في الطريق الى الفاصل الزمني الصفري: نهاية زمن البشرية؟ | كتب البروفسور سمير مطر
مرة جديدة يصدم البروفسور مطر عقولنا بتطبيق نتائج ومناهج العلوم البحتة على الحياة الانسانية ومستقبل الانسان. ان المعادلة التي يرسيها ادناه تذهب الى تخيل زمن قريب جداً تتعادل فيه سرعة التطور مع سرعة الوقت على طريق تجاوزها. في تلك اللحظة يصبح الانسان اعجز عن فهم التطور والتأقلم مع بيئاته لأن هذين الفهم والتأقلم هما متغيران في الوقت. فعن اي مستقبل للبشرية نتحدث؟ يشير منحنى المنعطفات التطورية الاساسية في تاريخنا الى اقترابنا من نقطة التطور العامودي الصرف اي التطور الذي لا يقيم وزناً للزمن حتى باصغر جزئياته، اليس لذلك مفعول الجرعة الزائدة التي تقتل صاحبها؟ (د. بيار الخوري)
في عالم الأحياء ، العامل الأساسي الذي يميز الإنسان عن الحيوان هو الزمن. الحيوان هو الأقرب للإنسان على مستوى المحدودية الزمنية ، لكن ليس على مستوى المحدودية الذهنية! بالنسبة له، الوقت ليس عاملا يؤثر على تجربته الحياتية، فهو ليس على دراية بالوقت الذي يتدفق و يتكشف، لأنه مرتبط بوقت مثبت في اللحظة الحالية. إنه بهذا المفهوم لا زمني، غير قابل للتغيير ، دون أي وعي بالوجود. على العكس، أما نحن البشر فلدينا ادراك حقيقي بالوقت و الزمن الذي يمر و يفر… على الطريق الى الفاصل الزمني الصفري وربما نهاية زمن البشرية.
فليسمح لي بتوضيح مأخوذ من فيزياء الكمquantum physics التي تسود العالم على المقياس الصغير للغاية مثل حجم الذرة atom.
في هذا المضمار توفر معادلة شرودنجر الموجيةSchroedinger wave equation حلاً من مستويين حسب ما اذا اعتمدنا الوقت ام لا. بدون الأخذ بعين الاعتبار الوقت (t) ، يكون تمثيل العالم ثابتًا ، على مثال الموجات المسماة standing waves كذبذبات أوتار العود مثلا؛ هنا لا تطور للطاقة لانها على فترة زمنية صفر.
# في المنحى الآخر اي مع اعتبار الزمنلدينا موجات مسمات traveling waves تمكن انتقال الطاقة و تتطورها على مدى فترة من الزمن. إذن هنالك حالتان مختلفتان تمامًا يمكن الاستمداد منهما لفهم الوعي البشري خلافا عن’ الوعي’ الحيواني.
في الواقع، يمكننا أن نقترح أن علاقتنا الديناميكية بالوقت تسمح لنا بأن نكون بشرًا مبدعين ومبتكرين. فالطاقة إذن مصدر العقل ، أو بالأحرى فلنقول ان موجات عقلنا هي طاقة بحتة!
لذلك متغيرة variable الزمن أساسية عند البشر. الوقت الذي مضى منذ العصور القديمة ، والذي لدينا عنه سجلا مكتوبا حتى يومنا هذا ، انما هو منقوش في “التورخة” historicity التي تعرّف عادة بأنها “صفة ما يشهد عليه التاريخ”. في إطار هذا التعريف، نحن ورثة فكر كل من سبقونا لأنه محفور و موثق ومتاح للأجيال الصاعدة. هذا ينطبق على الفكر الفلسفي وكذلك على التطورات العلمية. فيما يتعلق بالأخيرة من المثير للاهتمام أن “قاعدة البيانات” أو “قاعدة البيانات الحديثة” data base cloud الموجودة في “مكتبة الإنسانية” ان صح التعبير، لم تعد محدودة بآلاف السنين الماضية فقط لأنه بفضل التقدم العلمي وتأريخ الأشياء بالنشاط الإشعاعي للكربون ١٤C، لدينا توثيق واقعي وبالتالي تاريخ تكميلي ، غير مكتوب ، متاح لنا جكيعا وبالتالي من شأنه أن يزيد إمكاناتنا للتحليل وفهم أسلافنا و من ثم متابعة اعمالهم. كنتيجة لذلك يذهب أفق فكرنا إلى الأبعد ويكون مجال فهمنا أوسع ، لا سيما مقابل ال3000 سنة قبل “عصرنا المكتوب” ، حين ظهرت الكتابة إيذانا بنهاية عصور ما قبل التاريخ.
اضافة لذلك ، في العام 2017 ، كشفت أعمال تنقيب في المغرب قام بها فريق دولي، عن حفريات سلف الإنسان العاقلhomo- sapiens للإنسان الحديث ، عمره 000 300 ألف سنة!! تسمح لنا هذه الدراسة ، التي نُشرت في المجلة العلمية Nature (المجلد 546 ، الصفحة 293 2017) ، بتأريخ أصل جنسنا البشري إلى الوراء بكثير مقارنةً بالمعرفة الحاليًة مثل دراسة التحولات الجينية مع التاريخ وصولا الى الحاضر.
ومع ذلك ، من المثير للملاحظة أن التغييرات المهمة التي أحدثها الإنسان ، خاصة على مستوى الحضارات الكبرى، تعود إلى حوالي ال 3000 سنة قبل الميلاد، عندما نشأت الكتابة المسمارية مع الحضارة السومرية في بلاد ما بين النهرين.
فلنستعرض سريعا الأحداث المتتالية هنا مع بعض التواريخ المفصلية:
# تميز التاريخ فيما بعد حضارات ما بين النهرين بسقوط الإمبراطورية الرومانية في عام 476 م إيذانا بنهاية العصور القديمة.
# في العام 1492 ، كان اكتشاف كريستوفر كولومبوس لأمريكا بمثابة نهاية العصور الوسطى.
# في عام 1789 ، أحدثت الثورة الفرنسية تغييرات مجتمعية من خلال وضع الإنسان في مركز المفهوم الجديد للمجتمع. بالمناسبة ، بينما كان الفرنسيون مشغولين بالتغييرات العظيمة للثورة الفرنسية ، ولا سيما النزعة الإنسانية التي بدأها “إعلان حقوق الإنسان والمواطن في 26 أغسطس 1789” ، كان (الجيران) الإنجليز في خضم ديناميكية الثورة الصناعية الأولى التي بدأت في عام 1769 ، وهو العام الذي تميز باختراع جيمس واط Watt للمحرك البخاري الحديث والتعدين الهائل للفحم.
#في عام 1880 ، بعد ما يقارب القرن من الزمان ، بدأت الثورة الصناعية الثانية باختراع توماس إديسون Edison للمصباح الكهربائي الذي أتاح الإضاءة للجميع جاعلا مصابيح الكيروسين غير صالحة للاستخدام. يلاحظ هنا أن التدمير يواجهه الابتكار الخلاق.
#ثم بعد ما يقارب 100 عام، اي القرن ، بدأت الثورة الصناعية الثالثة في عام 1990 باختراع وتطبيق WEB (الويب) الذي سمح بانفتاح غير مسبوق للاتصالات على نطاق عالمي ، بشكل فوري وبدون حدود. هذا الاختراع عظيم بسبب تداعياته على المجتمع.
من حيث التكنولوجيا ، يصبح الأمر أكثر روعة. إنه تطوير كائنات اصطناعية بمقياس النانومتر nanomètre ، أي ألف جزء من المليون من المتر في العصر الجديد ل”تقنية النانو” Nanotechnologie ، مع تقنيات حفظ المعلومات التي توفرها إمكانيات كبيرة في النانوية ، التأثيرات على مجال واسع من التطبيقات الحديثة في الطب ، مع الغرسات النشطة بيولوجيًا ، و الأدوات الجديدة للتشخيص الطبي ، والعلاج المستهدف للخلايا المريضة…من ناحية أخرى على صعيد البيئة ،هناك الطاقة المتجددة…
يلاحظ أن حقبة 100 عام أو ما يعادل القرن تباعد بين كل من الثورات الصناعية من خلال التدمير الخلاق الذي بنى عليه العالم الاجتماعي جوزف شومبيتر Joseph_Schumpeter (1883-1950) لفهم التغييرات الجذرية الحاصلة. ولكن ليس بعد تلك الحقبة، فبعد عام 1990 تتابعت التغييرات بوتيرة أكبر. ربما رأى القارئ أن التغييرات مع مرور الوقت بعيدة كل البعد عن الخطية linearity و لا تتموضع ضمن أية نظرية:
بدءًا من الصفر كبداية للزمن المسيحي و تبعا لما قلناه نرسم خارطة رقمية تحمل التواريخ الآنف ذكرها، بدأت في 300000- قبل المسيح، مرورا ب 3000- (الكتابة المسمارية) ثم سنة +476 نهاية الإمبراطورية الرومانية، تليها سنوات اكثر تقاربا .. + 1492. + 1769. + 1880. + 1990 ..إلى +2021 الآن.
اذن بعيدًا عن أي مخطط أو نمط فإن التغييرات تنمو بشكل متسارع مع مرور الوقت. اذ خلال ثلاثة قرون وخاصة في العقود الأربعة الماضية ، كانت التغييرات التي أحدثها الإنسان تتموضع بشكل صوري ضمن آخر 5 دقائق من ساعة واحدة من الوقت تمثل تاريخ البشرية المكتوب وغير المكتوب منذ الإنسان العاقل (صورة – رسم بياني مرفق). تتوافق هذه الدقائق الخمس الأخيرة في النهاية مع عصر الأنثروبوسينAnthropocene اي زمن البشرية باعتباره حقبة أقصر بغير قياس من العصور الجيولوجية الأربعة (مثل العصر الأيوسينيEocene) لكوكب الأرض ، الذي يبلغ عمره ٤،٥ مليار سنة.
لسوء الحظ ، عندما يتعلق الأمر بالأنثروبوسين ، فإننا نتحدث عنه بعبارات سلبية ، متهمين الإنسان بإلحاق الكثير من الضرر ببيئته وكوكبه في مثل هذا الوقت القصير. نذكر هنا التغير المناخي نتيجة الاحتباس الحراري من الاستعمال الكثيف للاحفوريات كالفحم و البترول لإنتاج الطاقة و ثاني أكسيد الكربون CO2 الحاصل.
إن تحذيرات علماء الاجتماع والفلاسفة مثل برنارد ستيجلر Bernard Stiegler ، الذي توفي مؤخرًا ، عديدة فيما يتعلق بالانقراض البشري الذي برمجه إلى حد بعيد الإنسان بنفسه! علما بأن انفجار احد البراكين أو سقوط نيزك بحجم القمر قد ينهي كل شيء دون الحاجة ليد البشر، فلنضع الانسان أمام المشهد الأخير و نتساءل:
* مع التنبيه بالسهم الأحمر في الصورة المرفقة الذي يشهد على هذا .. هل هي نهاية الأنثروبوسين؟ حيث الزمان في هذا السياق نسبيًا ، اي حيث تتناسب كثافة التغييرات عكسًا مع العامل الزمني.
* هل نصل بعد ذلك إلى الفاصل الزمني الصفري؟
* هل هذا هو وقت الصفر على الإنترنت حيث يتم تبادل المعلومات بشكل فوري؟
* هل وقت الآلة صفر 0؟ خاصة مع أجيال الحاسوبية الأسرع والأسرع مثل تلك التي تعتمد علىQbits (Quantum bits)
* وإذا لم يتم فعل شيء لعلاج فشل الإنسان في إنقاذ زمنه اي الأنثروبوسين قبل نهاية ساعتنا التوضيحية ، فماذا سيحدث بعد ذلك؟
الكثير من الأسئلة المفتوحة و المتاحة للباحثين من جميع الاختصاصات و أيضا بشكل أخص لأهل السياسة و المال حيث مركز القرار. ولكن حسب ما نرى، الاجوبة و المشاريع الانقاذية ضئيلة.
أخيرًا ، أحب أن أرى مهمة الباحث العلمي و الاجتماعي كمقياس للتحديات التي يطرحها المجتمع وتطوره. ان في البحث العلمي خلاص.
اقرأ أيضًا: