نحيا جميعًا في عصر المعلومات، والتي تنتقل وتتدفق إلينا من كل حدب وصوب عبر وسائل شتى، مما يُحدث بلا شك تأثيرا جليا على مستقبل تلك المعلومات. وبالنسبة لأجهزة الحاسوب، فإن المعلومات لا تعدو أن تكون سوى استجابة رقمية نتيجة توظيف مجموعة من الخوارزميات. أما بالنسبة للبشر، فإنها نوع من الاستجابات العاطفية والسلوكية الناتجة عن ردود فعل عقلية.
لقد عاش سكان العالم عصورا طويلة من الظلمات دون أدنى توافر للمعلومات، وذلك خلال فترات ما قبل وأثناء الثورة الصناعية، حيث كانت الحكومات والكنيسة تتحكم في نشر المعلومات بطريقة انتقائية بهدف السيطرة على الرأي العام. أما في عصر ما بعد الثورة الصناعية (تسعينات القرن الماضي) أصبحت المعلومات في متناول الجميع من خلال وسائل الإعلام الجماهيرية والشبكات الاجتماعية، حيث صار الكون بأكمله فضاء معلوماتيا مفتوحا ومتاحا للجميع لدرجة أن الوصول إلى الأخبار أصبح أمرا يسيرا للغاية عبر ما نقتنيه جميعا من هواتف ذكية والتي أتاحت لنا العديد من المنصات الاجتماعية للتعبير عن آرائنا السياسية ومناقشة القضايا الاجتماعية، مثل فيسبوك وانستجرام وتويتر ولينكدإن وغيرها، لذا يمكن القول بأن العالم يحيا حاليا في حقبة جديدة من عصر المعلومات والتي أصبحت فيها المقاييس الإنسانية تتدخل في كل شأن، فالجميع بإمكانهم مناقشة مختلف القضايا وإجراء التقييمات وإصدار الأحكام ولكن دون أي سيطرة.
إن المعلومات التي يتم تلقيها ومشاركتها بواسطة مختلف الأفراد حول العالم تؤدي إلى نشوب خلافات في الرأي، وهنا يمكن النظر إلى المعلومات باعتبارها طاقة معرفية تحمل كافة أنواع المشاعر والتي يمكن أن تمثل قوة دافعة للمجتمع، إنها طاقة ناجمة عن الملايين من مستخدمي شبكة الانترنت والذين يستقبلون المعلومات ثم يشكلون الآراء، وبالتالي فإن تلك الطاقة التي ولدتها المعلومات جعلت من الأفراد كيانات إيجابية فاعلة في المجتمع قادرة على المشاركة والتصويت والانتقاء ما بين الكثير من الخيارات المطروحة، ومن هنا نشأ مصطلح “المؤثرين” أو influencers والذين يلعبون دورا ملحوظا في التأثير على الجوانب الاقتصادية والاجتماعية. ومن ناحية أخرى فإن قوة المعلومات قد أحدثت العديد من التغييرات على الأصعدة السياسية أيضا وتغيير أنظمة الحكم كما هو الحال مؤخرا بالنسبة لأحداث الانتفاضة اللبنانية.
للمزيد حول هذه النقطة اقرأ: http://box5852.temp.domains/~iepcalmy/strategicfile/%d8%a5%d9%82%d8%aa%d8%b5%d8%a7%d8%af/%d8%a7%d9%84%d8%ab%d9%88%d8%b1%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%84%d8%a8%d9%86%d8%a7%d9%86%d9%8a%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%b6%d9%88%d8%a1-%d9%86%d8%b8%d8%b1%d9%8a%d8%a9-%d8%ac%d9%88%d8%b2%d9%8a%d9%81-%d8%b4%d9%88/
ولمزيد من الفهم حول تلك الآلية، فإننا نحتاج إلى تحديد العلاقة بين كمية المعلومات المتداولة، وعدد الأفراد المستقبلين والمشاركين لها. وقد قام المهندس الأمريكي روبرت ميتكلفMetcalf في الثمانينات من القرن الماضي بتوصيف تلك العلاقة من خلال منح الرمز “m” للطرف الأول من العلاقة “كمية المعلومات” والرمز “n” للطرف الثاني “الأفراد المستقبلين”، وقد ابتكر ميتاكلف قانونا سمي باسمه لاحقا لتحديد ملامح تلك العلاقة. حيث لاحظ أن شبكة الاتصالات (التي كانت تشمل في ذالك الوقت أجهزة الفاكس والتليفون الأرضي) تتناسبproportional مع عدد المستخدمين لتلك الشبكة وبالتالي فإن كمية المعلومات m لشبكة الاتصالات تتناسب مع مربع عدد المستخدمين المتصلين بالنظام n2وبالتالي المعادلة للطاقة E(information)
E(information) = mn2
وخلال السنوات الأخيرة أكد ميتكلف نفسه على تلك العلاقة أيضا بالنسبة للشبكات الاجتماعية مثل فيسبوك. وفي عام 2018 طُبق قانون ميتكلف على العملة المشفرة “بيتكوين”Bitcoin والذي ساهم على نحو كبير من الدقة في تحديد قيمة تلك العملة على المدى الطويل.
وفي السياق ذاته، فبالنظر إلى المعلومات باعتبارها قوة مؤثرة في المحيط الاجتماعي من خلال تناسبها مع عدد المستقبلين لها، فإنه يمكن تفسير تلك العلاقة في ضوء النظرية النسبية للفيزيائي الشهير ألبرت أينشتاين (1879-1955) والذي ركز على تحديد العلاقة بين حجم الطاقة المتولدة عن الانشطار النووي E(nuclear.)، والسرعة التربيعية للضوءمع العلم أنc(light)=300.000km/s وبالتالي المعادلة:
E(nuclear) = mc2
وقد اُعتبر التطبيق العملي لتلك النظرية بمثابة بداية لعصر الفيزياء النووية nuclear physics الذي بدأ في عام 1945 في سياق الأحداث المأساوية التي صاحبت نهاية الحرب العالمية الثانية حينما أُسقطت القنابل النووية المدمرة على مدينتي نجازاكي وهيروشيما في اليابان مُخلفة عددا هائلا من الضحايا. ثم التطبيقات المدنية لإنتاج الكهرباء
وفي ضوء الطرح السابق للمعلومات، ، فإنه كلما زاد عدد مستخدمي مجموعة معينة من المعلومات، كلما زادت الطاقة المعلوماتية المنتجة. وعلى الرغم من أننا لا ندعي إعطاء تفاصيل تحليلية لمعادلة E(information)، إلا أننا نكتفي بتسليط الضوء على تداعياتها ، خاصة في ظل التوقع بوجود كمية هائلة من “طاقة المعلومات” في مجتمع الوقت الحاضر والتي لعبت تقنيات الاتصالات الحديثة دورا هاما في نشرها وتداولها. ومن ثم أصبحت المعلومات عاملا أساسيا من عوامل التغيير في المجتمع .
وترتبط الطاقة الناتجة عن المعلومات بالاستجابة العاطفية الصادرة عن الفرد في المستقبل وتتمتع تلك الطاقة بالديناميكية والحركة المستمرة مما يجعل كل فرد في المجتمع بمثابة عامل مؤثر في التحولات التي يشهدها المجتمع باستمرار أو بتعبير أدق، فإن كل فرد مسئول عن إحداث طفرات mutationsفي المجتمع. حيث تتولد تلك الطفرات بدافع من الديناميكية التشاركية المتاحة أمام الجميع والتي قد تلقي ببعض المسئولية على عاتق الأفراد في المجتمع. والطفرات المجتمعيةsocial mutations بوجه عام يمكن الاستفادة منها إذا تم ترشيدها وتوجيهها على النحو الأمثل
وبالعكس، فمن المتوقع وقوع بعض الآثار السلبية أو فوضى بالسلوك في حال انتشار العاطفة أو المشاعر الفوضوية.
وحقيقة الأمر، أن المشاعر تتولد بصورة طبيعية عندما يسهم الإنسان في نشر المعلومات ولكن قد تظل هناك حاجة أحيانا إلى السيطرة على تلك المشاعر وتوجيهها على النحو الأمثل.
وفي الحقبة التي تلت الثورة الصناعية والمعروفة بـعصر الثورة الرقميةdigital revolution أصبح الانترنت هو المصدر الأساسي للمعلومات والذي أتاح فضاء معلوماتيا مفتوحا أمام الجميع، حيث يتم معالجة البيانات في صورتها الأولية لتتحول إلى معلومات فورية يتلقاها الأفراد ومن ثم يقومون بتشكيل آرائهم واتجاهاتهم كما ذكرنا من قبل.
وغني عن القول، أن الثورة الرقمية أدت في غضون ثلاثة عقود إلى تغييرات اجتماعية كبيرة في مجتمعنا أكثر مما كانت عليه خلال 3000 عام من تاريخ البشرية.
وعلى الرغم من التصنيف التقني المتعارف عليه للإنترنت كشبكة معلوماتية informatics، يجب علينا إثراء هذا التعريف ضمن بُعد اجتماعي من خلال تعريفه على أنه „شبكة معلومات“information بامتياز. هذا لأن المعلومات تثبت نفسها في الوقت الحاضر باعتبارها لبنة أساسية في مجتمعنا حيث أصبحت المعرفة أكثر شيوعًا ، ولم تعد محدودة على النخبة فقط.
إلا أن الهدف النبيل الذي نشأت من أجله الانترنت باعتبارها منصة مفتوحة تتيح مشاركة الآراء وتوفير المعلومات تشوبه بعض العيوب:
1- نجحت النخبة الاقتصادية والطبقة السياسية في استغلال الانترنت من أجل تحقيق أغراض مادية بحتة في ظل عالم قائم على مبدأ العولمة والربح السريع مما أدي إلى إفراز مفهوم جديد للاقتصاد والذي يمكن اعتباره بمثابة طفرة متمثلة في الرباعي القوي
(the GAFA’s Acronym of Google, Apple, Facebook, and Amazon) والذين يمتلكون قوة مالية تتخطى الإمكانات المالية للدول نفسها وذلك لأنهم يعملون في فضاء افتراضي دون عنوان أو مقر ثابت ودون قيود ودون ضرائب.
2- قد يتخلل الكم الهائل من المعلومات المتاح عبر شبكة الانترنت E(info.)=mn2 ، الكثير والكثير من المعلومات المغلوطة والبيانات الزائفة وذلك لأن كل شخص في العالم بإمكانه نشر ما يشاء من معلومات والإفصاح عن آرائه الشخصية، مما يجعل عملية انتقاء المعلومات أمرا شديد الصعوبة بالنسبة لغير المتخصصين. وينطبق الأمر نفسه بالنسبة لما يعايشه العالم حاليا من حالة فزع عام بسبب تفشي وباء كورونا القاتل وتسليط الأضواء عليه بصورة مكثفة من قبل الإعلام وتناول الأفراد العاديين للأخبار عبر المنصات الاجتماعية، وذلك رغم أن فيروس الانفلونزا العادية يقتل الآلاف سنويا حول العالم – نحو 60 ألف سنويا من المسنين وضعاف المناعة وفقا لتقرير منظمة الصحة العالميةWHO- إلا أنه لم يحظى بنفس الزخم .
3- أثبتت التجارب وجود حالة من انعدام الثقة وفقدان الهوية وذلك لأن هناك افتقار إلى وجود نظام ثقافي وتعليمي شامل حيث أحجم معظم الناس عن المشاركة في الأحداث الاقتصادية والسياسية، الأمر الذي تمثل في انخفاض معدلات المشاركة في استطلاعات الرأي في بعض البلدان الغربية ودول الشرق الأوسط، مثلما ما حدث في الانتخابات التشريعية الإيرانية الأخيرة التي شهدت معدلات مشاركة منخفضة بشكل ملحوظ.
لقد تحدثنا سالفا عن الجانب العاطفي لطاقة المعلومات، وقد قامت بعض الشركات المتخصصة في صناعة التكولوجيا بتطوير خوارزميات التصورfacial recognition algorithms والتي تهدف إلى التعرف على مشاعر العملاء، وقد تم تطبيق هذا الأمر من قبل في فيسبوك عندما ينجح عملاق التواصل الاجتماعي في التعرف إليك أنت تحديدا بين الكثيرين في صورة جماعية وذلك حينما يقوم أحد المقربين إليك بالإشارة إليك أو tag you وهناك ما هو اكثر من ذلك، حيثما يتم تحليل صورتك الشخصية من قبل بعض تطبيقات التوظيف والتي تقوم بالحكم عليك من خلال ملامح وتعبيرات الوجه، فيما يعرف بـ الحوسبة العاطفية“affective computing”:.
وأخيرا يتعين علينا طرح بعض التساؤلات الهامة:
– هل المشاعر قابلة للقياس؟
– هل كل شيئ متعلق بالمجتمعات البشرية قابل للتقييم وخاضعا لبعض المعايير؟
– هل هذا هو شكل المستقبل؟
ولا يخفى على أحد أبدا أنه في كل مرة نستخدم فيها شبكة الانترنت فإنه يتم الاحتفاظ بالبيانات الشخصية وبناء قواعد البياناتdatabases بهدف تحقيق الأغراض التالية:
– قد يكون ذلك مفيدا في بعض الأمور مثل التوأمة الرقميةdigital twin أو انترنت الأشياءinternet of objects والقائم على الترابط بين العالمين المادي والرقمي، مثل الأغراض الطبية ، حيث يتم تخزين المعلومات المتعلقة بصحتك وتحديثها بانتظام كي يتم تحذيرك في الوقت المناسب من أي مشاكل صحية محتملة. أي الوقاية في الوقت المناسب.
– ولكن على الجانب الآخر، فإن هذا الأمر يمثل انتهاكا صارخا للخصوصية وبالتالي فإن بياناتك كاملة أصبحت ملك قواعد البيانات الضخمةbig data التابعة لـ GAFAs حيث يتم بيع وتبادل وشراء ملفك الشخصي وعواطفك لجهات معينة لتحقيق أغراض متنوعة كالدعايات والانتخابات والتوظيف.
إنه لأمر مخيف حقا أن نعيش في عالم مليء بالطفرات…
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا