ألابرزاجتماعالاحدثالاكثر قراءة

الدين مع الأخلاق أو بدونها؟ البروفسور سمير مطر

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

منذ بداية المعتقدات الإبراهيمية و قبلها الفلسفة اليونانية ، كان الدين والأخلاق متشابكين بشكل وثيق. هذا صحيح سواء رجعنا إلى الفكر اليوناني أو الديانات ذات الاله الواحد: اليهودية ، ثم المسيحية وأخيراً الإسلام.

في نوع من “عقد خلاص” للإنسان بين الله والبشر ، تم تسليم ألواح الوصايا العشر لموسى النبي من قبل رب الناموس على جبل سيناء بعد هروب اليهود من مصر الفرعونية. كانت تلك الوصايا أوامرا صارمة اكثر من كونها مجرد توصيات لان بالرغم منها ضل الشعب المختار و أعاد عبادة الاصنام مثل العجل الذهبي على طريق أرض الميعاد…فأتى العقاب على مقياس الفعل المشين و أحرق العجل الذهبي.

الوصايا العشر مدرجة على لوحين كما يمثلها الفنانون في معظم الأيقونات، خمسة على كل لوح مرسومة احيانا بالعبرية. لكن مؤخرا، فوجئت عندما رأيت في كنيسة للروم الكاثوليك في بيروت أيقونة تمثل بشكل مختلف لافت للنظر النبي موسى مع لوحين الأول حامل ثلاث وصايا و الآخر سبع (صورة الايقونة مرفقة) أي أن الوصايا قد تم تقسيمها إلى ثلاث وصايا في اللوح الأول وسبع في اللوح الثاني. لا شك أن لذلك معاني محددة. مع العلم انه من المسلمات ان تقسم الوصايا الى ٤ من جهة الله و ٦ من جهة الانسان في كثير من الايقونات البيزنطية، نسلم جدلا هنا ان إحدى الاربع لها علاقة بتصرف الانسان عندما يجثو و يتصرف شخصيا تجاه نفسه… لذلك حذفت الى الترتيب الثاني. … المهم هنا أن الوصايا ذات صلة بالعلاقة بين الإنسان و الله هي من خلال تفاعل عامودي و تختلف عن الوصايا السبع المتبقية ذات الصلة بالعلاقة الأخلاقية (ETHICS) بين البشر: إنه نوع أفقي من التفاعل. هل يمكننا أن نستنتج من هذا التحول من العالم اليهودي الى العالم المسيحيي أن البشرية مدعوة لمزيد من التفكير في رسالة يسوع المسيح الذي جاء ليكمل العهد القديم و طور عقدنا مع الله و البشر، ان الاثنين مهمان معا للخلاص الابدي؟ فقد اختزل السيد المسيح الوصايا العشر الى حد ما باثنتين واحدة لحب الانسان لربه و الأخرى حبه تجاه أخيه الانسان. الكلمة الفصل في رسالته الالهية هي المحبة! فقد علمنا الكاتب و الفيلسوف اللبناني الكبير جبران خليل جبران الكثير في جملة واحدة “اما انت اذا أحببت فلا تقل ألله في قلبي، لكن قل انا في قلب الله”. ايضا يجب ألا ننسى أن للصليب المقدس اتجاهان: واحد عامودي الآهي و الآخر أفقي مجتمعي. على الرغم من العلاقات الوثيقة بين الدين والأخلاق فإن الأول يتعلق بالتعاليtranscendent بينما يرتبط الأخير بالمجتمع. بالعودة إلى الأيقونة، نستطيع القول انها رسالة، كاتبها (نعم الايقونات تكتب بالصلاة و التأمل و لا ترسم كأي لوحة فنية)، إذا كاتبها أراد أن يشير الى المؤمن هذا المفهوم العميق. رب أيقونة تاتي بمعان اكثر من كتاب!

بالنسبة للبشر فيما بينهم فإن الآلية التي تدير علاقاتهم بعضهم ببعض ما هي سوى الأخلاق. نستطيع القول انها مجموعة من العادات و التصرفات التي تحدد كيف نفكر في الطريقة التي يجب أن نعيش بها و حول ماهية الحياة البشرية الجيدة و الكريمة. دونها الفوضى و شريعة الغاب… ألم يقل الشاعر الكبير احمد شوقي: أن الأمم أخلاق ما بقيت، أن ذهبت اخلاقهم هم ذهبوا؟ اما مصطلح “الدين” فهو محل خلاف كبير اذ هل هو حامل لها بطبيعة الحالipso-facto ? ربما، و لكن لا أريد أن أتطور حوله هنا. أود فقط القول أن الدين و الإيمان أمور شخصية جدا، الهدف منها العيش المتناغم مع ألله في هذه الحياة و الخلاص في ألآخرة. و ان نتج عنها تصرف أخلاقي متكامل، فلا بأس. لكن المجتمع التعددي على مثال لبنان، انما هو بحاجة ” لإخلاق-دستور” لا تلغي الدين بل تكمله…

في المجتمع، الأخلاق موجودة في التعامل على كل صعيد. على سبيل المثال في البحث العلمي هناك حاجة ماسة لها خاصة عندما يتعلق الأمر بعلم الوراثة حيث تمنع التجارب على الأجنة البشرية. أيضا هناك الملكية الفكرية الغالية جدا عند الباحث العلمي، تضمنها براءات الاختراعات و النشرات العلمية الموثقة عالميا من خلال digital object identification DOIحيث يستشهد بها من الزملاء في المجتمع العلمي.

تتشابه الأخلاق في العديد من الجوانب بين المتدينين وغير المتدينين بدون دحض وجود الله. وفق الفيلسوف الكبير باروخ سبينوزا Spinoza الذي تعمق كثيرا في مضامين و ارتدادات الأخلاق في كتابه الذي لم ينشر إلا بعد وفاته: ETHICS ترتبط الأخلاق ارتباطًا وثيقًا بالطبيعة. و بمفهوم سبينوزا الله و الطبيعة انما هما متحدان بالفعل Deus sive Natura. كما أن الخلاص في الأبدية يكمن ايضا في هذا العالم الارضي كنتيجة حتمية لهذه الفلسفة الوجودية. طبعا يتعارض طرح سبينوزا بهذا الفكر مع الديانات السماوية، و بالأخص يبتعد عن الديانة اليهودية المنتمي إليها و قد عوقب بالحرم Herem و تعرض لمحاولة اغتيال…كل هذا في القرن السابع عشر اي قبيل عصر الانوار حيث تحرر الفكر الانساني بأنظمة فلسفيةجديدة philosophical systems مثل نظام René Descartes الذي ربط الوجود بالشك الشامل و قال donc je suis Je pense أي انا افكر إذا، انا بالوجود، رابط الاثنين بشكل وثيق. بالعودة الى باروخ (اي المبارك) سبينوزا يمكن تصور الأخلاق في نهجه في إطار الوجودية المسطحة، اي دون الاتجاه التصاعدي إلى الله و الإتحاد بالطبيعه يعني الاتحاد بالله. و لكن هذا الفكر محدود بشكل كبير لان الارتقاء و التعالي يتطلب البعد الثالث و نظامه الفلسفي، انما هو ناقص.

على صعيد مختلف، مثلا في العلوم، علميا لا يمكننا تصور اي عمل بحثيي دون ثلاث ابعاد زائد واحد و هو الزمان. اننا بالحقيقة نعيش معا في بعد يسمى بالزمكان الذي ارتكز عليه عالم الفيزياء الكبير ألبرت أينشتاين Albert Einstein في نظرية النسبية. و هنا يجدر بالذكر ان عند سؤاله:

كيف ترى الله و من هو لك؟

أجاب: انا اؤمن باله سبينوزا…انه الاه متناغم مع الطبيعة، لا يتدخل بحياة كل فرد، هو لا يكافء و أيضا لا يعاقب.. لا تنس أن أينشتاين كان يهوديا و يتعاطف مع سبينوزا المضطهد الى حد ما. ولكن على عكس سبينوزا الذي لا يعتبره كثر من الفلاسفة ملحدا رغم هذا المنحى، فهنالك مفكرون ملحدون لا يرجون الخلاص إلا في العالم المادي ويجدون الأخلاق الأرضية كافية. و لكن هذه الأخلاق الأرضية انما تتحدر من قيم دينية. على سبيل المثال، بعد الثورة الفرنسية في ١٧٨٩ ابتعد الحكم عن الكنيسة و قيمها و لكن ان اعتبرنا الرموز الثلاثة القائمة عليها الجمهورية الفرنسية égalité- fraternité – liberté و أيضا شرعة حقوق الإنسان، انما هي مشتقة من تعاليم الدين المسيحي الى حد كبير..

أما في الطرف الآخر من الطيف هناك من يجدون الدين كافياً لإدارة العلاقات المجتمعية و المجتمع. انهم يحملون راية الدين ويغزون العالم باسمه. و التاريخ مليء بمثل هذه المغامرات الكارثية للإنسانية و هي ليست محصورة بدين معين بل هي شملتها جميعا عبر التاريخ للأسف الشديد. حتى في عالمنا الحديث لا يزال هناك اناس مشابهون يسلكون هكذا نهج.

الخطر يكمن عندما يكون البعض منهم وخاصة أولئك الذين يشغلون مناصبا قيادية في البلدان خاصة الذين يشكل الانتماء الديني قضية رئيسة لهم بالشكل، هم ليسوا ذوي إيمان بالحق لأن الدين ليس لهم سوى وسيلة للاستقواء على، و رفض، و اخيرا إلغاء الآخر ….

أولئك الذين يعتقدون أنه من خلال كونهم منتمين الى دين معين يسمحون لأنفسهم بعدم التصرف بشكل أخلاقي تجاه مواطنيهم و اخوتهم بالإنسانية هم اناس بلا أخلاق بالحق.

الدين هو امر شخصي لا يجوز أن يستعمل كوسيلة للسيطرة و الاستقواء و حتى لإلغاء الآخر! اما الأخلاق فهي العامل الجامع الوحيد بين الناس على اختلافاتهم المذهبية.

اذا أردنا بناء وطنا نتعايش فيه معا علينا اعتماد الأخلاق اولا وأخيرا كدستور.

البروفسور سمير مطر، باحث في العلوم ورئيس الجامعة اللبنانية الالمانية

الدكتور سمير مطر (لبناني وفرنسي) حاصل على درجتي دكتوراه في الكيمياء والعلوم الفيزيائية (المواد والعلوم الجزيئية: التجربة والنظرية) من جامعة بوردو (فرنسا) حيث قام بالجزء الرئيسي من مسيرته الأكاديمية مع نشر عدة كتب تعليمية للطلاب الجامعيين والخريجين في الفيزياء والكيمياء والعلوم الحاسوبية وأكثر من 331 ورقة علمية (اكثر من 10 ٪ استشهادات ( 40 مرة) ونصفها استشهدات 10 مرات، ما مجموعه 5300 استشهاد بمتوسط 370 استشهاد ضمن بحث علمي في السنة) ؛ حامل عدة براءات اختراع وله 80محاضرة في المؤتمرات العلمية حول العالم. على مدى 12 عامًا متتاليا" ، تم تعيين مطر مديراً لمركز "الحوسبة العلمية المكثفة" من قبل أربعة رؤساء متتاليين من جامعة بوردو ، بمشاركة حوالي 100 باحث من جميع المجالات. حصل على الامتياز كما "Palmes Academiques" من قبل الحكومة الفرنسية في عام 2016 لمساهمته الكبيرة في مجال التعليم العالي. وفي لبنان ، حصل في عام 2018 على "جائزة التميز المهني في البحث العلمي" من الجمعية اللبنانية لتقدم العلوم. كخبير زائر ، تم الترحيب بالدكتور سمير مطر في جامعات أوروبا (النمسا ، ألمانيا ، السويد ، المملكة المتحدة) والأمريكتان (كندا ، الولايات المتحدة الأمريكية) حيث ألقى محاضرات وأجرى أبحاثا" علميًة بالتعاون مع علماء مشهورين ، بعضهم من الحائزين على جائزة نوبل. يشغل مطر حاليا" منصب رئاسة الجامعة اللبنانية الألمانية.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. The debate about the relation between religion and science is never ending…

    Science can only ask questions that lead to a hypothesis that is falsifiable (hypothesis must be able to be rejected). Not all questions are appropriate to be asked in science. For instance the existence of God. Since one can not negate the existence of God, hence it is not a question to be addressed by science.

    Unfortunately, many theologians try to address scientific questions, when they have no clue about the process of scientific inquiry. The theory of evolution is one example. Many theologians try to explain natural phenomena based on religious texts, and by far, this is wrong in my opinion. This also applies when scientists try to address religious topics.

    Unfortunately, when talking about religions, especially in the west, they ignore the religions of older civilizations (Sumerians, Assyrians, Egyptians,…..Hammurabi, Gilgamesh …)

    Civilization does not start and end with the Greeks, although they had great contributions to advance human thought.

    I liked very much your keen observation about the icon and the division of the Ten Commandments into one plate with three commandments, and the other with seven commandments.

    I am fascinated by the writings of Spinoza, and your comments about his philosophy, God and nature enriched your discussion. I don’t think that Spinoza is essentially an atheist. the The inclusion of the thoughts of The great philosopher Friedrich Nietzsche would have been a great addition here.

    The teachings of Christ transcend science “love your enemies” is counterintuitive, but surreal. The summation of the Ten Commandments into the one concept of love is very powerful in your discussion.

    Overall, I very much enjoyed reading your article (as always) and I very strongly agree with your final conclusion. Religion should not be used a vehicle to oppress other peoples, this is not ethical. Ethics is at the heart of religious thought
    Thank you very much to you.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى