اجتماعالاحدث

العقل الإيماني والعقل العلمي… | بقلم د. أحمد عياش

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

 

لا مسألة أخطر وأصعب وأثقل وأتعس على فكر الإنسان من فكرة أن ليس هناك من حياة أو من عقاب أو من مكافأة بعد الموت.

لا، لا يستطيع عقلًا ان يناقش الفكرة لأنها فكرة سامة وقاتلة وشديدة العذاب لنفس لطالما حوّلت فشلها وإخفاقاتها وهزائمها إلى حسنات على شاكلة دفتر توفير في مصرف الإيمان والدين للاستفادة منه بعد الموت أمام الإله.

لا، من الطبيعي للإنسان أن يخاف الكفر أو أن يشعر أنه تقاعس للحظة عن واجب الدفاع عن المقدس كي لا تصيبه مصيبة او كي لا تُحسب عليه من السيئات…
ردّات فعل طبيعية لأي يكن، خسر رهاناته على البشر وعلى زوجته وعلى أولاده وعلى أصدقائه أن تكون عظيمة ومقلقة ومفرطة بالعدوانية عند شعوره أن سوءًا طال مقدسه.
المقدس صمام أمان لنفس متهالكة.
لم يبقَ له غير المقدس كآخر رهان له في الحياة ليستمد منه القوة لتحمّل كل محيطه المزعج والمتأفف منه…
وليتحمل سوء طالعه وويلات الاقدار.

هكذا ربح رجال الدين أهمّ وأخطر معركة في تاريخ الإنسان.
جاءت الفلسفة المادية لتقول للإنسان، العلوم تجيبك على كل أسئلتك والعقل يداوي المك ومعاناتك وأن الحقيقة العلمية هي النجاة والخلاص.
وقف شيوعيو السوفيات عند الخط الفاصل بين الموت والحياة ليقولوا للناس ان من بعبر الخط يتحول لعدم.
خاف السوفيات وارتعبوا وعندما انهار الاتحاد السوفياتي عاد اغلبهم للكنيسة وللمسجد ليرتاحوا.
اما رجال الدين فقد كانوا أذكى بكثير من كل علماء الذرة والهندسة والطب والفلسفة والفيزياء.

قالوا للإنسان أن ما يتمناه موجود وممكن في الآخرة شرط الالتزام بالقواعد وبالضوابط الشرعية و وقفوا عند الحد الفاصل بين الحياة والموت، يوعظون وينهون الناس، يدّعون انهم يملكون الحقيقة كاملة ، يعرفون من سيدخل الجنة ومن سيحترق بالنار…

الناس لا تهمها الحقائق العلمية لأنها لا تشفي غليل قلب عانى ما عاناه من الظلم والحظ المتعثر وسوء التدبير ، لا يحتمل عقل كهذا العقل أن يقتنع أنه خسر الدنيا والاخرة وصار ترابًا و دودًا وبأن الآخر الذي أتعس حياته ويظنّه مجرمًا او فاسدًا أو منافقًا، فاز بالدنيا ولم يمسّه أي عقاب في الآخرة لعدم وجود إله…
النار في الاخرة هي عقاب من لم نستطِع الثأر منهم.

كل عقل يقنع صاحبه أنه الأفضل وأن خيره دافق على غيره وإن اضطراره أحيانًا لارتكاب المعاصي كانت في الحقيقة مناورات ناجحة لتثبيت الإيمان لخدمة النفس أولًا ولخدمة باقي الناس…
حتى عقل القاتل يبرر لنفسه الجريمة بمئة سبب وسبب وإلا فالانتحار نتيجة طبيعية لعدم تحمل الشعور بالذنب أو الرضى بالعقاب الدنيوي لوضع حد للندم القاتل كجلاد محترف في التعذيب…

أما جريمة ضد الآخر أو جريمة ضد الذات، لا طريق آخرى للعدوانية.
الإنسان لا تهمه الحقائق العلمية إن ناقضت مشاعر الاطمئنان والاستقرار والأمان.
الأمن النفسي للإنسان سرّ حركته وافعاله ونواياه وتفكيره…
رجال الدين متمرسون ومحترفون في خبايا الأمن النفسي والازمات الوجودية.

لا يلمسن أحدًا منكم الأمن النفسي لأي كان لأنه سيعتبر ذلك استفزازًا وإعلان حرب وجودية…
لا العقل العلمي قادر ان يحسم وجود الحياة بعد الموت ولا العقل الإيماني قادر أن يثبت بالملموس المادي وجود جهنم وجنة واله…
عقلان أتعبا الإنسان وأنهكاه ولم ينجحا في الإجابة على أسئلة قامت الفلسفة من أجلهم.
وماذا بعد الموت؟
ماذا نفعل هنا؟
ما مغزى لعبة الحياة والموت؟
لماذا خلقنا الرب؟
هل يوجد إله لهذا الكون؟

الدكتور أحمد عياش، باحث في علم النفس السياسي والديني

الدكتور احمد عياش، طبيب نفسي وكاتب. صدر له كتاب الانتحار الصادر عن دار الفارابي (2003)، وكتاب الاعاقة الخامسة: الاعاقة النفسية الاجتماعية الصادر عن مركز الخيام لتأهيل ضحايا التعذيب (2008)، بالاضافة لكتاب الشر والجريمة عن دار الكتاب اللبناني للطباعة والنشر والتوزيع (2013)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى