اجتماعالاحدث

سوسيولوجيا اللجوء : أزمة اللجوء السوري وانعكاساتها على المجتمع المُضيف اللبناني

بحث نظري وميداني حول واقع اللجوء السوري إلى لبنان آفاقه وتداعياته، " لبنان الشمالي وعكار نموذجًا " تم تمويله من: برنامج دعم الابحاث في الجامعة اللبنانية . د. جومانا كيال شحيطة د. شربل روكز ليشع |تقديــم د. مصطفى الحلوة رئيس الاتحاد الفلسفي العربي

 

مدخل: أهمية البحث الأكاديمي من راهنيّتِهِ

تنبعُ أهمية أي بحث أكاديمي من راهنيّتِهِ، بمعنى أنه يُقاربُ قضية حالَّة، وتتضاعف هذه الأهمية حين تتعدّى القضية النطاق المحلي إلى المستويين الإقليمي والعالمي.

كما تنبع أهمية أي بحث أكاديمي، من خلال بُعده الوظيفي، فيُفادُ منه، عَبْرَ الخُلاصات والنتائج التي يتمُّ الانتهاءُ إليها.

إذا كان هذان الشرطان يُشكّلان مُرتكزين أساسيين للأبحاث الأكاديمية الجادة، فهما لا يتكاملان فصولاً ما لم تكُنْ مُقاربةٌ صارمةٌ، في علميَّتِها، تبتغي وجه الموضوعية، تتوسّلُ منهجاً ملائماً، وتستند على عُدّة معرفية، تتمثَّل في آلياتِ عملٍ وتقنيات، تصبُّ في هذا المصبّ.

بهذه المواصفات الرئيسة، نجدُنا بإزاء بحث أكاديمي رصين، يندرج تحت “سوسيولوجيا اللجوء”، مُتصدّياً لأطروحة ذات خطر، بل لواحدةٍ من أكثر القضايا تعقيداً، تتصدّر جدول هموم لبنان، وهي المتجسّدة بأزمة اللجوء السوري وانعكاساتها على المجتمع اللبناني المُضيف.

إشارةٌ إلى أن هذه الأزمة لا تُقتصر على لبنان، فهي تُحاكي مثيلاتٍ لها في بعض البلدان المتاخمة لسوريا، لا سيما تركيا والأردن، فضلاً عن دول الشتات (الدياسبورا) السوري.

وإذْ تجدُ الأزمة امتداداً، على المستوى العالمي، فهي تقضُّ مضاجع الغرب الأوروبي، جرّاء تدفّق موجاتٍ عارمة إليه من السوريين الهاربين من الجحيم الذي يلفّ بلدهم ويلفحه بنيرانه، منذ عقدٍ من الزمن، ولمَّا ينتهِ!

كأننا بلبنان، الغارق في أزماتٍ تدهمه من كل فجّ عميق والواقف على شفا انهيار، لم تكفِهِ الهزّات المتتالية التي تُزلزل أركانه والاحترابات التي تعصف به بين حين وآخر، ناهيك عن التدهور الاقتصادي المريع الذي يتفاقم بوتائر مُتسارعة، فتأتي أزمة اللجوء السوري، لتزيدَه معاناة على معاناة!

ومن أسفٍ أن الدولة اللبنانية لم تعرف كيف تتلقف كرة نار اللجوء، عند تدحرجها، عبر مختلف المعابر الحدودية بين البلدين “الشقيقين”، ولم تُحسن تعاطي تداعياتها. فقد كان ارتباكٌ وتذبذبٌ في المواقف، ناجمان عن التشكيل الفسيفسائي لمكوِّنات لبنان “الطوائفية”، المحكوم بهواجس أبرزها هاجس الديموغرافيا، بحيث ترجّحت هذه المواقف بين تعاطف ذي خلفيةٍ دينية وإنسانية وبين رفضٍ لهذا الوجود السوري الطارئ، تواكبُهُ دعوةٌ لعودة اللاجئين إلى بلدهم الأم.

في البحث: لوناً معرفياً ومحتوىً ومقاربة

هذا البحث- كما أسلفنا- ينتمي إلى “سوسيولوجيا اللجوء”، وهي فرعٌ انبثق حديثاً عن السوسيولوجيا العامة. وقد ظهر، مطلع القرن الماضي، مع مدرسة شيكاغو، وليتطوّر في أوروبا، بدءاً من السبعينيات. هذا اللون السوسيولوجي، ينكبُّ على دراسة أثر وفود المهاجرين وانعكاسات ذلك على المجتمعات المضيفة. كما يتناول مجموعة من المشاكل التي يُخلِّفُها عدم الاندماج، بناءً على براديغمات وأنساق إيديولوجية للدول المستفيدة والمستهلكة للهجرات، ولهذه المجموعات البشرية.

إشارةٌ إلى أن موضوع اللجوء، بصرف النظر عن أشكاله، هو من أكثر المصطلحات رواجاً في العصر الحديث، إذْ يُجسِّد أزمة الإنسان المعاصر، بل إحدى أزمات البشرية المعاصرة.

عن مُحتوى البحث، فإلى المقدمة، ثمة قسمان، أولهما نظري، يُؤسِّسُ للدراسة الميدانية، جاء بعنوان:” سوسيولوجيا اللجوء/الأطر المفاهيمية والفاعلون في قضايا اللجوء وتجارب وأُطر الحماية”، ولتندرج تحت هذا القسم ثلاثة فصول:”سوسيولوجيا اللجوء/ المفاهيم والمقاربات، العوامل والتداعيات” (فصل أول)، “الفاعلون الدوليون والأطر القانونية لحماية اللاجئين في المجتمعات المضيفة”(فصل ثان)، “تجارب المجتمعات المستضيفة الدولية واللبنانية في مجال حماية اللاجئين”(فصل ثالث). أما القسم الثاني، الذي جاء بعنوان: “نتائج الدراسات الميدانية/ واقع المجتمعات المضيفة اللبنانية في ظل أزمة اللجوء”، فقد ضم ثلاثة فصول أيضاً، هي على التوالي: “خصائص العينة المدروسة وواقع المجتمعات المضيفة” (فصل رابع)، “تقييم البرامج والتدخلات لمساعدة اللاجئين والمجتمعات المضيفة” (فصل خامس)، ” وقع أزمة اللجوء على المجتمعات المضيفة وتأثيرها وتأثراتها” (فصل سادس).

يتحصل من نظرة فاحصة إلى عناوين هذه الفصول- وغالباً ما كانت العناوين تشي بالمضامين- أن واضعي البحث (كيّال وليشع) يُحاصران أطروحتهما من جهات مُتعددة، بما يُعزّز من “دسامة” المحتوى، كما يُعزّز من المنحى الأكاديمي الذي ينتهجان، في مقاربتهما هذه الأطروحة.

… وإذْ نعبُرُ معهما إلى إشكالية البحث- وهي بيتُ قصيدِهِ- إذا جاز القول، فقد ارتكزت على سبعة أسئلة/ تساؤلات، أصابت من الهدف المُبتغى مقتلاً، مُتدرّجةً من العام إلى الخاص، مما يسِمُ هذه الإشكالية ببُعدٍ منطقي لافت: 1) كيف تطورت المفاهيم والنظريات التي تعود إلى سوسيولوجيا وديموغرافيا اللجوء، والمجتمعات المضيفة،2) ما هي أبرز المعايير والإجراءات الدولية التي يجب أن تراعيها المجتمعات المضيفة؟ 3) هل الدولة اللبنانية والمجتمعات المحلية المضيفة على دراية بالتطورات التي لحقت بالمفاهيم العائدة لسوسيولوجيا اللجوء وديموغرافياها؟ 4) هل تمتلك الدولة (اللبنانية) رؤيا محدّدة حول الكيفية التي يجب أن تُدار فيها أزمة اللجوء السوري؟ 5) في حال امتلاكها، هل يتمّ إدماج المجتمعات المضيفة وسلطاتها المحلية والفاعلين فيها (لا سيما البلديات) في هذه الرؤيا؟ 6) وفي حال كانت ثمة رؤيا، نتساءل عن وقع اللجوء على مجتمعاتنا المحلية المضيفة ، وعن ماهية الجهات الفاعلة على أرض الواقع، وعن كيفية توزّع اللاجئين بين المناطق ومدى تأثيرهم على موارد المجتمعات المضيفة، 7) ما هي السياسات ، واجبة الاتباع، لتخفيف المنعكسات السلبية لأزمة اللجوء على المجتمع المضيف؟

… هذه الأسئلة، شديدة التحديد والتكثيف، التي تضمنتها إشكالية البحث، تُفضي بالضرورة إلى بلورة جُملة افتراضات (فرضيات)، في عِدادها أن المجتمعات المضيفة في لبنان الشمالي (محافظة الشمال ومحافظة عكار)، والسلطات المحلية، تؤدي دوراً محورياً في عملية الإدماج المؤقت الذي لا يتم، غالب الأحيان، ضمن أطر تنظيمية وقانونية خاضعة لمعايير عالمية وإقليمية. ناهيك عن فرضٍ آخر، فحواهُ وجود تمايزات في حجم المساعدات ونوعيتها، بين مجتمع مضيف وآخر، وبين جهات مانحة من صنف واحد.. إلى فرض يتمثّل بإمكانية وجود تباينات بين قدرات المجتمعات المضيفة على مواكبة اللاجئين ومتطلباتهم. إضافة إلى فرض حول منعكسات سلبية يُخلِّفُها اللجوء على المجتمعات المضيفة، سواءٌ لجهة المُدخلات (البنى التحتية والموارد..)، كما المُخرجات (المساعدات وما إلى ذلك..).

يتبين من خلال تطارح هذه الفرضيات العلاقة الجدلية بينها وبين ما تروح إليه الإشكالية من أسئلة، وبما يؤشِّرُ على استيفاء نقاط البحث وتعرّف مفاصله، في شقيه النظري التحليلي والتطبيقي العملاني.

… أما عن المنهج المتبع، فإن الباحثين (كيال وليشع)، ادراكاً منهما أن أزمة اللجوء السوري أزمة مركبة، تتداخل فيها عناصر شتى، من سياسية واجتماعية واقتصادية وديموغرافية و”أخلاقية”، ما استدعى اعتماد المنهج البنائي – الوظيفي، المرتكز إلى النظرية البنائية- الوظيفية، وهي أكثر الاتجاهات النظرية رواجاً في علم الاجتماع، بل تُعدُّ من المعالم الرئيسة لعلم الاجتماع الأكاديمي المعاصر. وإلى ذلك، فإن هذه النظرية تعتمد على مفهومين أساسيين في تفسير المجتمع وتحليله، هما البناء (Structure) والوظيفية (Fonction).

تدعيماً لهذا المنهج، من موقع عملاني، فقد كانت استعانةٌ بعدد من التقنيات، كتقنية التوثيق التي تعتمد على الدراسة البيبلوغرافية، وتقنية المقابلة غير الموجهة، بواسطة استمارة، احتوت ستة محاور وضمت ثمانية وستين سؤالاً. وقد توجّه الباحثان إلى “مجتمع البحث” الذي ضم عيّنة عشوائية من أعضاء مجالس بلدية، بلغ حجمها 717 مستجوباً من أصل 2267. علماً أن نطاق البحث، كما ذكرنا آنفاً، ضم محافظتي الشمال وعكار، حيث يتواجد بضعة مئات الآلاف من اللاجئين السوريين.

لقد كان تحليلٌ للبيانات المجمّعة، بحيث تم استخدام الرزمة الإحصائية للعلوم الاجتماعية الأكثر صُدقيةً في نتائجها (spss). وفي هذا المجال نذهبُ إلى القول إن لغة الأرقام، الناقلتنا من الكيف إلى الكمّ، هي لغةٌ علميةٌ بامتياز!

في الخلاصات والتوصيات

لقد افضى البحث إلى جُملة من الخلاصات شفعها الباحثان بتوصيات واقتراحات، وضعاها بعُهدة الدولة اللبنانية والمجتمعات المحلية المضيفة، كما برسم أية تجربة من تجارب اللجوء السوري بخاصة واللجوء بعامة، وليُشكِّل هذا البحث، بتشخيصه الأزمة ومن خلال النتائج التي أفضى إليها، مرجعاً لا غنى عنه في بابه!

في هذه العُجالة، نستلُّ بعضاً من الخُلاصات، في مقدمتها: عدم الاستهانة بقدرات المجتمع المضيف في تعزيز الإدماج المؤقت والاضطراري بين اللاجئين والسُكَّان المحليين- تغير النظرة إلى المجتمع المضيف ودعمه ليتمكن من مواجهة أية حالات طارئة تتصل بعملية اللجوء- مكافأة البلديات التي نجحت في تأدية مهامها بإزاء اللاجئين السوريين والعمل على تشبيكها مع بعض القطاعات الخدمية (التعليم- الصحة- المياه والصرف الصحي الخ..)، ومع الجهات الدولية المانحة.

وأما عن التوصيات (عددها 14) التي طرحها الباحثان، فهي لا تختلف، من حيث طبيعتُها واستهدافاتها عن الخلاصات التي توقفنا عند عددٍ منها.

خاتمة: دراسةٌ لها حضور في ميدان البحث الأكاديمي

إلى محتوى البحث، نظرياً وميدانياً، وعبر الإشكالية المطروحة والفرضيات المواكبة لها، إلى المنهج المعتمد المدعَّم بعدّة معرفية، عمادها تقنيات فعّالة، كان تعزيزٌ لهذا البحث بجداول مختلفة، بلغ عددها واحداً وستين، ولائحة رسوم بيانية (عددها 15) . ناهيك عن توسُّل تسعين مصدراً ومرجعاً بالعربية، يُضاف إليها ثمانية عشر بالأجنبية، جُلُّها بالإنكليزية… كل أولئك ارتقى بالبحث إلى مصاف البحث الأكاديمي الصِرف، وليغدو- كما ذكرنا- مرجعاً، تحتاجُهُ الدولة اللبنانية للإفادة منه، كما المجتمع المحلي المضيف (البلديات)، إلى الجهات الدولية المانحة، إلى المفوضية السامية للاجئين.. وإلى كل مهتم بالموضوع، ومن اساتذة وطلبة جامعيين مشتغلين بالعلوم الاجتماعية والإنسانية.

هكذا، والحال هذه، جاءنا الباحثان المرموقان والأستاذان الجامعيان (جمانا كيّال شحيطة وشربل ليشع)- وهما من تلامذتي القدامى في معهد العلوم الاجتماعية- بدراسة قيّمة ورائية، جادّة ورصينة، لم ينطقا فيها عن هوى، بل تسلّحا بالموضوعية مساراً، خدمةً للحقيقة العارية، مُقدِّمين لجامعتنا الوطنية بحثاً مُعتبراً، تتوافر فيه كل المعايير الأكاديمية المطلوبة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى