباب خلق بؤر للتوتر في بعض دول وأقاليم القارة السمراء من قبل مراكز النفوذ العالمي المتحالف أحيانًا والمتصارع في الغالب على مصالحه القومية والأمنية والتي يدفع الثمن فيها الدول النامية والفقيرة وشعوبها، لابد لنا من التفكير الحثيث في خلق منظومة عربية تهتم بالمستقبل الجيو-اقتصادي وتطويره إلى مستوى لائق بشعوبها وطموحاتها، وتفعيل دور مراكز الدراسات البحثية والمعرفية فيها لتوليد الأفكار الإبداعية وإنتاج رؤية موحدة تضمن الانفتاح على علوم الآخرين وإنجازاتهم وابتكار ما يواكب لعبة الأمم في عصر سرعة المعلوماتية الذي يسيطر عليه اللوغاريتمات والرقمية وأدوات الذكاء الاصطناعي والتواصل الاجتماعي، وليس فيه مجال للركود والانكماش والتقوقع.
من خلال توظيف هذه المنظومة العربية المستقبلية، يمكن تعزيز الاستقلالية والتنمية المحلية مع الاستفادة من التقنيات والابتكارات العالمية. ينبغي أن تركز الاستراتيجية على التنمية المستدامة والشراكات العادلة التي تسمح بالتبادل الثقافي والعلمي والاقتصادي دون الخضوع للهيمنة من القوى العظمى. وبالتالي، يمكن للدول العربية أن تقود في تشكيل مستقبل إقليمي مزدهر يستفيد من العولمة مع الحفاظ على هويتها الثقافية والاجتماعية.
في ظل العولمة وتشابك الاقتصاديات والسياسات العالمية، يكون من الضروري أن تتبنى الدول العربية نهجًا يضمن لها موقعًا قويًا على الطاولة الدولية، ويعزز من قدرتها على التفاوض والتأثير في القضايا العالمية بما يخدم مصالحها الإقليمية والدولية.
هذا التوجه سيسهم في تحقيق استقرار إقليمي وسيمكن الدول العربية من لعب دور محوري في معالجة القضايا العالمية مثل تغير المناخ، الأمن الغذائي، وتطوير الطاقة المستدامة، مما سيعود بالنفع على الجميع في هذا النظام العالمي المتغير.

الدكتور علي احمد مغنية كاتب متخصص باستراتيجية الاعمال

باحث في الشؤون الإدارية واستراتيجيات الاعمال، حائز على بكالورويس ادراة اعمال من جامعة وستمنستر لندن وعلى ماجيستير ادارة اعمال من جامعة ماستريخت الهولندية ودرجة الدكتوراه في ادارة الاعمال من الاكاديمية السويسرية للأعمال. خبير استشاري في شؤون وادارة الشركات والصحة العامة والسياسات الادارية الصحية. مطور عقاري ورجل اعمال في مجال التجهيز الفندقي والضيافة، يعمل بين لبنان والدول العربية وخاصة دول الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى